Haneen
2013-12-05, 10:32 AM
اقلام واراء اسرائيلي 434
7/9/2013
<tbody>
</tbody>
<tbody>
في هــــــذا الملف
هل هي نهاية العصر الامريكي في الشرق الاوسط؟
يوئيل جوجنسكي/تقدير استراتيجي ـ المجلد 15
التحولات الداخلية والتغييرات في الميزان الاستراتيجي الإقليمي
مارك هيلر
تقرير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 ـ 2013
مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل ابيب 2013
هناك تشابه بين نتنياهو واوباما
بقلم: سافي رخلفسكي،عن هآرتس
اللعب مع الشيطان
بقلم: ارال سيغال،عن معاريف
</tbody>
هل هي نهاية العصر الامريكي في الشرق الاوسط؟
يوئيل جوجنسكي/تقدير استراتيجي ـ المجلد 15
أعلنت الادارة الامريكية في السنين الاخيرة نيتها ان تتبنى سياسة ‘اعادة توازن’ نحو آسيا، وقد عبرت عن هذه السياسة في السنين الاخيرة طائفة من المبادرات العسكرية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية. وقد صادق الرئيس باراك اوباما ومثله موظفون كبار من الادارة منذ ذلك الحين ان الولايات المتحدة تريد ان تؤدي دورا قياديا في آسيا في السنوات القريبة.
إن التصريحات عن نقل مركز ثقل الاستراتيجية الامريكية الى شرق آسيا ليست بلا أساس، والحكمة من ورائها مفصلة حتى في الاستراتيجية الامنية للولايات المتحدة منذ كانون الثاني/يناير 2012.
إن استمرار التقدم الايراني نحو السلاح الذري، وضعف التأثير الامريكي في العراق، وصعوبة التأثير في الاحداث في سورية، وعدم الثقة بالولايات المتحدة من نظم الحكم الملكية في العالم العربي، وعلامة السؤال عن مستقبل علاقاتها بمصر، بل برودة العلاقات باسرائيل، تعتبر في نظر مراقبين صعوبة أخذت تزداد على الولايات المتحدة لتقديم أهداف سياستها في المنطقة، بل إنها عند مراقبين آخرين علامات على ان قوة من القوى العظمى هي في تراجع.
إن الدعوى الرئيسة في هذه المقالة هي ان الحاجة الى تخصيص موارد واهتمام بساحات اخرى بسبب ضرورات اقتصادية في الداخل والصعاب التي تلاقيها الولايات المتحدة في تحقيق سياستها في المنطقة، لا تشهد بالضرورة على ‘تركٍ’ للشرق الاوسط. بالعكس، ففي ضوء سلسلة شروط أساسية ومصالح امريكية مركزية، لكل واحدة منها تأثير في تقديرات الولايات المتحدة، وكل واحدة منها تتطلب متابعة دائمة واستعدادا امريكيا للتدخل وقت الحاجة، فان الولايات المتحدة يتوقع ان تستمر في أداء دور مركزي في أمن المنطقة.
توجيه النظر شرقا
قُبيل زيارة رئيس الولايات المتحدة الى استراليا في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 أعلن متحدثو الادارة الامريكية توجيه ‘المحور المركزي’ للاستراتيجية الامريكية من مراكزه السابقة نحو ‘تحديات القرن الواحد والعشرين’ في آسيا والمحيط الهادئ بحسب كلامهم. وقد بالغ وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا الذي قال ان نصيب الاسد من القوة البحرية الامريكية سيوضع في المحيط الهادئ الى نهاية العقد الحالي، بغرض معادلة قوة الصين الآخذة في الازدياد. وتطرقت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون ايضا الى حاجة الولايات المتحدة الى تخصيص موارد اقتصادية ودبلوماسية واستراتيجية وغيرها في جنوب شرق آسيا، فقالت ان العقد القادم سيكون ‘عقدا آسيويا’.
بدأت الولايات المتحدة تحويل قوات وبناء قدرات وتنمية شراكات قديمة وبناء شراكات جديدة بغرض تهدئة روع حليفاتها وصديقاتها لتُظهر أنها لن تتخلى عنها لقوة الصين الصاعدة.
إن الخشية من ان يتحول الشرق الاوسط الى أقل أهمية للأمن القومي الامريكي مصدرها زيادة انتاج الطاقة المحلية في الولايات المتحدة وكندا، والاحتمال الكبير لأن تستطيع واشنطن ‘ان تفطم نفسها’ عن تعلقها بالنفط من الشرق الاوسط؛ وفي انخفاض تهديد القاعدة في ظاهر الامر؛ وفي زعم ان توجيه الانتباه والموارد الامريكية الى مواجهة تحدٍ أكبر في آسيا أفضل.
كان الشرق الاقصى وحوض المحيط الهادئ منذ زمان بعيد مناطق للولايات المتحدة مصالح متميزة فيها. والخطوات الامريكية الحالية، التصريحية والعملية التي يشتمل عليها ‘التحول شرقا’، هي رد على زيادة قوة الصين وتهديد جاراتها.. وتريد الولايات المتحدة من جهتها ان تُثبت أنها لن تتخلى عن مكانة القوة العظمى، وعن المصالح الاقتصادية في المنطقة التي تعاملها على نحو تقليدي على أنها ‘الساحة الأمامية’، وأنها لن تُمكّن الصين من جعلها مجال تأثير لها وحدها. ويمكن ان نزعم ان الصعاب التي تلقاها الولايات المتحدة في تحقيق سياستها في الشرق الاوسط ايضا تسهم في رغبتها بذل موارد في ساحات اخرى.
إن أول زيارة للرئيس اوباما (ومعه كل القيادة العليا من الادارة الامريكية) بعد انتخابه لولاية ثانية كانت لجنوب شرق آسيا، لتحقيق مضمون ‘التحول شرقا’ الذي أعلنه وللايماء الى أن الصلات الاقتصادية والامنية بهذه المنطقة شديدة الأهمية لمستقبل الولايات المتحدة. وقد تكون هذه الزيارة رمت ايضا الى الاشارة الى أن اهتمام الادارة وأكثر انشغالها سيخصصان في السنوات الاربع القريبة لهذه المنطقة.
بين ايران والربيع العربي
سيكون صرف النظر بعيدا عن الشرق الاوسط انحرافا عن السياسة الامريكية. ويمكن ان نزعم ان هذا التغيير بدأ في واقع الامر في الولاية الاولى لادارة اوباما، وعبر عنه في تقليل الجهود للدفع قدما بمسيرة السلام الاسرائيلية الفلسطينية؛ وصعوبة وقف ايران عن امتلاك قدرة ذرية عسكرية؛ وفي العراق الذي أخذ يُثبت نفسه خارج مجال التأثير الامريكي؛ بل في البحث عن طريقة خروج سريع من افغانستان. واكتفت ادارة اوباما ايضا بـ’القيادة من الخلف’ في ليبيا وأحجمت حتى الآن عن الدفع بصورة فاعلة الى تنحية بشار الاسد في سورية، وقد يكون هذا هو الذي أفضى الى إطالة الحرب الأهلية هناك. ونتيجة هذه الاجراءات والتطورات هي ان حليفات الولايات المتحدة وعدواتها تستعد بل يتصرف بعضها وكأن الحديث هو عن الشرق الاوسط بعد الامريكي.
نصب الرئيس اوباما لنفسه هدفين رئيسين مع توليه منصبه، وهما جعل الولايات المتحدة ذات شعبية أكبر في الشرق الاوسط وسحب قواتها من هذه المنطقة من العراق أولا ومن افغانستان بعد ذلك. ووعد اوباما العالم الاسلامي في بداية ولايته الاولى بـ’بداية جديدة’، لكن المنطقة العربية في بداية ولايته الثانية (والعالم الاسلامي بعامة ايضا) بقيت مشحونة بمشاعر معادية لامريكا.
لم يكن الكثير من الجديد في سياسة الولايات المتحدة تحت حكم اوباما نحو الشرق الاوسط سوى ما كان يبدو في البدء تشددا في سياستها نحو حكومة اسرائيل، ولا سيما في قضية المستوطنات، ومحاولة خطابية في أساسها لمصالحة العالم الاسلامي. وانحصر التجديد إن وجد أصلا في محاولة انشاء اتصال بلاعبات ‘عاصيات’ ايضا كايران وسورية، والعمل قدما بوسائل متعددة الأطراف..
ما زالت الولايات المتحدة تدفع ضريبة كلامية لفكرة الدفع قدما بالديمقراطية في المنطقة التي ربما تكون الأقل ديمقراطية في العالم، لكنها حصرت عنايتها في سنوات ولاية الرئيس اوباما الاولى قبل كل شيء في محاولة اخراج قواتها من العراق اخراجا سهلا مع التخلي بقدر كبير عن التجربة الديمقراطية في هذه الدولة. وتزن الولايات المتحدة ايضا تسريع الجدول الزمني للانسحاب من افغانستان مع محاولة مضاءلة الاضرار بمصالحها، ومع الابتعاد عن محاولات تثبيت قابلية الحكم وتعزيز مؤسسات الدولة الافغانية في مواجهة تحدي طالبان. إن الاحداث في المنطقة العربية جعلت الولايات المتحدة تُعاود الالتزام (الذي أُهمل في أواخر ولاية الرئيس بوش الثانية) بالسعي الى الحرية السياسة وقدر أكبر من حقوق الانسان، بيد ان هذا الامر يبدو انه يُبعدها أكثر عن حليفاتها في المنطقة، ولا سيما الحكام الملكيين وفي المقدمة العربية السعودية الذين يخشون تغييرات عميقة في نظمهم الاجتماعية.
إن سياسة الولايات المتحدة في مسألة ‘الربيع العربي’ جعلت زعماء البلدان العربية يصبحون أكثر شكا مما كانوا في الماضي في الدعم السياسي الامريكي الذي سيُمنح لهم، اذا نشأ تهديد داخلي لحكمهم. وهذا الشك سيجعل من الصعب عليهم ان يلائموا أنفسهم في المستقبل بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وسيضطرهم الى التفكير مرتين قبل ان يكونوا مستعدين للمخاطرة من اجلها، في مواجهة ايران أولا. إن فوز باراك اوباما بفترة ولاية ثانية أثار ردودا باردة في العالم العربي، الى جانب أمل ان يحدث تغيير مهم في سياسته الخارجية، اثناء هذه الفترة، ولا سيما توقع ان تترك الولايات المتحدة موقفها السلبي وتتخذ موقفا فعالا حثيثا لمواجهة نظام الاسد في سورية ولمواجهة ايران.
إن موجة الثورات في العالم العربي سرعت مسار تهاوي التأثير الامريكي في المنطقة، لأنها أفضت الى سقوط حكام كانوا حلفاء للولايات المتحدة، لكنها سببت ايضا زعزعة لعلاقاتها بالنظم التي بقيت قائمة على حالها. ولا يضمن صعود النظم الجديدة ايضا ‘شهر عسل’ في علاقاتها بالولايات المتحدة، فرغم وقوف الرئيس اوباما مثلا من وراء الجموع التي خرجت للتظاهر في مصر على الرئيس مبارك (ولم يفعل ذلك قبل سنتين في ايران) فان علاقات الولايات المتحدة بالرئيس الجديد مرسي ليست طيبة بصورة خاصة. إن الولايات المتحدة باركت في الحقيقة الانتخابات الديمقراطية في مصر، لكنها جاءت الى الحكم بحركة ورئيس ليس من الواضح مبلغ التزامهما بقيم الديمقراطية. وإن الولايات المتحدة ووسيلتها الرئيسة للتأثير في مصر بقيت المساعدة المالية (1.7 مليار دولار كل سنة) لا تراها عدوا لكنها لا تراها حليفة ايضا كما قال الرئيس اوباما.
لا شك في أن أعداء الولايات المتحدة واصدقاءها في الشرق الاوسط سيفسرون تغيير مركزها الاستراتيجي نحو الشرق بأنه تراجع آخر عن مراكز تأثيرها في الشرق الاوسط، وبصورة محددة بأنه ضعف خيارها العسكري في مواجهة ايران وتعبير عن عدم تأييدها للنظم الموالية للغرب التي بقيت على حالها. والولايات المتحدة منتبهة لهذه المشاعر ولهذا تبادر الى خطوات تصريحية وعملية معا كي تُخفف من قلق حليفاتها. وهي تعزز من اجل ذلك وجودها العسكري في الخليج وتوقع على صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية وترسل موظفين رفيعي المستويات الى المنطقة مع ابرازها هذه الخطوات.
مركزية الشرق الاوسط
تعبر رغبة الولايات المتحدة في التخلي عن جزء من التزاماتها الدولية، عن ميل الى التمايز تضرب جذوره في التاريخ الامريكي. وقد ارتفعت في السنوات الاخيرة في الولايات المتحدة اصوات تزعم انه يجب عليها ان تحصر جهودها في علاج امراضها الداخلية، حتى على حساب مصالحها الدولية، وان تتقاسم العبء الامني مع حليفاتها وألا تشارك إلا في حروب ‘لا مناص منها’.
ما زالت توجد مسافة بعيدة بين تأكيد أكبر مما كان في الماضي لميدان المحيط الهادئ وبين ‘انفصال’ عن الشرق الاوسط. فليس الحديث عن ‘لعبة حاصلها صفر’ لأن الولايات المتحدة تستطيع ان تُظهر مشاركة في هذين الميدانين المركزيين على التوازي. والى ذلك بقي للولايات المتحدة عدة مصالح مركزية في أنحاء الشرق الاوسط لكل واحدة منها تأثير في التقديرات الامريكية وكل واحدة منها تتطلب متابعة دائمة واستعدادا امريكيا للتدخل وقت الحاجة. واليكم تفصيلها.
سوق الطاقة
تتغير خريطة الطاقة العالمية، بسبب زيادة استخراج النفط والغاز في الولايات المتحدة باستعمال تقنيات متقدمة. وقد يفضي هذا التغيير الى الاقلال من تعلقها بنفط الشرق الاوسط. وقد زاد انتاج النفط الامريكي في السنوات الاربع الاخيرة
بـ25 في المئة. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة (آي.إي.ايه) ان تسبق الولايات المتحدة روسيا والعربية السعودية وتصبح أكبر منتجة للنفط في العالم. لكن فكرة ان تكون الولايات المتحدة في يوم ما مستقلة تماما عن التعلق بنفط الشرق الاوسط ما زالت بعيدة عن التحقق. إن الولايات المتحدة تنتج الآن 60 في المئة من استهلاكها للنفط بنفسها ويتوقع ان تزود في نهاية العقد القادم كل ما تحتاج اليه من جهة الطاقة لكنها ستبقى آنذاك ايضا متعلقة بالاقتصاد العالمي. وقد يتضرر هذا ويضر بها ايضا اذا لم تستمر مصادر النفط في الشرق الاوسط في تزويد دول مثل كوريا الجنوبية واليابان والهند والصين بمطلوبها. ونقول من اجل التجسيد انه يوجد في الخليج الفارسي وحده 54.4 في المئة من اجمالي احتياطي النفط العالمي الثابت و40.5 في المئة من اجمالي كل احتياط الغاز العالمي الثابت. وعلى ذلك حتى لو لم تكن الولايات المتحدة متعلقة بالطاقة من الخليج للاستهلاك الذاتي، فانها ستبقى متعلقة باستقرار سوق الطاقة العالمية، وستضطر الى الاستمرار في الحفاظ على وصول حر للنفط من الخليج الفارسي. وإن أهمية موقف الولايات المتحدة وقوتها في هذه القضية قد ثبت حينما قررت في مطلع 2012، خلافا لموقفها من الشأن الذري الايراني، أن التشويش على حرية الملاحة في مضيق هرمز ‘خط احمر’ من وجهة نظرها. وللولايات المتحدة ايضا علاقات متميزة بدول الخليج وتاريخ نشاط في هذا الميدان يتأثر بعوامل اخرى عدا الحاجة الى الطاقة والحاجة الى الوصول الى اقتصاد الخليج ويقتضي ذلك وجودا امريكيا في المنطقة.
الانتشار الذري
حينما بدأ الرئيس اوباما ولايته كان أحد الأهداف المركزية التي وضعها لنفسه ان يدفع الى الأمام بفكرة نزع السلاح الدولي. لكن يبدو بالفعل انه يبتعد عن هذا الهدف فايران تريد ان تصبح من القوى الذرية وباكستان قوة من القوى الذرية غير مستقرة قد تنقل تقنية ذرية الى دول اخرى في المنطقة، بل قد تفقد السيطرة على مخزونها الذري. والى ذلك فان السلاح الذري في ايران قد يفضي الى توسيع الانتشار الذري في المنطقة، بحيث قد تبدأ دول اخرى العمل في مسار ذري عسكري. كانت الولايات المتحدة وما زالت أكبر قوة خارجية في المنطقة وهي الوحيدة القادرة على تأمين السلاح الذري الباكستاني ومعادلة قوة ايران ومحاولة منع توسيع الانتشار الذري. فقد بقيت صلتها بالشرق الاوسط عامة في سياق عدم انتشار السلاح الذري ضرورية اذا.
مسيرة السلام
عيّن الرئيس اوباما في ولايته الاولى مبعوثه الى الشرق الاوسط جورج ميتشل بعد أدائه اليمين الدستورية الرئاسية بـ48 ساعة فقط وذلك كي يؤكد التزام الادارة الجديدة بمسيرة السلام الاسرائيلية الفلسطينية. وعرّف اوباما هذا الشأن بأنه ‘أولوية أمنية قومية’ بالنسبة لامريكا. ومع ذلك فان جهود الولايات المتحدة للدفع قدما بمسيرة السلام في السنوات الاربع الاخيرة لم تؤت أُكلها.. وإن زعم ان التقدم نحو تسوية سياسية بين اسرائيل والفلسطينيين ستُسهل تحقيق السياسة الامريكية في العالم العربي عامة وفي مواجهة ايران خاصة، ما زال قوي الفعل في الولايات المتحدة.
دولة اسرائيل
تُعرّف علاقات الولايات المتحدة باسرائيل على نحو تقليدي بمصطلحات الواجب الاخلاقي، والقيم الحضارية والسياسية المشتركة والمصالح الاستراتيجية المشتركة. ورغم ذلك يوجد توجه ذو تأثير سلبي في العلاقات متصل بالمس بصورة القوة الاسرائيلية. فليس فقط ان اسرائيل لم تعد تُرى كنزا عند كثيرين في الولايات المتحدة، بل إن مراقبين مختلفين يعرضونها في السنوات الاخيرة على أنها عبء عليها. ورغم ذلك بقيت اسرائيل شريكة مهمة للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الارهابية والتهديدات العسكرية المتصاعدة، ويتشارك جيشا الدولتين في المعلومات الاستخبارية والنظريات القتالية، وبقيت اسرائيل حليفة مخلصة مستقرة تُسهم في الصناعة والامن الامريكيين بواسطة جهود تطوير مشتركة ايضا.
تهديد الارهاب
يُرى تهديد الارهاب للولايات المتحدة فيها أقل مما كان قبل 11 سنة. إن الانسحاب الامريكي من الشرق الاوسط لن ينهي الارهاب الجهادي المعادي لامريكا؛ بالعكس يبدو ان قوى اسلامية متطرفة تريد ان تدخل ‘الفراغ’ الذي نشأ بعد سقوط نظم الحكم العربية القديمة. وأصبحت ذراع القاعدة في اليمن تُعرف عند الولايات المتحدة بأنها أخطر ذراع بين أذرع المنظمة. والى ذلك يُثبت الهجوم على السفارة الامريكية في بنغازي في ليبيا الذي قُتل فيه سفير الولايات المتحدة في هذه الدولة، مبلغ زيادة الفترة الانتقالية بعد الثورة لتهديد القاعدة ومنه تهديدها في المغرب، زيادة على زيادة قوة أذرعها في العراق وفي سورية.
مبيعات السلاح
ما زالت الولايات المتحدة تحاول ان تقوي حليفاتها في المنطقة. وأبرز تعبير عن هذه السياسة تقريب هذه الدول من الوصول الى نظم سلاح امريكية متطورة ترمي الى مساعدتها على مواجهة تهديد ايران. إن بيع منظومات سلاح ووسائل قتالية من انتاج الولايات المتحدة طريقة لزيادة تأثيرها وهو تقدير جوهري عندها ولا سيما في ضوء الوضع الاشكالي للاقتصاد الامريكي. إن مقدار مبيعات السلاح الامريكي في السنوات الاخيرة لم يسبق له مثيل وهي مخصصة في أساسها لدول الخليج. فقد بلغت صفقات الولايات المتحدة في السنوات 2008 2011 مع العربية السعودية واتحاد الامارات 70 مليار دولار، بل ان الولايات المتحدة تخطط لتزويد بعض دول الخليج بطائرات حربية متقدمة كثيرة، مثل إف 15 إس.إي، ومنظومات دفاع جوي محكمة مثل تي.اتش.إي.إي.دي بل بسلاح موجه دقيق. لكن استعداد دول الخليج لأن تواجه ايران بصورة فعالة يتعلق بثقتها بالتزام الادارة الامريكية ان تخرج للدفاع عنها وهو التزام سيؤثر في التقدير الامريكي قبل الهجوم على ايران.
الخلاصة
إن الشرق الاوسط جبهة مركزية في مواجهة الاخطار المتوقعة للولايات المتحدة والتوجهات التي تلوح تباشيرها فيه قد تزيد في أهميته باعتباره ميدان أحداث حاسمة بالنسبة للأمن القومي الامريكي. والشيء غير الواضح هو مبلغ كون الاستراتيجية التي استعملتها الولايات المتحدة في السنوات الاربع الاخيرة والتي تتشكل اليوم، ناجعة لمواجهة هذه التحديات. وسواء أكان بعض التوجهات التي وصفت آنفا تنبع من مذهب الرئيس اوباما السياسي أو تتصل بالوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، أم كان الحديث عن رد على خيبة أمل الولايات المتحدة من الدفع قدما بسياستها في الشرق الاوسط، فان الادارة الامريكية توحي الى المنطقة أنها ليست في مقدمة اهتماماتها كما كانت في الماضي. وإن حقيقة ان التغيير المرتقب لترتيب الأولويات الامريكي سيمتد عشر سنوات تخفف شيئا ما من وخزه، لكن رغم ذلك ينبغي ألا نتجاهل ان الحديث عن تغيير حاد قد تكون له آثار في الأمد البعيد على اسرائيل ايضا التي تُعد الولايات المتحدة دعامة رئيسة لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
التحولات الداخلية والتغييرات في الميزان الاستراتيجي الإقليمي
مارك هيلر
تقرير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 ـ 2013
مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل ابيب 2013
في محاولة لشرح سلوك أعضاء الكونغرس الأمريكيين في المسائل القومية والدولية، اطلق الرئيس الأسطوري لمجلس النواب توماس ف. اونيل قوله الشهير: ‘كل السياسة محلية’. وهكذا قصد ان يقول ان للخصومات السياسية التي تحركها أساسا اعتبارات محلية، آثارا مهمة على جدول الأعمال القومي وعلى الساحة الدولية. اقوال مشابهة يمكن وصف الاضطرابات التي تهز العالم العربي منذ بداية 2011 بها، فالاضطرابات هي اساسا ظواهر داخلية في هذه الدول، وتلك التي تنطوي على المساعي لاسقاط الانظمة القائمة، تحركها أساسا الضغينة المتراكمة نتيجة للظلم المادي والمعنوي النابع من عدم كفاءة، فساد وإجرام أنظمة القمع. واستمدت الاضطرابات التشجيع من الإحساس المتزايد من القوة التي يعود مصدرها الى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والالهام الذي استمد من الانهيار السريع وغير المتوقع للطوبة الأولى في سور الطغيان تونس. والى جانب هذه، فان لنتائج الاضطرابات آثارا مهمة ايضا على الميزان الاستراتيجي، لان تغيير النظام في دولة ما كفيل بان يحدث تغييرات ذات مغزى في المنظومات السياسية، الاقليمية والدولية.
صحيح حتى منتصف 2012 سقطت أربعة أنظمة عربية فقط، وكانت آثار ذلك على الميزان الاقليمي معتدلة جدا. ومع ذلك، بسبب الهشاشة الواضحة للانظمة في اماكن عديدة اخرى في المنطقة، ولا سيما في ضوء الصعود السريع لـ ‘سياسة الهوية’ في السنوات الاخيرة، فان امكانيات التغيير الدراماتيكي الاكبر تبقى على حالها. فوفقا للشكل الذي ستحسم فيه التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجهها الانظمة في الدول العربية الاخرى، ولا سيما في سورية تحديات في بعضها تهدد وحدة قسم من هذه الدول ثمة احتمال في أن تجتاز المنظومة السياسية في الشرق الاوسط في المستقبل تغييرا جوهريا في صورتها.
تدخل خارجي في التغييرات الداخلية
في الجولة الكبيرة السابقة من الاضطرابات الداخلية في العالم العربي، التي وقعت في الخمسينيات والستينيات، أدارت القوى القومية العربية المتطرفة برئاسة جمال عبدالناصر صراعا وحشيا ضد الانظمة المحافظة، ولا سيما ضد الانظمة الملكية المؤيدة للغرب، التي تعد السعودية معقلها الاساس. ولم يؤد هذا الصراع الى مواجهة عسكرية مباشرة، بل عبر عن نفسه بقدر أكبر في طبيعة سياسة تحالفات الانظمة وانتشارها الاقليمي.
ومثل الصراع الذي دار بالتوازي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، دارت في العالم العربي ايضا المواجهة في الغالب بوسائل غير مباشرة مثل التآمر، الدعاية، المال، التجسس واستخدام عناصر مرسلة، الى جانب تدخلات عسكرية مصادفة. وفضلا عن ذلك، اتخذت الخصومات طابعا إيديولوجيا بارزا وجد تعبيره في أن الصيغة والهدف المناسبين للحكم أديا دورا، سواء كجائزة أم كأداة للمنافسة. وأفضل بحث في وصف أجواء هذه الخصومة يسمى ‘الحرب الباردة في العالم العربي’. ويشكل هذا البحث محاولة للعثور في ذاك الزمن عن صدى اقليمي لما وقع بين القوى العظمى على المستوى العالمي. مفهوم أن فكرة تصوير الشرق الاوسط في حينه كمنظومة ثنائية القطب كانت مصابة بالتبسيط الزائد، بالضبط مثل محاولة وصف العالم كله كخصومة امريكية سوفييتية مغلقة. فحدود المنطقة كانت غامضة ولم يكن اي معسكر منضبطا للغاية، واضافة الى ذلك، فان الكثير من الدول التي رأت فيها مصر والسعودية في البداية ساحات للمنافسة، رأت نفسها متساوية القيمة تماما، إن لم تكن منافسة للدولتين المتصدرتين. ومع ذلك، فقد كانت مصر والسعودية عمليا قطبين للميزان الاستراتيجي الاقليمي والمنافسة بينهما كانت شاملة، واسعة ومتعددة الابعاد.
بتعابير عديدة فان ردود الفعل المتبادلة بين التطورات الداخلية والتدخل الخارجي في موجة الاضطرابات الحالية تخلق جولة اخرى من الحرب الباردة في المنطقة، رغم أنها هذه المرة اتسعت ايضا الى دول مركزية غير عربية تركيا وايران.
ومع ذلك، فان طبيعة الخصومة في الجولة الحالية باتت مركبة بما لا يقاس، بسبب تعزز الهويات العرقية والدينية الطائفية، بمعنى، هويات تحت دولة وفوق دولة. وحسب النظرية الواقعية الكلاسيكية، فان الهدف الاعلى للسياسة الخارجية هو الحفاظ على الاستقلال والامن للدول من خلال حث ميزان قوى في كل منظومة اقليمية او عالمية تتعلق بها. وحسب مثل هذا الفهم، فان حساب المصلحة السياسية (او ‘الوطنية’) هو عمل شبه آلي يتشكل من عناصر ملموسة من القوة الحجم، السكان، الجغرافيا، الطوبغرافيا، المقدرات الطبيعية، الذخائر العسكرية وما شابه. والدولة نفسها هي مثابة ‘صندوق اسود’؛ السياسة الداخلية، اي الايديولوجيا، طبيعة النظام واعتبارات اخرى تتصنف باهمية ثانوية، لان المصلحة الوطنية واضحة بشكل موضوعي الى هذا الحد أو ذاك، وهي التي تقرر في النهاية طبيعة السياسة الخارجية للدولة. بكلمات اخرى، يمكن تقليص تعريف المصلحة الوطنية الى الصيغة التبسيطية ‘المكان الذي تقف فيه منوط بالمكان الذي تسكن فيه’.
تتميز المنظومة الإقليمية الحالية أساسا (وان لم تكن حصريا) بالمنافسة بين المعسكر الشيعي، بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين المعسكر السني الذي تقوده السعودية (وان كان مرة أخرى، مثلما في الخمسينيات والستينيات، ثمة آخرون يدعون التاج، ولا سيما تركيا ومصر ايضا، منذ إسقاط مبارك). في المنافسة التي تصنف بهذه التعابير، اين تقف حكومات وجماهير، لا يزال ذلك كفيلا بان يكون منوطا بجواب ‘اين يسكنون؟’ ولكن أين يسكنون منوط غير مرة بالجواب على سؤال ‘من هم؟’. هذه الآلية تتضح أكثر فأكثر ليس فقط في سورية، بل أيضا في العراق، في لبنان، في البحرين وفي دول اخرى منسجمة العناصر، يبدو فيها أن الجواب على السؤال ‘من يحكم’ يقرر مسبقا أو يخيل أنه يقرر مسبقا الجواب على سؤال ‘بالنسبة لمن’؟
سيكون خطأ الاستنتاج بان هذه الظاهرة يتميز بها الشرق الأوسط. ففي الهزات الداخلية التي اجتازتها بلدان البلقان وأدت الى تفكك يوغسلافيا، مال المسلمون في العالم إلى أن يؤيدوا بشكل عام البوسنة وكوسوفو (رغم تحفظ بعض الحكام العرب الطغاة، مما بدا لهم كسابقة خطيرة للتدخل العسكري الأجنبي)، ولكن عطف اليونان الأرثوذكس والروس الأرثوذكس مال اكثر للصرب الأرثوذكس. ولم تصبح الهوية عنصرا مهما في السياسة فقط بعد اندلاع الربيع العربي. يبدو أنها كانت من قبل عنصرا مهما في السياسة أثناء الحرب الإيرانية العراقية، حين كادت كل الدول العربية السنية تؤيد العراق، وليس فقط تلك التي وجدت في خطر فوري بسبب قربها من إيران. سورية وحدها التي هي تحت سيطرة العلويين ارتبطت بايران. يبدو أن مسألة الهوية تشرح ايضا التأييد الذي منحته دول مختلفة في الشرق الأوسط للاطراف المختلفة المشاركة في الحرب الداخلية ‘الباردة’ و’الساخنة’ الجارية في لبنان في العقود الأربعة الأخيرة.
وفي حقيقة الأمر فان المنطقة تعاني منذ زمن بعيد جدا من صدامات على خلفية عرقية/ او دينية طائفية. ولكن أهمية الهوية ثنائية القطب تصاعدت بشكل كبير منذ بدء موجة الاضطرابات في العالم العربي، ووجدت تعابيرها بمساعي بعض الدول للتأثير على سياق التطورات في دول أخرى، بهدف تحقيق نتائج يفترض أن تناسب مصالحها في المنطقة، او كبديل إحباط تجديد احلاف ضارة، حين يكون كل شيء يقوم بقدر كبير على أساس هوية الاطراف المتصارعة الواحد مع الآخر في الساحة الداخلية.
تغيير النظام والميزان الاقليمي
لم تكن سياسة الهويات واضحة من تلقاء ذاتها فور بدء ما سمي بالربيع العربي. وكانت خطوط الشرخ الاقليمي قد ظهرت من قبل، حين وقف حيال معسكر ‘المقاومة’ بقيادة ايران ما يسمى المعسكر المؤيد للغرب ‘البراغماتي’ او ‘المعتدل’، الذي أبرز أعضائه هما مصر والسعودية. تونس، التي كان حكم زين العابدين بن علي أول من وضع في الحصار، هي احد المجتمعات الاكثر انسجاما في المنطقة، ولهذا فقد كانت ردود الفعل على الثورة ذات خطوط سياسية/إيديولوجية معروفة اكثر. وحرصت ايران على تمجيد كل ذرة تهديد للكتلة السعودية/المصرية، بل ادعت أنها هي الإلهام الإسلامي خلف الثورة الشعبية التونسية. ومالت معظم الأنظمة الأخرى الى الحفاظ على الصمت بالنسبة للتطورات في تونس، رغم أنه كان هناك بلا ريب تخوف ما من أثر الدومينو المحتمل، في حالة نجاح المعارضة في اسقاط بن علي. وفي كل الاحوال، أدى قرار الجيش باقناع بن علي بالرحيل الى انتهاء الثورة بسرعة وبلا عنف تقريبا، بحيث لا يمكن للجهات الخارجية، بل ولم تضطر الى بذل جهود كبيرة كي تؤثر على الاحداث. وفضلا عن ذلك، بدأ بعد ذلك انتقال سلس جدا نحو انتخابات ديمقراطية، رفعت الاسلاميين ‘المعتدلين’ ظاهرا، من جماعة ‘النهضة’ الى الحكم، ممن ركزوا، حتى الان على الأقل، تقريبا وحصريا على إعادة بناء شؤونهم الداخلية. ومع ان السلفيين بدأوا بالتدريج يطلقون صوتهم، وكان أساس التخوف من أن يكون من شأن الديمقراطية في تونس ان تنتج في نهاية المطاف نظاما غير ليبرالي، الا ان التحول الذي اجتازته تونس لم يكن له تأثير ملموس على الميل الاقليمي والعالمي فيها، ولهذا السبب أيضا على المنظومة الإستراتيجية في المنطقة.
وسيتفاجأ مراقبون كثيرون حين يتبينوا ان شيئا مشابها يمكن قوله أيضا عن الدولة العربية الثانية التي شهدت تغييرا للنظام، مصر. مثلما في تونس، قاد المظاهرات التي اندلعت في مصر ضد النظام بداية بالأساس شبان مدينيون متحضرون من أبناء الطبقة الوسطى، احتجوا على الجمود وقمع نظام مبارك، وان كان الاحتجاج استمر لزمن أطول وكان اكثر عنفا مما في تونس. ومثلما في تونس، في مصر أيضا لم يكن في الثورة بعد ديني طائفي أو إثني، ليس لان مصر منسجمة مثل تونس.
في مصر أقلية مسيحية قبطية كبيرة جدا، ولكن الأقباط، رغم تعرضهم للتحرشات وللتمييز المستمر، لم يشعروا بانهم محرومون من الحقوق من جانب النظام او مهددون من جانب معارضي النظام حتى انضمام الإسلاميين الى المظاهرات، وان كان متأخرا بعض الشيء. مثلما في تونس، اسقط الحاكم المصري في نهاية المطاف بانقلاب ‘رقيق’ من الجيش، الذي رغم عدم الاستقرار المستمر، نجح في ابقاء عناصر مركزية من المنظومة من عهد مبارك لزمن طويل، بحيث دفع الناس الى التساؤل هل حقا حصل تغيير للنظام. ولكن مصر، ليست مثل تونس، بفضل وزنها الديمغرافي، قوتها العسكرية ومركزيتها التاريخية والثقافية بقيت دوما في قلب منظومة الدول العربية بحيث ان كل تغيير سياسي في مصر حظي بكامل الاهتمام الاقليمي.
كان معسكر ‘المقاومة’ هو الذي فرح بشكل خاص بالاهتزاز المفاجئ لنظام مبارك الذي ادى في نهاية المطاف الى إسقاطه. وهزء بشار الاسد في سورية من مصاعب من كان عدوه الإقليمي اللدود، وفسرها كدليل على عدالة طريقه السياسي المختلف، في ما أصرت القيادة الايرانية على أن مبارك دفع الثمن لقاء قطيعة تعود لثلاثين سنة مع ايران، ولقاء قمع حلم المسلمين في مصر في تبني نموذج الثورة الاسلامية الايرانية. ومع ذلك فمصر هي دولة كبيرة ومستقلة اكثر من أن تسمح لعناصر خارجية في التأثير بشكل حقيقي على سياق تطوراتها الداخلية، بحيث أن هذا التدخل اللفظي لم يحظَ بعطف كبير في أوساط القوى المؤيدة او المعارضة للنظام. وحتى عندما تبين أن الايرانيين كانوا محقين، جزئيا على الاقل، في ادعائهم بان الاسلام هو تيار اعمق بكثير في المجتمع المصري مما قدر الكثيرون (في الغرب اساسا)، تبين أن سياسة الاسلام في مصر لا تعمل في صالح ايران. يخيل ان الايرانيين، الذين شجعهم اسقاط مبارك ومؤشرات صعود قوة الاسلام في النظام المصري، يؤمنون بان التيارات المحلية ستفعل فعلها.
وتغييرات صغيرة كالسماح لسفينة قتالية ايرانية باجتياز قناة السويس اعتبرت مؤشرا يبشر بتغييرات أكبر، وعلى رأس ذلك امكانية استئناف العلاقات المصرية الايرانية التي انقطعت في 1979، بل وربما تصميم نوع ما من الحلف الايراني المصري الذي يكافح النفوذ المقيت للغرب واسرائيل.
عمليا، تبين أن هذه الامال كانت على الاقل سابقة لاوانها ومبالغا فيها، إن لم تكن عديمة الاساس على الاطلاق. فبعد انتخابه للرئاسة قام محمد مرسي – مرشح الاخوان المسلمين باول زيارة خارجية له الى السعودية اشارة غير رقيقة على نحو خاص الى الشكل الذي يرى فيه سلم الاولويات المصري المناسب. ومع أن مرسي هبط انتقاليا في طهران في طريق عودته من الصين في بداية ايلول/سبتمبر 2012، كي ينقل عصا رئاسة مؤتمر دول عدم الانحياز، الا ان زيارته استغرقت عدة ساعات فقط. ولم تتضمن الزيارة لقاء مع الزعيم الايراني الاعلى، وكاد لا يكون فيها بعد الثنائية (كدعوة زعماء ايران الى رد الزيارة في مصر). عمليا، تضمن خطاب مرسي في المؤتمر انتقادا حادا للنظام السوري والمؤيدين له، اي ايران (حسب بعض التقارير لم يبث التلفزيون الايراني موقف مرسي من سورية). وللدقة، شدد مرسي عن قصد على القدسية السنية، من خلال ذكر اسماء ‘صحابة’ النبي محمد: ابو بكر، عمر، عثمان وعلي.
الذكر العاطف للثلاثة الاوائل هو مثابة امر منكر لمعظم الشيعة. وفي نهاية المطاف، بدت علائم قليلة لتحقيق امكانية المصالحة الايرانية المصرية، التي توقعها البعض. مفهوم أنه توجد تفسيرات جغرافية – سياسية متماسكة لذلك: الدور التاريخي لمصر كمركز القوة في الشرق الاوسط والاهمية التي توليها لنفسها يتناسبان بقدر أكبر ومكانتها كمنافسة لايران على الصدارة، من أن تكون شريكا لها (فما بالك ان تكون شريكا صغيرا). ومع ذلك، لا يمكن أن نستخف باهمية الهوية الدينية الطائفية مثلما تبينت من خطاب مرسي في طهران. عمليا، يحتمل أن يدور الحديث حتى عن عامل اهم لمصر الاسلامية مما كان يمكن أن يكون تحت حكومة علمانية مزعومة في القاهرة. وليس ثمة في ذلك ما يعني أن مصر لا يمكنها بطريقة ما ان تعود لان تحتل مكانها المركزي في العالم العربي مثلما كانت في عهد ناصر أو انها لن تقيم انواعا جديدة من العلاقات، بهذه القوة او تلك، مع جهات اخرى في الشرق الاوسط (ومن خارج المنطقة) مثل تركيا. ولكن على الاقل حسب وصف منظومة الدول في الشرق الاوسط، والذي ينبغي الاعتراف بانه تبسيطي للغاية، والذي يرسم منافسة ثنائية القطب (هزيلة) بين المعسكر الشيعي ‘للمقاومة’ بقيادة ايران وبين المعسكر السني، فانه لم يكن للتحولات في مصر تأثير جوهري على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة.
هكذا أيضا في حالة ليبيا، رغم أن ظروف التغيير واسباب نتائجه كانت مختلفة. فاسقاط معمر القذافي هو الحالة الوحيدة في هذه الجولة من الثورات العربية (اي منذ اجتياح العراق) التي يمكن أن تعزى بشكل واضح لتدخل خارجي.
وفضلا عن ذلك، فمع أنه يمكن ان نعزو الجانب العسكري لهذا التدخل الى قوى غربية (ولا سيما فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة)، ولكن قسما من الجوانب المالية واللوجستية جاءت من دول عربية، ولا سيما قطر. بل وربما نقطة أهم الغطاء السياسي الذي وفرته دول عربية واسلامية، من خلال قرارات الجامعة العربية والتأييد لقرار مجلس الامن في الامم المتحدة لحماية مواطني ليبيا. وباستثناء الاعتبارات الانسانية، فلا يزال هناك بعض انعدام اليقين بالنسبة لدوافع هذا السلوك من جانب الدول العربية. فبقدر ما، يحتمل أن يكون هذا نتيجة سنوات عديدة نجح القذافي خلالها بتهديداته واهاناته في أن يبعد عنه تقريبا كل نظرائه من الدول العربية. ومهما يكن السبب، فلا يوجد اي دليل على أن عوامل دينية طائفية او إثنية أدت هنا دورا ما. فليبيا هي في اغلبيتها الساحقة مجتمع عربي سني، رغم كونها ممزقة بسبب المواجهات بين القبائل.. وفي السنوات الاخيرة قطع القذافي نفسه عن الشؤون العربية وركز على افريقيا جنوب الصحراء.
وبالتالي، لم تسارع اي دولة عربية أو اسلامية اخرى الى الدفاع عن القذافي. كلها، سواء بهذه الحماسة الشديدة أو الاقل شدة، ايدت التدخل وتغيير النظام، وعندما وقع الامر بالفعل كان التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة طفيفا، كما كان متوقعا..
في اليمن، أدت الاحتجاجات الطويلة وسفك الدماء بالرئيس القديم، علي عبدالله صالح الى التنازل عن موقعه (وان كان صالح وزوجته نجحا في الفرار، ونائبه استولى على موقعه).
ومع ذلك، ففي فترة التشوش ما بعد نزول صالح عن الحكم، ليس واضحا الى أي مدى تغير النظام عمليا. فضلا عن ذلك، مثلما لتونس، لليمن ايضا وزن هامشي فقط في العلاقات الاقليمية بحيث أنه حتى اذا ما حصل تغيير سياسي أكبر، فانه لن يتغير الميزان الاقليمي بشكل جوهري. ومع ذلك، يجدر هنا أن نضيف ملاحظتين. الاولى هي أنه يوجد عنصر اثني/ديني طائفي مشارك في عدم الاستقرار في اليمن: يوجد سكان حوثيون/شيعة في شمال غرب الدولة، ثاروا على الحكم المركزي حتى قبل اندلاع الاضطرابات في باقي ارجاء الدولة، وحسب ادعاءات مختلفة تمتعوا بدعم ايراني. ملاحظة ثانية هي ان الحكومة المركزية تؤدي منذ زمن بعيد دورها رسميا فقط في الكثير من اجزاء الدولة، وتترك مجالا واسعا لازدهار عناصر جهادية كالقاعدة في شبه الجزيرة العربية. لهذين السببين ايدت صالح دول مثل السعودية وقوى سُنية اخرى مؤيدة للوضع الراهن، ومن شبه المؤكد ان هؤلاء سيحاولون احباط تطورات مستقبلية تضر بمصالحهم في شبه الجزيرة. وقد تجسد الامر بالملموس في أعقاب الثورة الحصرية ذات العنصر الديني الطائفي الصرف والتي قمعت، حتى الان، بتدخل عسكري اجنبي واسع البحرين.
في بداية 2011، بعد وقت قصير من اسقاط بن علي ومبارك من الحكم، أعلن الرئيس السوري بشار الاسد انه ليس قلقا من مصير مشابه وذلك لانه بزعمه ‘مرتبط جيدا بمواقف الشعب’. وبعد وقت قصير من ذلك، كانت تكفي حادثة تنكيل بطفل امسك به في المدينة الجنوبية درعا وهو يرش على الحائط شعارا مضادا للنظام، من أجل اشعال نار الاحتجاج الذي انتشر ضد القمع، الفساد وعدم أهلية نظام الاسد. كان يبدو أن الاسد لا يحب شعبه اكثر مما كان يحبهم بن علي ومبارك.
ولكن خلافا لتونس ومصر، فان الجيش لم يدر للحاكم ظهر المجن، وذلك اساسا بسبب الطبيعة الاجتماعية الديمغرافية المميزة للدولة. ومع ان الانتفاضة ضد الاسد لم تبدأ كحركة علنية ذات طابع اثني أو ديني طائفي، ومع ذلك فانها سرعان ما اتخذت هذه الاتجاهات (وربما بشكل محتم). وللحقيقة، فان ايديولوجيا حزب البعث كانت دوما ايديولوجيا القومية العربية وغير الطائفية تماما، وتمتع النظام تقليديا بدعم ما ايضا من الطائفة السنية، ولا سيما في أوساط النخبة التجارية المدينية. اما عمليا، فان القاعدة العلوية لاذرع الامن منحت حقوقا للاقليات، ولا سيما العلويين، في كل جوانب الاقتصاد السياسي، وخلقت احساسا بالظلم النسبي في أوساط اغلبية المسلمين السنة، واشعلت بشكل خاص النقمة من جانب الاسلاميين منهم تجاه ما اعتبروه حكم الكفرة. وعليه فليس مفاجئا أن تتخذ المعارضة صورة الحركة السنية، وان اقليات اخرى، عالمة جيدا بمصير المسيحيين في العراق وتخوف المسيحيين في مصر، تخشى على مصيرها في حالة يقظة اسلامية لم تعد مكبوحة الجماح بأيدي نظام طاغية. هذه المخاوف لا تنقطع عن الواقع، ولا سيما كلما اصبح العامل السلفي في المعارضة اكثر فأكثر وضوحا، ولكن بالتوازي يحرص الاسد على اشعالها كي يقلص الخطر في انتشار الاحتجاج في كل شريحة ديمغرافية اخرى باستثناء العلويين. وكنتيجة لذلك، ورغم النفي سواء من جانب الحكم ام من جانب المعارضة، باتت المواجهة في سورية دينية طائفية أكثر فأكثر بالتدريج مع تعاظم مظاهر العنف. وللدقة، فان مركزية سورية جعلت المواجهة الداخلية فيها محورا ستنتظم حوله المنظومات الاقليمية، كون تطوره ونتائجه قد تنتشر الى دول مجاورة فيها ايضا ينقسم المجتمع، وتؤثر على الميزان العام بين القطبين الفارسي العربي/الشيعي السُني المتنافسين على السيطرة في المنطقة.
منذ اندلاع الانتفاضة في سورية بدد الأسد قدرا لا نهاية له من التوقعات بنهايته القريبة. فقدرته على الصمود تنبع بشكل لا بأس به من الدعم المالي، العملياتي، الفني، اللوجستي والاستخباري الذي يتلقاه من ايران الدعم الذي وفق تقارير عديدة اتسع لدرجة التدخل الحقيقي في الحرب من جانب الحرس الثوري (لواء القدس). ويعود التفسير السطحي لالتزام ايران الى أن نظام الاسد هو ذخر استراتيجي. هذا صحيح بالتأكيد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا هو ذخر، بمعنى لماذا دارج جدا الافتراض (الذي هو صحيح على نحو شبه مؤكد) بان بقاء الاسد سيبقي سورية في المعسكر الايراني، ولكن اذا سقط ربما بانقلاب لضباط علويين ينجحون في الاحتفاظ بالسلطة سيؤدي الامر الى تغيير الاتجاه نحو ابتعاد سورية عن ايران. الجواب الاكثر اقناعا على هذا السؤال هو أن الصلة الدينية الطائفية بين ايران وبين الماسكين بالحكم في سورية هي التي ستنشق.
الذخر/الحليف الاستراتيجي الثاني في اهميته لايران، حزب الله، ملتزم هو ايضا بدعم نظام الاسد المعارضة السورية تدعي حتى انها القت القبض على بعض من مقاتلي الحزب في سورية ومواقفه الكفاحية من الاحداث في سورية تطرح التخوف من اشتعال متجدد على خلفية التوتر الديني الطائفي في لبنان. فمن جهة، العضو الاخر الوحيد في كتلة ‘المقاومة’ حماس اضطر الى ابعاد نفسه عن الاسد لانه لم يكن بوسعه (رغم علاقاته الطويلة مع ايران) أن يبرر ارتباطه بالمعسكر ‘الشيعي’ في سورية امام جمهور مؤيديه السنة.. لا ريب أن الاردن هو الاخر يشعر بعطف قليل فقط تجاه الاسد (وايران) في ضوء مصاعب النظام السوري، رغم أنه يحرص على عدم الالتزام بذلك علنا. فبعد كل شيء، كان الملك عبدالله هو الذي حذر لزمن طويل قبل اندلاع الاضطرابات في العالم العربي ضد صعود ‘الهلال الشيعي’ في المنطقة.
واضح انه يمكن دوما تفسير التحالفات الخارجية بين الحكومات بواسطة فكرة مبسطة للغاية تسمى ‘المصلحة الوطنية’. ولكن، اولئك الذين لا يزالون يشككون باهمية الهوية السلطوية او الاجتماعية في تحديد ما هي المصلحة الوطنية، رغم ردود الفعل الاقليمية على الحرب الاهلية في سورية، يمكنهم أن يجدوا دليلا اكثر اقناعا في ذلك في التاريخ المتلوي للميل الاقليمي لدى العراق في عصر ما بعد اسقاط صدام حسين من قبل القوى الغربية. ويتضمن هذا العصر حربا أهلية متواصلة واقامة حكومة في بغداد بسيطرة شيعية. ولم يتغير شيء في الظروف الموضوعية التي قررت ظاهرا المصلحة الوطنية حسب الفهم الواقعي الجغرافيا، الطوبغرافيا، حجم السكان، المقدرات الطبيعية التي بقيت كلها كما كانت. الامر الوحيد الذي تغير كان الاقلية الطاغية، التي الى جانب الهيمنة الفكرية للقومية العربية ابقت الاغلبية الشيعية تحت حكم سني.
دول الخليج التي ساندت في الماضي صدام حسين في حربه ضد ايران لانها رأت فيه السور الواقي في وجه توسع الهيمنة الايرانية في المنطقة فقد تبنت الان نهجا باردا وبعيدا على نحو واضح تجاه الرئيس العراقي الحالي، نوري المالكي، كونها ترى فيه، ضمن امور اخرى، دمية أو جهة مساعدة نشطة في خدمة الهيمنة الايرانية.
الاستنتاجات
المتغير المركزي في محاولة تقدير الميزان الاستراتيجي في الشرق الاوسط هو نتيجة الحرب الاهلية في سورية. إذا بقي بشار الاسد (او حتى النظام بدونه) ففي المدى القصير من المتوقع أن يطرأ تغيير هامشي فقط على الميزان، هذا اذا وقع اصلا. ولكن اذا ما اسقط النظام فعندها بالضبط مثلما غير تغيير النظام في العراق الميزان الديني الطائفي الداخلي، وتوجه هذه الدولة بشكل أثر على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة، هكذا ايضا فان تغييرا مشابها في سورية سيخل بالتوازن الديني الطائفي الداخلي في الدولة، ونتيجة لذلك ميلها في مجال العلاقات الخارجية. ومن المتوقع لاهمية التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة الا تكون أقل مما هي في العراق، ولا سيما اذا أخذنا بالحسبان المنافسة الاساسية بين القطب الايراني/الشيعي والعربي/السني في السياسة الاقليمية في الشرق الاوسط.
مفهوم أنه حتى لو لخصت هذه الثنائية جيدا الميزان الاستراتيجي في المنطقة، فانها بصعوبة تستنفد كل السيناريوهات المحتملة، لا سيما ان مسألة الهوية أعقد من أن تسمح بتحليل بسيط احادي البعد. وأحد اسباب التعقيد هو العدد الجم للجهات التي هي دون الدولة وفوق الدولة ممن يتوزعون بشكل قاطع بين المعسكرين.
سبب آخر هو حقيقة أن مراكز القوى الكبرى نفسها ليست بالضرورة ثابتة خالدة. فتغيير النظام لا يزال يمكنه أن يقع ايضا في ايران، وربما بشكل يتركه في هويته الشيعية، ولكنه يؤدي الى تغيير في ميله الاقليمي ويمنع منظومة اقليمية بقيادة ايران تقوم على أساس حماستها الايديولوجية. يحتمل حتى ان تقف ايران، التي توجد فيها أقلية لا بأس بها من السكان غير الفارسيين وغير الشيعة، امام تحديات العزلة تهدد وجودها، كما يحصل في سورية وفي العراق. أمر مشابه يمكن قوله عن السعودية، حيث يوجد سكان شيعة بعدد كبير ومغتربين في المحافظة الشرقية (والمنتجة للنفط) فيها. في حالة تحقق احد السيناريوهات الكثيرة لضعف دولة ما أو تفكك دولة ما، فان الاثار على المنظومات الاقليمية ستكون قاطعة.
فضعف مراكز القوة المركزية سيؤدي الى منظومة اقليمية أقل تراصا، مع فرص عديدة أكبر لجهات هامشية نسبيا للعمل كلسان الميزان، ولكن دون دافع الهوية القوي الذي يكبح جماح مدى مناورتها. وتجدر الاشارة الى أن وضعا من هذا القبيل سيكون مرغوبا فيه أكثر سواء من جانب القوى الخارجية المتحمسة لمنع صعود الهيمنة الاقليمية، أم من جانب جهات اقليمية كاسرائيل التي تعتبر (بتعابير الهوية الأصلية) ‘النموذج الشاذ’.
وحتى لو لم تضعف او تتفكك مراكز القوى المركزية، فلا تزال توجد امكانية نظرية ان تؤدي تقلبات سياسية في المنطقة مع الزمن الى تعزيز الميول الديمقراطية الليبرالية وهذه ستقلل بالتدريج من اهمية الهوية الاثنية/الدينية الطائفية أو تشجع على الاقل تعابيرها بوسائل قتالية او متطرفة بقدر أقل. من زاوية نظر اسرائيل فان قيام الديمقراطية الليبرالية (بما في ذلك في ايران) سيكون تطورا واعدا أكثر (وان كان معقولا أقل) من صعود مراكز قوة اخرى ولكنها أضعف، وتفكيك منظومة الدول في المنطقة الى كيانات اصغر.
وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي استبعاد امكانية تطورات اكثر بشاعة. وتناول توني بلير في العام 2001 نهج ايران تجاه طالبان، صدام حسين والقاعدة، وادعى ان ‘العداء كان المركز في الانقسام السني/الشيعي، وليست أساليب أو مذاهب كل طرف.
ودارت المعركة حول مسألة من يقود حركة رجعية داخل الاسلام، وليس من يمكنه أن يبني حركة تقدمية’. وهذه، بالطبع، ليست القوى الوحيدة في الميدان السياسي.
وفي التشكل المتواصل للربيع العربي لا تزال هناك جهات ليبرالية تتطلع الى تصميم رؤية حديثة للاسلام بالتعاون مع باقي العالم، الى جانب أنظمة طغيان قائمة تكافح في حرب شاملة لا توجد أي رؤية حقيقية خلفها.
غير أن موجة الاضطرابات في العالم العربي وضعت هذه الانظمة في حالة دفاع، وتركت فتحة محتملة فقط لذوي الحداثة، ممن عرضوا حتى الان قدرة محدودة فقط على استغلالها. وبدلا من ذلك، فان الاسلاميين هم الذين يتمتعون بالازدهار، سواء في العالم السني أم في العالم الشيعي. ليس واضحا بعد مَن مِن بين كل المدعين للتاج السياسي والاجتماعي هو الذي سينتصر، او حتى اذا كان الاسلاميون سيواصلون التقدم فأي تيار اسلامي سيتغلب. ومع ذلك، لا يمكن أن نستبعد تماما احتمالية أن تؤدي الدينامية الحيوية لليقظة العربية في نهاية المطاف الى ان ينتشر الوضع الذي وصفه بلير في 2001 في عموم الشرق الاوسط. اذا تبين ان آثار الربيع العربي ستؤدي في نهاية المطاف الى الصدام بين الهلال الشيعي والهلال السني/السلفي، فسنجد أنفسنا نتوق للفترة التي سادت فيها في المنطقة حرب باردة فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
هناك تشابه بين نتنياهو واوباما
بقلم: سافي رخلفسكي،عن هآرتس
إن عزوف باراك اوباما عن مهاجمة سورية معروف لنا نحن الاسرائيليين من الداخل، فقد بدا اوباما في كلامه مثل بنيامين نتنياهو في بار ايلان وسائر خطبه التي تحدثت عن الدولتين، فمه مليء بالحصى. وكانت الكلمات تقول شيئا واحدا، وكان الجسم والعينان والنغمة تشير الى أن القلب موجود في مكان آخر. ليس ذلك صدفة، فقد ثبت هنا زعم أنه يوجد بين نتنياهو واوباما تشابه.
لم يتعدَ نتنياهو قط عالم أبيه بن تسيون، الذي كان يقول إن أجمل أدب في العالم هو أدب يهوشع هيشل يفين في كتاب ‘حلف الأوغاد’، وكتب التحريض التي سبقت قتل أورلوزوروف. وإن اوباما بحسب مفاهيم امريكية قديمة هو رجل الليبرالية الراديكالية، الذي يتمسك بتصورات معادية للاستعمار حقيقة. وهذا الوضع يوجب استعمال لغة مزدوجة احيانا ولزوم استراتيجية ‘القيادة من الخلف’ في حنكة كبيرة لتحافظ على المركز معك.
جاء نتنياهو واوباما الى الحكم على أثر عنف مفرط. وفي الحالين غيرت الظروف التي سبقت وانتخابهما بسببها سياستهما تغييرا عميقا. وفي الحالين كان ذلك ردا عاما مضادا، إنه رد مضاد يصعب على كثيرين الاعتراف به.
انتُخب نتنياهو على أثر قتل رابين، وبعد أن كان يشرف هو نفسه على مظاهرات التحريض، فالحديث عن رد عام غير عادي. فالوضع في الديمقراطيات على نحو عام هو أن الطرف الذي يُقتل زعيمه يغلب ويُهزم الطرف المحرض. في الولايات المتحدة فاز لندون جونسون، الذي لم يكن ذا حضور قوي بفرق كبير ردا على قتل كنيدي؛ وحدث رد مشابه في الهند على أثر قتل المهاتما غاندي، وفي مناطق الاستيطان اليهودي بعد قتل أورلوزوروف، لكن لم يحدث ذلك في حال نتنياهو.
وجاء اوباما الى الحكم ردا متأخرا عكسيا على عمليات اسامة بن لادن. كان الرد الاول في الحقيقة ارسال رئيس مكلف الى الحرب، لكن الرد السياسي المتأخر أحدث انقلابا، فقد أراد أكثر الجمهور الامريكي والغربي هدوءً وحياة طبيعية وابتعادا عن الشرق الاوسط الغاضب. وأراد مغادرة ومصالحة وعدم تدخل، وكأنه تم الوفاء من جهة سياسية بالرغبات التي كانت موجودة في أساس ارهاب بن لادن وقتل رابين.
إن نتنياهو واوباما على عكس كثير من المصوتين لهما، ليسا انتهازيين، فهما ايديولوجيان يلتزمان بانشاء دولتين مختلفتين تماما عما انشأت النخب السابقة التي يبغضانها. وهي بالنسبة لنتنياهو نخبة اعلان الاستقلال التي كانت من وجهة نظره اشتراكية متطرفة ومضطهدة للمعسكر القومي؛ ومن المعلوم من وجهة نظر اوباما أن العنصرية الموجهة للسود واستعمار النخب الواسعة أمر بغيض. وليس عجبا أن ينظر الى دور الاصلاحيين في ايران، فمن اشمئزازه من انقلاب الـ ‘سي.آي.ايه’ هناك في 1953 اشتُق عدم تدخله في ‘شؤونها الداخلية’.
معلوم أن انتقاد نظام نتنياهو لعدم اخلاقية سياسة اوباما سخيف. ولم تعلن اسرائيل أنها ستهتم بمصالحها فقط ولن تتدخل في سورية، فهذا ما كان في موقف شارون من مجزرة صبرا وشاتيلا، حينما قــال إن العرب قتلوا العرب فماذا يريدون منا.
وهذا ما كان في تأييد اسوأ نظم الحكم: في اريتريا وحكم الجنرالات في الارجنتين، رغم أن كثيرا ممن قتلهم كانوا يهودا يساريين، ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، ورفض تجنيس أي لاجئ اليوم. إن اسرائيل نتنياهو التي أتمت الانقلاب على عالم اعلان الاستقلال هي آخر دولة تستطيع الاحتجاج على سياسة واقعية غير اخلاقية.
وصف ديفيد بن غوريون استقرار رأي الحكومة على عدم احتلال الضفة في أواخر 1948 بأنه ‘بكاء سيدوم لأجيال’، لكنه اهتم في واقع الامر بأن يتم اتخاذ قرار يُضاد موقفه المعلن ويكون على حسب رأيه الحقيقي. فهل سيتصرف اوباما على هذا النحو؟ سنرى.
يُمثل نتنياهو واوباما شيئا واحدا بوضوح، وهو أهمية الزعيم. فهما يُبرزان معنى عدم وجود زعيم منذ حدث قتل رابين في معسكر اعلان الاستقلال.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
اللعب مع الشيطان
بقلم: ارال سيغال،عن معاريف
‘غني عن البيان كتابة مقال آخر يندد او يثني على تردد الرئيس اوباما. ‘حين تسكت الصقور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة’ قال تشرتشل، حكمة تنقصنا جدا الان. لا خلاف في أن الامريكيين يجدون صعوبة في انتاج سياسة متماسكة قادرة على التصدي لفوضى الشرق الاوسط. يخيل ان المقارنة بالايام المظلمة في التاريخ صحيحة اكثر من أي وقت مضى. فقد اختار البرلمان البريطاني العار الاخلاقي، واثبت كم عميقا دفن إرث تشرتشل. ايران تنظر بهزء وهي واقفة الى الجانب، وتتقدم بخطى حثيثة نحو القنبلة. والصحيح في هذا الوقت هو أن ليس هناك من يوقفها. والروس مثل الروس، مثلما كانوا في الايام المظلمة لحلف ريبنتروف مولوتوف، مرة اخرى يلعبون مع الشيطان. كأمة، الروس لم يعملوا دوما حسب المنطق الغربي المقبول او المقاييس الحضارية. فحقوق الانسان تهمهم كما تهمهم الشعرات التي تساقطت العام الماضي.
‘لا يمكنني أن أتوقع الاعمال الروسية’، اوضح تشرتشل في حينه. ‘هذا لغز، مغلف بالغموض، والمجهول؛ ولكن لعله يوجد مفتاح وهذا المفتاح هو المصلحة القومية الروسية’. وما هي المصلحة التي تقود سياسة بوتين التهكمية؟ ليس النفط، فروسيا ليست متعلقة بالشرق الاوسط. ولا المصالح الاقتصادية الصرفة. كل محاولة لتحليل السلوك الروسي بادوات قيمية او كبديل بالواقعية السياسية مآلها الفشل، لان السلوك الروسي مأخوذ من مجال الصحة النفسية. دافعية تتغذى بوقود جنون قوة عظمى انهارت ويعاد بناؤها. من مهانات الماضي. الرغبة في العودة الى الهيمنة كقوة عظمى حيال الولايات المتحدة، العامل التاريخي الذي فكك الاتحاد السوفييتي في نهاية منافسة دامية، يفوق كل اعتبار للمنطق الاخلاقي. ولهذا فان الروس الان يلعبون اللعبة الشعبية الخطيرة، الروليت الروسي.
ان الاستخدام الابكر لتعبير الروليت الروسي يظهر في قصة قصيرة بقلم جورجي سورداز الفرنسي في العام 1937. وتأتي الحبكة بقصص المقاتلين في الفيلم الاجنبي الفرنسي، ومنها تجربة في الحرب العالمية الاولى لعريف روسي في الفيلق. ذاك الروسي خدم في جيش القيصر في منطقة رومانيا، العام 1917 والواقع كان يهتز من لحظة الى لحظة بسبب الثورة التي اندلعت في الام روسيا. بالنسبة لضباط الجيش القيصري بدا المستقبل عديم الامل، وقد شعر اولئك الضباط ليس فقط بانهم يفقدون عائلاتهم، مكانتهم المهنية ومستقبلهم الاقتصادي، بل وبالاساس بالاهانة امام الزملاء من جيوش الحلف. وكان الضباط الروس يمسكون فجأة مسدساتهم في اماكن مختلفة، في غرفة الطعام، حول طاولة في مقهى، في جلسة لاحتساء كأس مع الاصدقاء، يفرغون عبوة المسدس الا من رصاصة واحدة، يديرونها، يغلقون، يلصقون المسدس بالرأس ويضغطون على الزناد. كانت هناك خمس فرص الى واحدة في أن تطرق المطرقة الرصاصة الحية فتزين الغرفة بدمائهم. هذا حصل في بعض الاحيان ولم يحصل في اخرى، كما يجمل العريف الروسي في قصته. لعبة اخرى للضباط الروس في تلك الفترة تسمى ‘الكوكو’. عدد من الضباط كانوا يجتمعون في غرفة، يطفئون النور، يختبئون خلف الاريكة والكراسي وهم مسلحون بطلقة واحدة في المسدس، وعند صوت ‘الكوكو’ ينهضون ويطلقون النار من دون تمييز في اتجاهات مختلفة.
الثمن في الروليت الروسي معروف. الاحتمالات على الطاولة، 1 الى 5. القنبلة الشيعية الايرانية في الطريق الى حكم المهدي لن توفر حياة الروس حين تطلق على اليهود أو الانجلوساكسونيين البروتستانتيين. يمكن فقط الامل في أن يطيع التاريخ المنتقد الحاد للروس، الرفيق كارل ماركس، فيتكرر كمهزلة وليس، لا سمح الله، كاعادة لمأساة معروفة مسبقا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ
7/9/2013
<tbody>
</tbody>
<tbody>
في هــــــذا الملف
هل هي نهاية العصر الامريكي في الشرق الاوسط؟
يوئيل جوجنسكي/تقدير استراتيجي ـ المجلد 15
التحولات الداخلية والتغييرات في الميزان الاستراتيجي الإقليمي
مارك هيلر
تقرير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 ـ 2013
مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل ابيب 2013
هناك تشابه بين نتنياهو واوباما
بقلم: سافي رخلفسكي،عن هآرتس
اللعب مع الشيطان
بقلم: ارال سيغال،عن معاريف
</tbody>
هل هي نهاية العصر الامريكي في الشرق الاوسط؟
يوئيل جوجنسكي/تقدير استراتيجي ـ المجلد 15
أعلنت الادارة الامريكية في السنين الاخيرة نيتها ان تتبنى سياسة ‘اعادة توازن’ نحو آسيا، وقد عبرت عن هذه السياسة في السنين الاخيرة طائفة من المبادرات العسكرية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية. وقد صادق الرئيس باراك اوباما ومثله موظفون كبار من الادارة منذ ذلك الحين ان الولايات المتحدة تريد ان تؤدي دورا قياديا في آسيا في السنوات القريبة.
إن التصريحات عن نقل مركز ثقل الاستراتيجية الامريكية الى شرق آسيا ليست بلا أساس، والحكمة من ورائها مفصلة حتى في الاستراتيجية الامنية للولايات المتحدة منذ كانون الثاني/يناير 2012.
إن استمرار التقدم الايراني نحو السلاح الذري، وضعف التأثير الامريكي في العراق، وصعوبة التأثير في الاحداث في سورية، وعدم الثقة بالولايات المتحدة من نظم الحكم الملكية في العالم العربي، وعلامة السؤال عن مستقبل علاقاتها بمصر، بل برودة العلاقات باسرائيل، تعتبر في نظر مراقبين صعوبة أخذت تزداد على الولايات المتحدة لتقديم أهداف سياستها في المنطقة، بل إنها عند مراقبين آخرين علامات على ان قوة من القوى العظمى هي في تراجع.
إن الدعوى الرئيسة في هذه المقالة هي ان الحاجة الى تخصيص موارد واهتمام بساحات اخرى بسبب ضرورات اقتصادية في الداخل والصعاب التي تلاقيها الولايات المتحدة في تحقيق سياستها في المنطقة، لا تشهد بالضرورة على ‘تركٍ’ للشرق الاوسط. بالعكس، ففي ضوء سلسلة شروط أساسية ومصالح امريكية مركزية، لكل واحدة منها تأثير في تقديرات الولايات المتحدة، وكل واحدة منها تتطلب متابعة دائمة واستعدادا امريكيا للتدخل وقت الحاجة، فان الولايات المتحدة يتوقع ان تستمر في أداء دور مركزي في أمن المنطقة.
توجيه النظر شرقا
قُبيل زيارة رئيس الولايات المتحدة الى استراليا في تشرين الثاني/نوفمبر 2011 أعلن متحدثو الادارة الامريكية توجيه ‘المحور المركزي’ للاستراتيجية الامريكية من مراكزه السابقة نحو ‘تحديات القرن الواحد والعشرين’ في آسيا والمحيط الهادئ بحسب كلامهم. وقد بالغ وزير الدفاع الامريكي ليون بانيتا الذي قال ان نصيب الاسد من القوة البحرية الامريكية سيوضع في المحيط الهادئ الى نهاية العقد الحالي، بغرض معادلة قوة الصين الآخذة في الازدياد. وتطرقت وزيرة الخارجية الامريكية هيلاري كلينتون ايضا الى حاجة الولايات المتحدة الى تخصيص موارد اقتصادية ودبلوماسية واستراتيجية وغيرها في جنوب شرق آسيا، فقالت ان العقد القادم سيكون ‘عقدا آسيويا’.
بدأت الولايات المتحدة تحويل قوات وبناء قدرات وتنمية شراكات قديمة وبناء شراكات جديدة بغرض تهدئة روع حليفاتها وصديقاتها لتُظهر أنها لن تتخلى عنها لقوة الصين الصاعدة.
إن الخشية من ان يتحول الشرق الاوسط الى أقل أهمية للأمن القومي الامريكي مصدرها زيادة انتاج الطاقة المحلية في الولايات المتحدة وكندا، والاحتمال الكبير لأن تستطيع واشنطن ‘ان تفطم نفسها’ عن تعلقها بالنفط من الشرق الاوسط؛ وفي انخفاض تهديد القاعدة في ظاهر الامر؛ وفي زعم ان توجيه الانتباه والموارد الامريكية الى مواجهة تحدٍ أكبر في آسيا أفضل.
كان الشرق الاقصى وحوض المحيط الهادئ منذ زمان بعيد مناطق للولايات المتحدة مصالح متميزة فيها. والخطوات الامريكية الحالية، التصريحية والعملية التي يشتمل عليها ‘التحول شرقا’، هي رد على زيادة قوة الصين وتهديد جاراتها.. وتريد الولايات المتحدة من جهتها ان تُثبت أنها لن تتخلى عن مكانة القوة العظمى، وعن المصالح الاقتصادية في المنطقة التي تعاملها على نحو تقليدي على أنها ‘الساحة الأمامية’، وأنها لن تُمكّن الصين من جعلها مجال تأثير لها وحدها. ويمكن ان نزعم ان الصعاب التي تلقاها الولايات المتحدة في تحقيق سياستها في الشرق الاوسط ايضا تسهم في رغبتها بذل موارد في ساحات اخرى.
إن أول زيارة للرئيس اوباما (ومعه كل القيادة العليا من الادارة الامريكية) بعد انتخابه لولاية ثانية كانت لجنوب شرق آسيا، لتحقيق مضمون ‘التحول شرقا’ الذي أعلنه وللايماء الى أن الصلات الاقتصادية والامنية بهذه المنطقة شديدة الأهمية لمستقبل الولايات المتحدة. وقد تكون هذه الزيارة رمت ايضا الى الاشارة الى أن اهتمام الادارة وأكثر انشغالها سيخصصان في السنوات الاربع القريبة لهذه المنطقة.
بين ايران والربيع العربي
سيكون صرف النظر بعيدا عن الشرق الاوسط انحرافا عن السياسة الامريكية. ويمكن ان نزعم ان هذا التغيير بدأ في واقع الامر في الولاية الاولى لادارة اوباما، وعبر عنه في تقليل الجهود للدفع قدما بمسيرة السلام الاسرائيلية الفلسطينية؛ وصعوبة وقف ايران عن امتلاك قدرة ذرية عسكرية؛ وفي العراق الذي أخذ يُثبت نفسه خارج مجال التأثير الامريكي؛ بل في البحث عن طريقة خروج سريع من افغانستان. واكتفت ادارة اوباما ايضا بـ’القيادة من الخلف’ في ليبيا وأحجمت حتى الآن عن الدفع بصورة فاعلة الى تنحية بشار الاسد في سورية، وقد يكون هذا هو الذي أفضى الى إطالة الحرب الأهلية هناك. ونتيجة هذه الاجراءات والتطورات هي ان حليفات الولايات المتحدة وعدواتها تستعد بل يتصرف بعضها وكأن الحديث هو عن الشرق الاوسط بعد الامريكي.
نصب الرئيس اوباما لنفسه هدفين رئيسين مع توليه منصبه، وهما جعل الولايات المتحدة ذات شعبية أكبر في الشرق الاوسط وسحب قواتها من هذه المنطقة من العراق أولا ومن افغانستان بعد ذلك. ووعد اوباما العالم الاسلامي في بداية ولايته الاولى بـ’بداية جديدة’، لكن المنطقة العربية في بداية ولايته الثانية (والعالم الاسلامي بعامة ايضا) بقيت مشحونة بمشاعر معادية لامريكا.
لم يكن الكثير من الجديد في سياسة الولايات المتحدة تحت حكم اوباما نحو الشرق الاوسط سوى ما كان يبدو في البدء تشددا في سياستها نحو حكومة اسرائيل، ولا سيما في قضية المستوطنات، ومحاولة خطابية في أساسها لمصالحة العالم الاسلامي. وانحصر التجديد إن وجد أصلا في محاولة انشاء اتصال بلاعبات ‘عاصيات’ ايضا كايران وسورية، والعمل قدما بوسائل متعددة الأطراف..
ما زالت الولايات المتحدة تدفع ضريبة كلامية لفكرة الدفع قدما بالديمقراطية في المنطقة التي ربما تكون الأقل ديمقراطية في العالم، لكنها حصرت عنايتها في سنوات ولاية الرئيس اوباما الاولى قبل كل شيء في محاولة اخراج قواتها من العراق اخراجا سهلا مع التخلي بقدر كبير عن التجربة الديمقراطية في هذه الدولة. وتزن الولايات المتحدة ايضا تسريع الجدول الزمني للانسحاب من افغانستان مع محاولة مضاءلة الاضرار بمصالحها، ومع الابتعاد عن محاولات تثبيت قابلية الحكم وتعزيز مؤسسات الدولة الافغانية في مواجهة تحدي طالبان. إن الاحداث في المنطقة العربية جعلت الولايات المتحدة تُعاود الالتزام (الذي أُهمل في أواخر ولاية الرئيس بوش الثانية) بالسعي الى الحرية السياسة وقدر أكبر من حقوق الانسان، بيد ان هذا الامر يبدو انه يُبعدها أكثر عن حليفاتها في المنطقة، ولا سيما الحكام الملكيين وفي المقدمة العربية السعودية الذين يخشون تغييرات عميقة في نظمهم الاجتماعية.
إن سياسة الولايات المتحدة في مسألة ‘الربيع العربي’ جعلت زعماء البلدان العربية يصبحون أكثر شكا مما كانوا في الماضي في الدعم السياسي الامريكي الذي سيُمنح لهم، اذا نشأ تهديد داخلي لحكمهم. وهذا الشك سيجعل من الصعب عليهم ان يلائموا أنفسهم في المستقبل بسياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وسيضطرهم الى التفكير مرتين قبل ان يكونوا مستعدين للمخاطرة من اجلها، في مواجهة ايران أولا. إن فوز باراك اوباما بفترة ولاية ثانية أثار ردودا باردة في العالم العربي، الى جانب أمل ان يحدث تغيير مهم في سياسته الخارجية، اثناء هذه الفترة، ولا سيما توقع ان تترك الولايات المتحدة موقفها السلبي وتتخذ موقفا فعالا حثيثا لمواجهة نظام الاسد في سورية ولمواجهة ايران.
إن موجة الثورات في العالم العربي سرعت مسار تهاوي التأثير الامريكي في المنطقة، لأنها أفضت الى سقوط حكام كانوا حلفاء للولايات المتحدة، لكنها سببت ايضا زعزعة لعلاقاتها بالنظم التي بقيت قائمة على حالها. ولا يضمن صعود النظم الجديدة ايضا ‘شهر عسل’ في علاقاتها بالولايات المتحدة، فرغم وقوف الرئيس اوباما مثلا من وراء الجموع التي خرجت للتظاهر في مصر على الرئيس مبارك (ولم يفعل ذلك قبل سنتين في ايران) فان علاقات الولايات المتحدة بالرئيس الجديد مرسي ليست طيبة بصورة خاصة. إن الولايات المتحدة باركت في الحقيقة الانتخابات الديمقراطية في مصر، لكنها جاءت الى الحكم بحركة ورئيس ليس من الواضح مبلغ التزامهما بقيم الديمقراطية. وإن الولايات المتحدة ووسيلتها الرئيسة للتأثير في مصر بقيت المساعدة المالية (1.7 مليار دولار كل سنة) لا تراها عدوا لكنها لا تراها حليفة ايضا كما قال الرئيس اوباما.
لا شك في أن أعداء الولايات المتحدة واصدقاءها في الشرق الاوسط سيفسرون تغيير مركزها الاستراتيجي نحو الشرق بأنه تراجع آخر عن مراكز تأثيرها في الشرق الاوسط، وبصورة محددة بأنه ضعف خيارها العسكري في مواجهة ايران وتعبير عن عدم تأييدها للنظم الموالية للغرب التي بقيت على حالها. والولايات المتحدة منتبهة لهذه المشاعر ولهذا تبادر الى خطوات تصريحية وعملية معا كي تُخفف من قلق حليفاتها. وهي تعزز من اجل ذلك وجودها العسكري في الخليج وتوقع على صفقات ضخمة مع دول الخليج العربية وترسل موظفين رفيعي المستويات الى المنطقة مع ابرازها هذه الخطوات.
مركزية الشرق الاوسط
تعبر رغبة الولايات المتحدة في التخلي عن جزء من التزاماتها الدولية، عن ميل الى التمايز تضرب جذوره في التاريخ الامريكي. وقد ارتفعت في السنوات الاخيرة في الولايات المتحدة اصوات تزعم انه يجب عليها ان تحصر جهودها في علاج امراضها الداخلية، حتى على حساب مصالحها الدولية، وان تتقاسم العبء الامني مع حليفاتها وألا تشارك إلا في حروب ‘لا مناص منها’.
ما زالت توجد مسافة بعيدة بين تأكيد أكبر مما كان في الماضي لميدان المحيط الهادئ وبين ‘انفصال’ عن الشرق الاوسط. فليس الحديث عن ‘لعبة حاصلها صفر’ لأن الولايات المتحدة تستطيع ان تُظهر مشاركة في هذين الميدانين المركزيين على التوازي. والى ذلك بقي للولايات المتحدة عدة مصالح مركزية في أنحاء الشرق الاوسط لكل واحدة منها تأثير في التقديرات الامريكية وكل واحدة منها تتطلب متابعة دائمة واستعدادا امريكيا للتدخل وقت الحاجة. واليكم تفصيلها.
سوق الطاقة
تتغير خريطة الطاقة العالمية، بسبب زيادة استخراج النفط والغاز في الولايات المتحدة باستعمال تقنيات متقدمة. وقد يفضي هذا التغيير الى الاقلال من تعلقها بنفط الشرق الاوسط. وقد زاد انتاج النفط الامريكي في السنوات الاربع الاخيرة
بـ25 في المئة. وتتوقع الوكالة الدولية للطاقة (آي.إي.ايه) ان تسبق الولايات المتحدة روسيا والعربية السعودية وتصبح أكبر منتجة للنفط في العالم. لكن فكرة ان تكون الولايات المتحدة في يوم ما مستقلة تماما عن التعلق بنفط الشرق الاوسط ما زالت بعيدة عن التحقق. إن الولايات المتحدة تنتج الآن 60 في المئة من استهلاكها للنفط بنفسها ويتوقع ان تزود في نهاية العقد القادم كل ما تحتاج اليه من جهة الطاقة لكنها ستبقى آنذاك ايضا متعلقة بالاقتصاد العالمي. وقد يتضرر هذا ويضر بها ايضا اذا لم تستمر مصادر النفط في الشرق الاوسط في تزويد دول مثل كوريا الجنوبية واليابان والهند والصين بمطلوبها. ونقول من اجل التجسيد انه يوجد في الخليج الفارسي وحده 54.4 في المئة من اجمالي احتياطي النفط العالمي الثابت و40.5 في المئة من اجمالي كل احتياط الغاز العالمي الثابت. وعلى ذلك حتى لو لم تكن الولايات المتحدة متعلقة بالطاقة من الخليج للاستهلاك الذاتي، فانها ستبقى متعلقة باستقرار سوق الطاقة العالمية، وستضطر الى الاستمرار في الحفاظ على وصول حر للنفط من الخليج الفارسي. وإن أهمية موقف الولايات المتحدة وقوتها في هذه القضية قد ثبت حينما قررت في مطلع 2012، خلافا لموقفها من الشأن الذري الايراني، أن التشويش على حرية الملاحة في مضيق هرمز ‘خط احمر’ من وجهة نظرها. وللولايات المتحدة ايضا علاقات متميزة بدول الخليج وتاريخ نشاط في هذا الميدان يتأثر بعوامل اخرى عدا الحاجة الى الطاقة والحاجة الى الوصول الى اقتصاد الخليج ويقتضي ذلك وجودا امريكيا في المنطقة.
الانتشار الذري
حينما بدأ الرئيس اوباما ولايته كان أحد الأهداف المركزية التي وضعها لنفسه ان يدفع الى الأمام بفكرة نزع السلاح الدولي. لكن يبدو بالفعل انه يبتعد عن هذا الهدف فايران تريد ان تصبح من القوى الذرية وباكستان قوة من القوى الذرية غير مستقرة قد تنقل تقنية ذرية الى دول اخرى في المنطقة، بل قد تفقد السيطرة على مخزونها الذري. والى ذلك فان السلاح الذري في ايران قد يفضي الى توسيع الانتشار الذري في المنطقة، بحيث قد تبدأ دول اخرى العمل في مسار ذري عسكري. كانت الولايات المتحدة وما زالت أكبر قوة خارجية في المنطقة وهي الوحيدة القادرة على تأمين السلاح الذري الباكستاني ومعادلة قوة ايران ومحاولة منع توسيع الانتشار الذري. فقد بقيت صلتها بالشرق الاوسط عامة في سياق عدم انتشار السلاح الذري ضرورية اذا.
مسيرة السلام
عيّن الرئيس اوباما في ولايته الاولى مبعوثه الى الشرق الاوسط جورج ميتشل بعد أدائه اليمين الدستورية الرئاسية بـ48 ساعة فقط وذلك كي يؤكد التزام الادارة الجديدة بمسيرة السلام الاسرائيلية الفلسطينية. وعرّف اوباما هذا الشأن بأنه ‘أولوية أمنية قومية’ بالنسبة لامريكا. ومع ذلك فان جهود الولايات المتحدة للدفع قدما بمسيرة السلام في السنوات الاربع الاخيرة لم تؤت أُكلها.. وإن زعم ان التقدم نحو تسوية سياسية بين اسرائيل والفلسطينيين ستُسهل تحقيق السياسة الامريكية في العالم العربي عامة وفي مواجهة ايران خاصة، ما زال قوي الفعل في الولايات المتحدة.
دولة اسرائيل
تُعرّف علاقات الولايات المتحدة باسرائيل على نحو تقليدي بمصطلحات الواجب الاخلاقي، والقيم الحضارية والسياسية المشتركة والمصالح الاستراتيجية المشتركة. ورغم ذلك يوجد توجه ذو تأثير سلبي في العلاقات متصل بالمس بصورة القوة الاسرائيلية. فليس فقط ان اسرائيل لم تعد تُرى كنزا عند كثيرين في الولايات المتحدة، بل إن مراقبين مختلفين يعرضونها في السنوات الاخيرة على أنها عبء عليها. ورغم ذلك بقيت اسرائيل شريكة مهمة للولايات المتحدة في مواجهة التهديدات الارهابية والتهديدات العسكرية المتصاعدة، ويتشارك جيشا الدولتين في المعلومات الاستخبارية والنظريات القتالية، وبقيت اسرائيل حليفة مخلصة مستقرة تُسهم في الصناعة والامن الامريكيين بواسطة جهود تطوير مشتركة ايضا.
تهديد الارهاب
يُرى تهديد الارهاب للولايات المتحدة فيها أقل مما كان قبل 11 سنة. إن الانسحاب الامريكي من الشرق الاوسط لن ينهي الارهاب الجهادي المعادي لامريكا؛ بالعكس يبدو ان قوى اسلامية متطرفة تريد ان تدخل ‘الفراغ’ الذي نشأ بعد سقوط نظم الحكم العربية القديمة. وأصبحت ذراع القاعدة في اليمن تُعرف عند الولايات المتحدة بأنها أخطر ذراع بين أذرع المنظمة. والى ذلك يُثبت الهجوم على السفارة الامريكية في بنغازي في ليبيا الذي قُتل فيه سفير الولايات المتحدة في هذه الدولة، مبلغ زيادة الفترة الانتقالية بعد الثورة لتهديد القاعدة ومنه تهديدها في المغرب، زيادة على زيادة قوة أذرعها في العراق وفي سورية.
مبيعات السلاح
ما زالت الولايات المتحدة تحاول ان تقوي حليفاتها في المنطقة. وأبرز تعبير عن هذه السياسة تقريب هذه الدول من الوصول الى نظم سلاح امريكية متطورة ترمي الى مساعدتها على مواجهة تهديد ايران. إن بيع منظومات سلاح ووسائل قتالية من انتاج الولايات المتحدة طريقة لزيادة تأثيرها وهو تقدير جوهري عندها ولا سيما في ضوء الوضع الاشكالي للاقتصاد الامريكي. إن مقدار مبيعات السلاح الامريكي في السنوات الاخيرة لم يسبق له مثيل وهي مخصصة في أساسها لدول الخليج. فقد بلغت صفقات الولايات المتحدة في السنوات 2008 2011 مع العربية السعودية واتحاد الامارات 70 مليار دولار، بل ان الولايات المتحدة تخطط لتزويد بعض دول الخليج بطائرات حربية متقدمة كثيرة، مثل إف 15 إس.إي، ومنظومات دفاع جوي محكمة مثل تي.اتش.إي.إي.دي بل بسلاح موجه دقيق. لكن استعداد دول الخليج لأن تواجه ايران بصورة فعالة يتعلق بثقتها بالتزام الادارة الامريكية ان تخرج للدفاع عنها وهو التزام سيؤثر في التقدير الامريكي قبل الهجوم على ايران.
الخلاصة
إن الشرق الاوسط جبهة مركزية في مواجهة الاخطار المتوقعة للولايات المتحدة والتوجهات التي تلوح تباشيرها فيه قد تزيد في أهميته باعتباره ميدان أحداث حاسمة بالنسبة للأمن القومي الامريكي. والشيء غير الواضح هو مبلغ كون الاستراتيجية التي استعملتها الولايات المتحدة في السنوات الاربع الاخيرة والتي تتشكل اليوم، ناجعة لمواجهة هذه التحديات. وسواء أكان بعض التوجهات التي وصفت آنفا تنبع من مذهب الرئيس اوباما السياسي أو تتصل بالوضع الاقتصادي في الولايات المتحدة، أم كان الحديث عن رد على خيبة أمل الولايات المتحدة من الدفع قدما بسياستها في الشرق الاوسط، فان الادارة الامريكية توحي الى المنطقة أنها ليست في مقدمة اهتماماتها كما كانت في الماضي. وإن حقيقة ان التغيير المرتقب لترتيب الأولويات الامريكي سيمتد عشر سنوات تخفف شيئا ما من وخزه، لكن رغم ذلك ينبغي ألا نتجاهل ان الحديث عن تغيير حاد قد تكون له آثار في الأمد البعيد على اسرائيل ايضا التي تُعد الولايات المتحدة دعامة رئيسة لها.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
التحولات الداخلية والتغييرات في الميزان الاستراتيجي الإقليمي
مارك هيلر
تقرير استراتيجي لاسرائيل للعامين 2012 ـ 2013
مركز بحوث الامن القومي ـ جامعة تل ابيب 2013
في محاولة لشرح سلوك أعضاء الكونغرس الأمريكيين في المسائل القومية والدولية، اطلق الرئيس الأسطوري لمجلس النواب توماس ف. اونيل قوله الشهير: ‘كل السياسة محلية’. وهكذا قصد ان يقول ان للخصومات السياسية التي تحركها أساسا اعتبارات محلية، آثارا مهمة على جدول الأعمال القومي وعلى الساحة الدولية. اقوال مشابهة يمكن وصف الاضطرابات التي تهز العالم العربي منذ بداية 2011 بها، فالاضطرابات هي اساسا ظواهر داخلية في هذه الدول، وتلك التي تنطوي على المساعي لاسقاط الانظمة القائمة، تحركها أساسا الضغينة المتراكمة نتيجة للظلم المادي والمعنوي النابع من عدم كفاءة، فساد وإجرام أنظمة القمع. واستمدت الاضطرابات التشجيع من الإحساس المتزايد من القوة التي يعود مصدرها الى تكنولوجيا الاتصالات الحديثة، والالهام الذي استمد من الانهيار السريع وغير المتوقع للطوبة الأولى في سور الطغيان تونس. والى جانب هذه، فان لنتائج الاضطرابات آثارا مهمة ايضا على الميزان الاستراتيجي، لان تغيير النظام في دولة ما كفيل بان يحدث تغييرات ذات مغزى في المنظومات السياسية، الاقليمية والدولية.
صحيح حتى منتصف 2012 سقطت أربعة أنظمة عربية فقط، وكانت آثار ذلك على الميزان الاقليمي معتدلة جدا. ومع ذلك، بسبب الهشاشة الواضحة للانظمة في اماكن عديدة اخرى في المنطقة، ولا سيما في ضوء الصعود السريع لـ ‘سياسة الهوية’ في السنوات الاخيرة، فان امكانيات التغيير الدراماتيكي الاكبر تبقى على حالها. فوفقا للشكل الذي ستحسم فيه التحديات الحالية والمستقبلية التي تواجهها الانظمة في الدول العربية الاخرى، ولا سيما في سورية تحديات في بعضها تهدد وحدة قسم من هذه الدول ثمة احتمال في أن تجتاز المنظومة السياسية في الشرق الاوسط في المستقبل تغييرا جوهريا في صورتها.
تدخل خارجي في التغييرات الداخلية
في الجولة الكبيرة السابقة من الاضطرابات الداخلية في العالم العربي، التي وقعت في الخمسينيات والستينيات، أدارت القوى القومية العربية المتطرفة برئاسة جمال عبدالناصر صراعا وحشيا ضد الانظمة المحافظة، ولا سيما ضد الانظمة الملكية المؤيدة للغرب، التي تعد السعودية معقلها الاساس. ولم يؤد هذا الصراع الى مواجهة عسكرية مباشرة، بل عبر عن نفسه بقدر أكبر في طبيعة سياسة تحالفات الانظمة وانتشارها الاقليمي.
ومثل الصراع الذي دار بالتوازي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، دارت في العالم العربي ايضا المواجهة في الغالب بوسائل غير مباشرة مثل التآمر، الدعاية، المال، التجسس واستخدام عناصر مرسلة، الى جانب تدخلات عسكرية مصادفة. وفضلا عن ذلك، اتخذت الخصومات طابعا إيديولوجيا بارزا وجد تعبيره في أن الصيغة والهدف المناسبين للحكم أديا دورا، سواء كجائزة أم كأداة للمنافسة. وأفضل بحث في وصف أجواء هذه الخصومة يسمى ‘الحرب الباردة في العالم العربي’. ويشكل هذا البحث محاولة للعثور في ذاك الزمن عن صدى اقليمي لما وقع بين القوى العظمى على المستوى العالمي. مفهوم أن فكرة تصوير الشرق الاوسط في حينه كمنظومة ثنائية القطب كانت مصابة بالتبسيط الزائد، بالضبط مثل محاولة وصف العالم كله كخصومة امريكية سوفييتية مغلقة. فحدود المنطقة كانت غامضة ولم يكن اي معسكر منضبطا للغاية، واضافة الى ذلك، فان الكثير من الدول التي رأت فيها مصر والسعودية في البداية ساحات للمنافسة، رأت نفسها متساوية القيمة تماما، إن لم تكن منافسة للدولتين المتصدرتين. ومع ذلك، فقد كانت مصر والسعودية عمليا قطبين للميزان الاستراتيجي الاقليمي والمنافسة بينهما كانت شاملة، واسعة ومتعددة الابعاد.
بتعابير عديدة فان ردود الفعل المتبادلة بين التطورات الداخلية والتدخل الخارجي في موجة الاضطرابات الحالية تخلق جولة اخرى من الحرب الباردة في المنطقة، رغم أنها هذه المرة اتسعت ايضا الى دول مركزية غير عربية تركيا وايران.
ومع ذلك، فان طبيعة الخصومة في الجولة الحالية باتت مركبة بما لا يقاس، بسبب تعزز الهويات العرقية والدينية الطائفية، بمعنى، هويات تحت دولة وفوق دولة. وحسب النظرية الواقعية الكلاسيكية، فان الهدف الاعلى للسياسة الخارجية هو الحفاظ على الاستقلال والامن للدول من خلال حث ميزان قوى في كل منظومة اقليمية او عالمية تتعلق بها. وحسب مثل هذا الفهم، فان حساب المصلحة السياسية (او ‘الوطنية’) هو عمل شبه آلي يتشكل من عناصر ملموسة من القوة الحجم، السكان، الجغرافيا، الطوبغرافيا، المقدرات الطبيعية، الذخائر العسكرية وما شابه. والدولة نفسها هي مثابة ‘صندوق اسود’؛ السياسة الداخلية، اي الايديولوجيا، طبيعة النظام واعتبارات اخرى تتصنف باهمية ثانوية، لان المصلحة الوطنية واضحة بشكل موضوعي الى هذا الحد أو ذاك، وهي التي تقرر في النهاية طبيعة السياسة الخارجية للدولة. بكلمات اخرى، يمكن تقليص تعريف المصلحة الوطنية الى الصيغة التبسيطية ‘المكان الذي تقف فيه منوط بالمكان الذي تسكن فيه’.
تتميز المنظومة الإقليمية الحالية أساسا (وان لم تكن حصريا) بالمنافسة بين المعسكر الشيعي، بقيادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وبين المعسكر السني الذي تقوده السعودية (وان كان مرة أخرى، مثلما في الخمسينيات والستينيات، ثمة آخرون يدعون التاج، ولا سيما تركيا ومصر ايضا، منذ إسقاط مبارك). في المنافسة التي تصنف بهذه التعابير، اين تقف حكومات وجماهير، لا يزال ذلك كفيلا بان يكون منوطا بجواب ‘اين يسكنون؟’ ولكن أين يسكنون منوط غير مرة بالجواب على سؤال ‘من هم؟’. هذه الآلية تتضح أكثر فأكثر ليس فقط في سورية، بل أيضا في العراق، في لبنان، في البحرين وفي دول اخرى منسجمة العناصر، يبدو فيها أن الجواب على السؤال ‘من يحكم’ يقرر مسبقا أو يخيل أنه يقرر مسبقا الجواب على سؤال ‘بالنسبة لمن’؟
سيكون خطأ الاستنتاج بان هذه الظاهرة يتميز بها الشرق الأوسط. ففي الهزات الداخلية التي اجتازتها بلدان البلقان وأدت الى تفكك يوغسلافيا، مال المسلمون في العالم إلى أن يؤيدوا بشكل عام البوسنة وكوسوفو (رغم تحفظ بعض الحكام العرب الطغاة، مما بدا لهم كسابقة خطيرة للتدخل العسكري الأجنبي)، ولكن عطف اليونان الأرثوذكس والروس الأرثوذكس مال اكثر للصرب الأرثوذكس. ولم تصبح الهوية عنصرا مهما في السياسة فقط بعد اندلاع الربيع العربي. يبدو أنها كانت من قبل عنصرا مهما في السياسة أثناء الحرب الإيرانية العراقية، حين كادت كل الدول العربية السنية تؤيد العراق، وليس فقط تلك التي وجدت في خطر فوري بسبب قربها من إيران. سورية وحدها التي هي تحت سيطرة العلويين ارتبطت بايران. يبدو أن مسألة الهوية تشرح ايضا التأييد الذي منحته دول مختلفة في الشرق الأوسط للاطراف المختلفة المشاركة في الحرب الداخلية ‘الباردة’ و’الساخنة’ الجارية في لبنان في العقود الأربعة الأخيرة.
وفي حقيقة الأمر فان المنطقة تعاني منذ زمن بعيد جدا من صدامات على خلفية عرقية/ او دينية طائفية. ولكن أهمية الهوية ثنائية القطب تصاعدت بشكل كبير منذ بدء موجة الاضطرابات في العالم العربي، ووجدت تعابيرها بمساعي بعض الدول للتأثير على سياق التطورات في دول أخرى، بهدف تحقيق نتائج يفترض أن تناسب مصالحها في المنطقة، او كبديل إحباط تجديد احلاف ضارة، حين يكون كل شيء يقوم بقدر كبير على أساس هوية الاطراف المتصارعة الواحد مع الآخر في الساحة الداخلية.
تغيير النظام والميزان الاقليمي
لم تكن سياسة الهويات واضحة من تلقاء ذاتها فور بدء ما سمي بالربيع العربي. وكانت خطوط الشرخ الاقليمي قد ظهرت من قبل، حين وقف حيال معسكر ‘المقاومة’ بقيادة ايران ما يسمى المعسكر المؤيد للغرب ‘البراغماتي’ او ‘المعتدل’، الذي أبرز أعضائه هما مصر والسعودية. تونس، التي كان حكم زين العابدين بن علي أول من وضع في الحصار، هي احد المجتمعات الاكثر انسجاما في المنطقة، ولهذا فقد كانت ردود الفعل على الثورة ذات خطوط سياسية/إيديولوجية معروفة اكثر. وحرصت ايران على تمجيد كل ذرة تهديد للكتلة السعودية/المصرية، بل ادعت أنها هي الإلهام الإسلامي خلف الثورة الشعبية التونسية. ومالت معظم الأنظمة الأخرى الى الحفاظ على الصمت بالنسبة للتطورات في تونس، رغم أنه كان هناك بلا ريب تخوف ما من أثر الدومينو المحتمل، في حالة نجاح المعارضة في اسقاط بن علي. وفي كل الاحوال، أدى قرار الجيش باقناع بن علي بالرحيل الى انتهاء الثورة بسرعة وبلا عنف تقريبا، بحيث لا يمكن للجهات الخارجية، بل ولم تضطر الى بذل جهود كبيرة كي تؤثر على الاحداث. وفضلا عن ذلك، بدأ بعد ذلك انتقال سلس جدا نحو انتخابات ديمقراطية، رفعت الاسلاميين ‘المعتدلين’ ظاهرا، من جماعة ‘النهضة’ الى الحكم، ممن ركزوا، حتى الان على الأقل، تقريبا وحصريا على إعادة بناء شؤونهم الداخلية. ومع ان السلفيين بدأوا بالتدريج يطلقون صوتهم، وكان أساس التخوف من أن يكون من شأن الديمقراطية في تونس ان تنتج في نهاية المطاف نظاما غير ليبرالي، الا ان التحول الذي اجتازته تونس لم يكن له تأثير ملموس على الميل الاقليمي والعالمي فيها، ولهذا السبب أيضا على المنظومة الإستراتيجية في المنطقة.
وسيتفاجأ مراقبون كثيرون حين يتبينوا ان شيئا مشابها يمكن قوله أيضا عن الدولة العربية الثانية التي شهدت تغييرا للنظام، مصر. مثلما في تونس، قاد المظاهرات التي اندلعت في مصر ضد النظام بداية بالأساس شبان مدينيون متحضرون من أبناء الطبقة الوسطى، احتجوا على الجمود وقمع نظام مبارك، وان كان الاحتجاج استمر لزمن أطول وكان اكثر عنفا مما في تونس. ومثلما في تونس، في مصر أيضا لم يكن في الثورة بعد ديني طائفي أو إثني، ليس لان مصر منسجمة مثل تونس.
في مصر أقلية مسيحية قبطية كبيرة جدا، ولكن الأقباط، رغم تعرضهم للتحرشات وللتمييز المستمر، لم يشعروا بانهم محرومون من الحقوق من جانب النظام او مهددون من جانب معارضي النظام حتى انضمام الإسلاميين الى المظاهرات، وان كان متأخرا بعض الشيء. مثلما في تونس، اسقط الحاكم المصري في نهاية المطاف بانقلاب ‘رقيق’ من الجيش، الذي رغم عدم الاستقرار المستمر، نجح في ابقاء عناصر مركزية من المنظومة من عهد مبارك لزمن طويل، بحيث دفع الناس الى التساؤل هل حقا حصل تغيير للنظام. ولكن مصر، ليست مثل تونس، بفضل وزنها الديمغرافي، قوتها العسكرية ومركزيتها التاريخية والثقافية بقيت دوما في قلب منظومة الدول العربية بحيث ان كل تغيير سياسي في مصر حظي بكامل الاهتمام الاقليمي.
كان معسكر ‘المقاومة’ هو الذي فرح بشكل خاص بالاهتزاز المفاجئ لنظام مبارك الذي ادى في نهاية المطاف الى إسقاطه. وهزء بشار الاسد في سورية من مصاعب من كان عدوه الإقليمي اللدود، وفسرها كدليل على عدالة طريقه السياسي المختلف، في ما أصرت القيادة الايرانية على أن مبارك دفع الثمن لقاء قطيعة تعود لثلاثين سنة مع ايران، ولقاء قمع حلم المسلمين في مصر في تبني نموذج الثورة الاسلامية الايرانية. ومع ذلك فمصر هي دولة كبيرة ومستقلة اكثر من أن تسمح لعناصر خارجية في التأثير بشكل حقيقي على سياق تطوراتها الداخلية، بحيث أن هذا التدخل اللفظي لم يحظَ بعطف كبير في أوساط القوى المؤيدة او المعارضة للنظام. وحتى عندما تبين أن الايرانيين كانوا محقين، جزئيا على الاقل، في ادعائهم بان الاسلام هو تيار اعمق بكثير في المجتمع المصري مما قدر الكثيرون (في الغرب اساسا)، تبين أن سياسة الاسلام في مصر لا تعمل في صالح ايران. يخيل ان الايرانيين، الذين شجعهم اسقاط مبارك ومؤشرات صعود قوة الاسلام في النظام المصري، يؤمنون بان التيارات المحلية ستفعل فعلها.
وتغييرات صغيرة كالسماح لسفينة قتالية ايرانية باجتياز قناة السويس اعتبرت مؤشرا يبشر بتغييرات أكبر، وعلى رأس ذلك امكانية استئناف العلاقات المصرية الايرانية التي انقطعت في 1979، بل وربما تصميم نوع ما من الحلف الايراني المصري الذي يكافح النفوذ المقيت للغرب واسرائيل.
عمليا، تبين أن هذه الامال كانت على الاقل سابقة لاوانها ومبالغا فيها، إن لم تكن عديمة الاساس على الاطلاق. فبعد انتخابه للرئاسة قام محمد مرسي – مرشح الاخوان المسلمين باول زيارة خارجية له الى السعودية اشارة غير رقيقة على نحو خاص الى الشكل الذي يرى فيه سلم الاولويات المصري المناسب. ومع أن مرسي هبط انتقاليا في طهران في طريق عودته من الصين في بداية ايلول/سبتمبر 2012، كي ينقل عصا رئاسة مؤتمر دول عدم الانحياز، الا ان زيارته استغرقت عدة ساعات فقط. ولم تتضمن الزيارة لقاء مع الزعيم الايراني الاعلى، وكاد لا يكون فيها بعد الثنائية (كدعوة زعماء ايران الى رد الزيارة في مصر). عمليا، تضمن خطاب مرسي في المؤتمر انتقادا حادا للنظام السوري والمؤيدين له، اي ايران (حسب بعض التقارير لم يبث التلفزيون الايراني موقف مرسي من سورية). وللدقة، شدد مرسي عن قصد على القدسية السنية، من خلال ذكر اسماء ‘صحابة’ النبي محمد: ابو بكر، عمر، عثمان وعلي.
الذكر العاطف للثلاثة الاوائل هو مثابة امر منكر لمعظم الشيعة. وفي نهاية المطاف، بدت علائم قليلة لتحقيق امكانية المصالحة الايرانية المصرية، التي توقعها البعض. مفهوم أنه توجد تفسيرات جغرافية – سياسية متماسكة لذلك: الدور التاريخي لمصر كمركز القوة في الشرق الاوسط والاهمية التي توليها لنفسها يتناسبان بقدر أكبر ومكانتها كمنافسة لايران على الصدارة، من أن تكون شريكا لها (فما بالك ان تكون شريكا صغيرا). ومع ذلك، لا يمكن أن نستخف باهمية الهوية الدينية الطائفية مثلما تبينت من خطاب مرسي في طهران. عمليا، يحتمل أن يدور الحديث حتى عن عامل اهم لمصر الاسلامية مما كان يمكن أن يكون تحت حكومة علمانية مزعومة في القاهرة. وليس ثمة في ذلك ما يعني أن مصر لا يمكنها بطريقة ما ان تعود لان تحتل مكانها المركزي في العالم العربي مثلما كانت في عهد ناصر أو انها لن تقيم انواعا جديدة من العلاقات، بهذه القوة او تلك، مع جهات اخرى في الشرق الاوسط (ومن خارج المنطقة) مثل تركيا. ولكن على الاقل حسب وصف منظومة الدول في الشرق الاوسط، والذي ينبغي الاعتراف بانه تبسيطي للغاية، والذي يرسم منافسة ثنائية القطب (هزيلة) بين المعسكر الشيعي ‘للمقاومة’ بقيادة ايران وبين المعسكر السني، فانه لم يكن للتحولات في مصر تأثير جوهري على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة.
هكذا أيضا في حالة ليبيا، رغم أن ظروف التغيير واسباب نتائجه كانت مختلفة. فاسقاط معمر القذافي هو الحالة الوحيدة في هذه الجولة من الثورات العربية (اي منذ اجتياح العراق) التي يمكن أن تعزى بشكل واضح لتدخل خارجي.
وفضلا عن ذلك، فمع أنه يمكن ان نعزو الجانب العسكري لهذا التدخل الى قوى غربية (ولا سيما فرنسا، بريطانيا والولايات المتحدة)، ولكن قسما من الجوانب المالية واللوجستية جاءت من دول عربية، ولا سيما قطر. بل وربما نقطة أهم الغطاء السياسي الذي وفرته دول عربية واسلامية، من خلال قرارات الجامعة العربية والتأييد لقرار مجلس الامن في الامم المتحدة لحماية مواطني ليبيا. وباستثناء الاعتبارات الانسانية، فلا يزال هناك بعض انعدام اليقين بالنسبة لدوافع هذا السلوك من جانب الدول العربية. فبقدر ما، يحتمل أن يكون هذا نتيجة سنوات عديدة نجح القذافي خلالها بتهديداته واهاناته في أن يبعد عنه تقريبا كل نظرائه من الدول العربية. ومهما يكن السبب، فلا يوجد اي دليل على أن عوامل دينية طائفية او إثنية أدت هنا دورا ما. فليبيا هي في اغلبيتها الساحقة مجتمع عربي سني، رغم كونها ممزقة بسبب المواجهات بين القبائل.. وفي السنوات الاخيرة قطع القذافي نفسه عن الشؤون العربية وركز على افريقيا جنوب الصحراء.
وبالتالي، لم تسارع اي دولة عربية أو اسلامية اخرى الى الدفاع عن القذافي. كلها، سواء بهذه الحماسة الشديدة أو الاقل شدة، ايدت التدخل وتغيير النظام، وعندما وقع الامر بالفعل كان التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة طفيفا، كما كان متوقعا..
في اليمن، أدت الاحتجاجات الطويلة وسفك الدماء بالرئيس القديم، علي عبدالله صالح الى التنازل عن موقعه (وان كان صالح وزوجته نجحا في الفرار، ونائبه استولى على موقعه).
ومع ذلك، ففي فترة التشوش ما بعد نزول صالح عن الحكم، ليس واضحا الى أي مدى تغير النظام عمليا. فضلا عن ذلك، مثلما لتونس، لليمن ايضا وزن هامشي فقط في العلاقات الاقليمية بحيث أنه حتى اذا ما حصل تغيير سياسي أكبر، فانه لن يتغير الميزان الاقليمي بشكل جوهري. ومع ذلك، يجدر هنا أن نضيف ملاحظتين. الاولى هي أنه يوجد عنصر اثني/ديني طائفي مشارك في عدم الاستقرار في اليمن: يوجد سكان حوثيون/شيعة في شمال غرب الدولة، ثاروا على الحكم المركزي حتى قبل اندلاع الاضطرابات في باقي ارجاء الدولة، وحسب ادعاءات مختلفة تمتعوا بدعم ايراني. ملاحظة ثانية هي ان الحكومة المركزية تؤدي منذ زمن بعيد دورها رسميا فقط في الكثير من اجزاء الدولة، وتترك مجالا واسعا لازدهار عناصر جهادية كالقاعدة في شبه الجزيرة العربية. لهذين السببين ايدت صالح دول مثل السعودية وقوى سُنية اخرى مؤيدة للوضع الراهن، ومن شبه المؤكد ان هؤلاء سيحاولون احباط تطورات مستقبلية تضر بمصالحهم في شبه الجزيرة. وقد تجسد الامر بالملموس في أعقاب الثورة الحصرية ذات العنصر الديني الطائفي الصرف والتي قمعت، حتى الان، بتدخل عسكري اجنبي واسع البحرين.
في بداية 2011، بعد وقت قصير من اسقاط بن علي ومبارك من الحكم، أعلن الرئيس السوري بشار الاسد انه ليس قلقا من مصير مشابه وذلك لانه بزعمه ‘مرتبط جيدا بمواقف الشعب’. وبعد وقت قصير من ذلك، كانت تكفي حادثة تنكيل بطفل امسك به في المدينة الجنوبية درعا وهو يرش على الحائط شعارا مضادا للنظام، من أجل اشعال نار الاحتجاج الذي انتشر ضد القمع، الفساد وعدم أهلية نظام الاسد. كان يبدو أن الاسد لا يحب شعبه اكثر مما كان يحبهم بن علي ومبارك.
ولكن خلافا لتونس ومصر، فان الجيش لم يدر للحاكم ظهر المجن، وذلك اساسا بسبب الطبيعة الاجتماعية الديمغرافية المميزة للدولة. ومع ان الانتفاضة ضد الاسد لم تبدأ كحركة علنية ذات طابع اثني أو ديني طائفي، ومع ذلك فانها سرعان ما اتخذت هذه الاتجاهات (وربما بشكل محتم). وللحقيقة، فان ايديولوجيا حزب البعث كانت دوما ايديولوجيا القومية العربية وغير الطائفية تماما، وتمتع النظام تقليديا بدعم ما ايضا من الطائفة السنية، ولا سيما في أوساط النخبة التجارية المدينية. اما عمليا، فان القاعدة العلوية لاذرع الامن منحت حقوقا للاقليات، ولا سيما العلويين، في كل جوانب الاقتصاد السياسي، وخلقت احساسا بالظلم النسبي في أوساط اغلبية المسلمين السنة، واشعلت بشكل خاص النقمة من جانب الاسلاميين منهم تجاه ما اعتبروه حكم الكفرة. وعليه فليس مفاجئا أن تتخذ المعارضة صورة الحركة السنية، وان اقليات اخرى، عالمة جيدا بمصير المسيحيين في العراق وتخوف المسيحيين في مصر، تخشى على مصيرها في حالة يقظة اسلامية لم تعد مكبوحة الجماح بأيدي نظام طاغية. هذه المخاوف لا تنقطع عن الواقع، ولا سيما كلما اصبح العامل السلفي في المعارضة اكثر فأكثر وضوحا، ولكن بالتوازي يحرص الاسد على اشعالها كي يقلص الخطر في انتشار الاحتجاج في كل شريحة ديمغرافية اخرى باستثناء العلويين. وكنتيجة لذلك، ورغم النفي سواء من جانب الحكم ام من جانب المعارضة، باتت المواجهة في سورية دينية طائفية أكثر فأكثر بالتدريج مع تعاظم مظاهر العنف. وللدقة، فان مركزية سورية جعلت المواجهة الداخلية فيها محورا ستنتظم حوله المنظومات الاقليمية، كون تطوره ونتائجه قد تنتشر الى دول مجاورة فيها ايضا ينقسم المجتمع، وتؤثر على الميزان العام بين القطبين الفارسي العربي/الشيعي السُني المتنافسين على السيطرة في المنطقة.
منذ اندلاع الانتفاضة في سورية بدد الأسد قدرا لا نهاية له من التوقعات بنهايته القريبة. فقدرته على الصمود تنبع بشكل لا بأس به من الدعم المالي، العملياتي، الفني، اللوجستي والاستخباري الذي يتلقاه من ايران الدعم الذي وفق تقارير عديدة اتسع لدرجة التدخل الحقيقي في الحرب من جانب الحرس الثوري (لواء القدس). ويعود التفسير السطحي لالتزام ايران الى أن نظام الاسد هو ذخر استراتيجي. هذا صحيح بالتأكيد، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا هو ذخر، بمعنى لماذا دارج جدا الافتراض (الذي هو صحيح على نحو شبه مؤكد) بان بقاء الاسد سيبقي سورية في المعسكر الايراني، ولكن اذا سقط ربما بانقلاب لضباط علويين ينجحون في الاحتفاظ بالسلطة سيؤدي الامر الى تغيير الاتجاه نحو ابتعاد سورية عن ايران. الجواب الاكثر اقناعا على هذا السؤال هو أن الصلة الدينية الطائفية بين ايران وبين الماسكين بالحكم في سورية هي التي ستنشق.
الذخر/الحليف الاستراتيجي الثاني في اهميته لايران، حزب الله، ملتزم هو ايضا بدعم نظام الاسد المعارضة السورية تدعي حتى انها القت القبض على بعض من مقاتلي الحزب في سورية ومواقفه الكفاحية من الاحداث في سورية تطرح التخوف من اشتعال متجدد على خلفية التوتر الديني الطائفي في لبنان. فمن جهة، العضو الاخر الوحيد في كتلة ‘المقاومة’ حماس اضطر الى ابعاد نفسه عن الاسد لانه لم يكن بوسعه (رغم علاقاته الطويلة مع ايران) أن يبرر ارتباطه بالمعسكر ‘الشيعي’ في سورية امام جمهور مؤيديه السنة.. لا ريب أن الاردن هو الاخر يشعر بعطف قليل فقط تجاه الاسد (وايران) في ضوء مصاعب النظام السوري، رغم أنه يحرص على عدم الالتزام بذلك علنا. فبعد كل شيء، كان الملك عبدالله هو الذي حذر لزمن طويل قبل اندلاع الاضطرابات في العالم العربي ضد صعود ‘الهلال الشيعي’ في المنطقة.
واضح انه يمكن دوما تفسير التحالفات الخارجية بين الحكومات بواسطة فكرة مبسطة للغاية تسمى ‘المصلحة الوطنية’. ولكن، اولئك الذين لا يزالون يشككون باهمية الهوية السلطوية او الاجتماعية في تحديد ما هي المصلحة الوطنية، رغم ردود الفعل الاقليمية على الحرب الاهلية في سورية، يمكنهم أن يجدوا دليلا اكثر اقناعا في ذلك في التاريخ المتلوي للميل الاقليمي لدى العراق في عصر ما بعد اسقاط صدام حسين من قبل القوى الغربية. ويتضمن هذا العصر حربا أهلية متواصلة واقامة حكومة في بغداد بسيطرة شيعية. ولم يتغير شيء في الظروف الموضوعية التي قررت ظاهرا المصلحة الوطنية حسب الفهم الواقعي الجغرافيا، الطوبغرافيا، حجم السكان، المقدرات الطبيعية التي بقيت كلها كما كانت. الامر الوحيد الذي تغير كان الاقلية الطاغية، التي الى جانب الهيمنة الفكرية للقومية العربية ابقت الاغلبية الشيعية تحت حكم سني.
دول الخليج التي ساندت في الماضي صدام حسين في حربه ضد ايران لانها رأت فيه السور الواقي في وجه توسع الهيمنة الايرانية في المنطقة فقد تبنت الان نهجا باردا وبعيدا على نحو واضح تجاه الرئيس العراقي الحالي، نوري المالكي، كونها ترى فيه، ضمن امور اخرى، دمية أو جهة مساعدة نشطة في خدمة الهيمنة الايرانية.
الاستنتاجات
المتغير المركزي في محاولة تقدير الميزان الاستراتيجي في الشرق الاوسط هو نتيجة الحرب الاهلية في سورية. إذا بقي بشار الاسد (او حتى النظام بدونه) ففي المدى القصير من المتوقع أن يطرأ تغيير هامشي فقط على الميزان، هذا اذا وقع اصلا. ولكن اذا ما اسقط النظام فعندها بالضبط مثلما غير تغيير النظام في العراق الميزان الديني الطائفي الداخلي، وتوجه هذه الدولة بشكل أثر على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة، هكذا ايضا فان تغييرا مشابها في سورية سيخل بالتوازن الديني الطائفي الداخلي في الدولة، ونتيجة لذلك ميلها في مجال العلاقات الخارجية. ومن المتوقع لاهمية التأثير على المنظومة الاستراتيجية في المنطقة الا تكون أقل مما هي في العراق، ولا سيما اذا أخذنا بالحسبان المنافسة الاساسية بين القطب الايراني/الشيعي والعربي/السني في السياسة الاقليمية في الشرق الاوسط.
مفهوم أنه حتى لو لخصت هذه الثنائية جيدا الميزان الاستراتيجي في المنطقة، فانها بصعوبة تستنفد كل السيناريوهات المحتملة، لا سيما ان مسألة الهوية أعقد من أن تسمح بتحليل بسيط احادي البعد. وأحد اسباب التعقيد هو العدد الجم للجهات التي هي دون الدولة وفوق الدولة ممن يتوزعون بشكل قاطع بين المعسكرين.
سبب آخر هو حقيقة أن مراكز القوى الكبرى نفسها ليست بالضرورة ثابتة خالدة. فتغيير النظام لا يزال يمكنه أن يقع ايضا في ايران، وربما بشكل يتركه في هويته الشيعية، ولكنه يؤدي الى تغيير في ميله الاقليمي ويمنع منظومة اقليمية بقيادة ايران تقوم على أساس حماستها الايديولوجية. يحتمل حتى ان تقف ايران، التي توجد فيها أقلية لا بأس بها من السكان غير الفارسيين وغير الشيعة، امام تحديات العزلة تهدد وجودها، كما يحصل في سورية وفي العراق. أمر مشابه يمكن قوله عن السعودية، حيث يوجد سكان شيعة بعدد كبير ومغتربين في المحافظة الشرقية (والمنتجة للنفط) فيها. في حالة تحقق احد السيناريوهات الكثيرة لضعف دولة ما أو تفكك دولة ما، فان الاثار على المنظومات الاقليمية ستكون قاطعة.
فضعف مراكز القوة المركزية سيؤدي الى منظومة اقليمية أقل تراصا، مع فرص عديدة أكبر لجهات هامشية نسبيا للعمل كلسان الميزان، ولكن دون دافع الهوية القوي الذي يكبح جماح مدى مناورتها. وتجدر الاشارة الى أن وضعا من هذا القبيل سيكون مرغوبا فيه أكثر سواء من جانب القوى الخارجية المتحمسة لمنع صعود الهيمنة الاقليمية، أم من جانب جهات اقليمية كاسرائيل التي تعتبر (بتعابير الهوية الأصلية) ‘النموذج الشاذ’.
وحتى لو لم تضعف او تتفكك مراكز القوى المركزية، فلا تزال توجد امكانية نظرية ان تؤدي تقلبات سياسية في المنطقة مع الزمن الى تعزيز الميول الديمقراطية الليبرالية وهذه ستقلل بالتدريج من اهمية الهوية الاثنية/الدينية الطائفية أو تشجع على الاقل تعابيرها بوسائل قتالية او متطرفة بقدر أقل. من زاوية نظر اسرائيل فان قيام الديمقراطية الليبرالية (بما في ذلك في ايران) سيكون تطورا واعدا أكثر (وان كان معقولا أقل) من صعود مراكز قوة اخرى ولكنها أضعف، وتفكيك منظومة الدول في المنطقة الى كيانات اصغر.
وعلى الرغم من ذلك، لا ينبغي استبعاد امكانية تطورات اكثر بشاعة. وتناول توني بلير في العام 2001 نهج ايران تجاه طالبان، صدام حسين والقاعدة، وادعى ان ‘العداء كان المركز في الانقسام السني/الشيعي، وليست أساليب أو مذاهب كل طرف.
ودارت المعركة حول مسألة من يقود حركة رجعية داخل الاسلام، وليس من يمكنه أن يبني حركة تقدمية’. وهذه، بالطبع، ليست القوى الوحيدة في الميدان السياسي.
وفي التشكل المتواصل للربيع العربي لا تزال هناك جهات ليبرالية تتطلع الى تصميم رؤية حديثة للاسلام بالتعاون مع باقي العالم، الى جانب أنظمة طغيان قائمة تكافح في حرب شاملة لا توجد أي رؤية حقيقية خلفها.
غير أن موجة الاضطرابات في العالم العربي وضعت هذه الانظمة في حالة دفاع، وتركت فتحة محتملة فقط لذوي الحداثة، ممن عرضوا حتى الان قدرة محدودة فقط على استغلالها. وبدلا من ذلك، فان الاسلاميين هم الذين يتمتعون بالازدهار، سواء في العالم السني أم في العالم الشيعي. ليس واضحا بعد مَن مِن بين كل المدعين للتاج السياسي والاجتماعي هو الذي سينتصر، او حتى اذا كان الاسلاميون سيواصلون التقدم فأي تيار اسلامي سيتغلب. ومع ذلك، لا يمكن أن نستبعد تماما احتمالية أن تؤدي الدينامية الحيوية لليقظة العربية في نهاية المطاف الى ان ينتشر الوضع الذي وصفه بلير في 2001 في عموم الشرق الاوسط. اذا تبين ان آثار الربيع العربي ستؤدي في نهاية المطاف الى الصدام بين الهلال الشيعي والهلال السني/السلفي، فسنجد أنفسنا نتوق للفترة التي سادت فيها في المنطقة حرب باردة فقط.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
هناك تشابه بين نتنياهو واوباما
بقلم: سافي رخلفسكي،عن هآرتس
إن عزوف باراك اوباما عن مهاجمة سورية معروف لنا نحن الاسرائيليين من الداخل، فقد بدا اوباما في كلامه مثل بنيامين نتنياهو في بار ايلان وسائر خطبه التي تحدثت عن الدولتين، فمه مليء بالحصى. وكانت الكلمات تقول شيئا واحدا، وكان الجسم والعينان والنغمة تشير الى أن القلب موجود في مكان آخر. ليس ذلك صدفة، فقد ثبت هنا زعم أنه يوجد بين نتنياهو واوباما تشابه.
لم يتعدَ نتنياهو قط عالم أبيه بن تسيون، الذي كان يقول إن أجمل أدب في العالم هو أدب يهوشع هيشل يفين في كتاب ‘حلف الأوغاد’، وكتب التحريض التي سبقت قتل أورلوزوروف. وإن اوباما بحسب مفاهيم امريكية قديمة هو رجل الليبرالية الراديكالية، الذي يتمسك بتصورات معادية للاستعمار حقيقة. وهذا الوضع يوجب استعمال لغة مزدوجة احيانا ولزوم استراتيجية ‘القيادة من الخلف’ في حنكة كبيرة لتحافظ على المركز معك.
جاء نتنياهو واوباما الى الحكم على أثر عنف مفرط. وفي الحالين غيرت الظروف التي سبقت وانتخابهما بسببها سياستهما تغييرا عميقا. وفي الحالين كان ذلك ردا عاما مضادا، إنه رد مضاد يصعب على كثيرين الاعتراف به.
انتُخب نتنياهو على أثر قتل رابين، وبعد أن كان يشرف هو نفسه على مظاهرات التحريض، فالحديث عن رد عام غير عادي. فالوضع في الديمقراطيات على نحو عام هو أن الطرف الذي يُقتل زعيمه يغلب ويُهزم الطرف المحرض. في الولايات المتحدة فاز لندون جونسون، الذي لم يكن ذا حضور قوي بفرق كبير ردا على قتل كنيدي؛ وحدث رد مشابه في الهند على أثر قتل المهاتما غاندي، وفي مناطق الاستيطان اليهودي بعد قتل أورلوزوروف، لكن لم يحدث ذلك في حال نتنياهو.
وجاء اوباما الى الحكم ردا متأخرا عكسيا على عمليات اسامة بن لادن. كان الرد الاول في الحقيقة ارسال رئيس مكلف الى الحرب، لكن الرد السياسي المتأخر أحدث انقلابا، فقد أراد أكثر الجمهور الامريكي والغربي هدوءً وحياة طبيعية وابتعادا عن الشرق الاوسط الغاضب. وأراد مغادرة ومصالحة وعدم تدخل، وكأنه تم الوفاء من جهة سياسية بالرغبات التي كانت موجودة في أساس ارهاب بن لادن وقتل رابين.
إن نتنياهو واوباما على عكس كثير من المصوتين لهما، ليسا انتهازيين، فهما ايديولوجيان يلتزمان بانشاء دولتين مختلفتين تماما عما انشأت النخب السابقة التي يبغضانها. وهي بالنسبة لنتنياهو نخبة اعلان الاستقلال التي كانت من وجهة نظره اشتراكية متطرفة ومضطهدة للمعسكر القومي؛ ومن المعلوم من وجهة نظر اوباما أن العنصرية الموجهة للسود واستعمار النخب الواسعة أمر بغيض. وليس عجبا أن ينظر الى دور الاصلاحيين في ايران، فمن اشمئزازه من انقلاب الـ ‘سي.آي.ايه’ هناك في 1953 اشتُق عدم تدخله في ‘شؤونها الداخلية’.
معلوم أن انتقاد نظام نتنياهو لعدم اخلاقية سياسة اوباما سخيف. ولم تعلن اسرائيل أنها ستهتم بمصالحها فقط ولن تتدخل في سورية، فهذا ما كان في موقف شارون من مجزرة صبرا وشاتيلا، حينما قــال إن العرب قتلوا العرب فماذا يريدون منا.
وهذا ما كان في تأييد اسوأ نظم الحكم: في اريتريا وحكم الجنرالات في الارجنتين، رغم أن كثيرا ممن قتلهم كانوا يهودا يساريين، ونظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا، ورفض تجنيس أي لاجئ اليوم. إن اسرائيل نتنياهو التي أتمت الانقلاب على عالم اعلان الاستقلال هي آخر دولة تستطيع الاحتجاج على سياسة واقعية غير اخلاقية.
وصف ديفيد بن غوريون استقرار رأي الحكومة على عدم احتلال الضفة في أواخر 1948 بأنه ‘بكاء سيدوم لأجيال’، لكنه اهتم في واقع الامر بأن يتم اتخاذ قرار يُضاد موقفه المعلن ويكون على حسب رأيه الحقيقي. فهل سيتصرف اوباما على هذا النحو؟ سنرى.
يُمثل نتنياهو واوباما شيئا واحدا بوضوح، وهو أهمية الزعيم. فهما يُبرزان معنى عدم وجود زعيم منذ حدث قتل رابين في معسكر اعلان الاستقلال.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
اللعب مع الشيطان
بقلم: ارال سيغال،عن معاريف
‘غني عن البيان كتابة مقال آخر يندد او يثني على تردد الرئيس اوباما. ‘حين تسكت الصقور، تبدأ الببغاوات بالثرثرة’ قال تشرتشل، حكمة تنقصنا جدا الان. لا خلاف في أن الامريكيين يجدون صعوبة في انتاج سياسة متماسكة قادرة على التصدي لفوضى الشرق الاوسط. يخيل ان المقارنة بالايام المظلمة في التاريخ صحيحة اكثر من أي وقت مضى. فقد اختار البرلمان البريطاني العار الاخلاقي، واثبت كم عميقا دفن إرث تشرتشل. ايران تنظر بهزء وهي واقفة الى الجانب، وتتقدم بخطى حثيثة نحو القنبلة. والصحيح في هذا الوقت هو أن ليس هناك من يوقفها. والروس مثل الروس، مثلما كانوا في الايام المظلمة لحلف ريبنتروف مولوتوف، مرة اخرى يلعبون مع الشيطان. كأمة، الروس لم يعملوا دوما حسب المنطق الغربي المقبول او المقاييس الحضارية. فحقوق الانسان تهمهم كما تهمهم الشعرات التي تساقطت العام الماضي.
‘لا يمكنني أن أتوقع الاعمال الروسية’، اوضح تشرتشل في حينه. ‘هذا لغز، مغلف بالغموض، والمجهول؛ ولكن لعله يوجد مفتاح وهذا المفتاح هو المصلحة القومية الروسية’. وما هي المصلحة التي تقود سياسة بوتين التهكمية؟ ليس النفط، فروسيا ليست متعلقة بالشرق الاوسط. ولا المصالح الاقتصادية الصرفة. كل محاولة لتحليل السلوك الروسي بادوات قيمية او كبديل بالواقعية السياسية مآلها الفشل، لان السلوك الروسي مأخوذ من مجال الصحة النفسية. دافعية تتغذى بوقود جنون قوة عظمى انهارت ويعاد بناؤها. من مهانات الماضي. الرغبة في العودة الى الهيمنة كقوة عظمى حيال الولايات المتحدة، العامل التاريخي الذي فكك الاتحاد السوفييتي في نهاية منافسة دامية، يفوق كل اعتبار للمنطق الاخلاقي. ولهذا فان الروس الان يلعبون اللعبة الشعبية الخطيرة، الروليت الروسي.
ان الاستخدام الابكر لتعبير الروليت الروسي يظهر في قصة قصيرة بقلم جورجي سورداز الفرنسي في العام 1937. وتأتي الحبكة بقصص المقاتلين في الفيلم الاجنبي الفرنسي، ومنها تجربة في الحرب العالمية الاولى لعريف روسي في الفيلق. ذاك الروسي خدم في جيش القيصر في منطقة رومانيا، العام 1917 والواقع كان يهتز من لحظة الى لحظة بسبب الثورة التي اندلعت في الام روسيا. بالنسبة لضباط الجيش القيصري بدا المستقبل عديم الامل، وقد شعر اولئك الضباط ليس فقط بانهم يفقدون عائلاتهم، مكانتهم المهنية ومستقبلهم الاقتصادي، بل وبالاساس بالاهانة امام الزملاء من جيوش الحلف. وكان الضباط الروس يمسكون فجأة مسدساتهم في اماكن مختلفة، في غرفة الطعام، حول طاولة في مقهى، في جلسة لاحتساء كأس مع الاصدقاء، يفرغون عبوة المسدس الا من رصاصة واحدة، يديرونها، يغلقون، يلصقون المسدس بالرأس ويضغطون على الزناد. كانت هناك خمس فرص الى واحدة في أن تطرق المطرقة الرصاصة الحية فتزين الغرفة بدمائهم. هذا حصل في بعض الاحيان ولم يحصل في اخرى، كما يجمل العريف الروسي في قصته. لعبة اخرى للضباط الروس في تلك الفترة تسمى ‘الكوكو’. عدد من الضباط كانوا يجتمعون في غرفة، يطفئون النور، يختبئون خلف الاريكة والكراسي وهم مسلحون بطلقة واحدة في المسدس، وعند صوت ‘الكوكو’ ينهضون ويطلقون النار من دون تمييز في اتجاهات مختلفة.
الثمن في الروليت الروسي معروف. الاحتمالات على الطاولة، 1 الى 5. القنبلة الشيعية الايرانية في الطريق الى حكم المهدي لن توفر حياة الروس حين تطلق على اليهود أو الانجلوساكسونيين البروتستانتيين. يمكن فقط الامل في أن يطيع التاريخ المنتقد الحاد للروس، الرفيق كارل ماركس، فيتكرر كمهزلة وليس، لا سمح الله، كاعادة لمأساة معروفة مسبقا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــ