Haneen
2013-12-08, 11:19 AM
اقلام واراء عربي 468
5/8/2013
في هذا الملــــف:
ممارسات إسرائيلية غير مقبولة
رأي الراية القطرية
محاولات إسرائيلية لوأد عملية السلام
رأي الوطن السعودية
بماذا تبشـرنا مفاوضات واشنطن؟!
ياسر الزعاترة - الدستور الأردنية
وساطة جون كيري: مفاوضات استئناف المفاوضات
جميل مطر - دار الحياة
الربيع العربي والمستوطنات الإسرائيلية الجديدة
عطاء الله مهاجراني – الشرق الأويط
حماس و«محور الممانعة» ... هل هي «عودة الابن الضال»؟!
عريب الرنتاوي - الدستور الأردنية
حقيقة الشرعية
المستشار إسلام إحسان - اليوم السابع
أسئلة السقوط التاريخي للإخوان
يوسف الحسن - دار الخليج
الملف النووي وسورية: المهمة المستحيلة لروحاني؟
جورج سمعان- دار الحياة
الحلقة الضائعة في الثورات العربية (1)
جورج قرم – السفير اللبنانية
ممارسات إسرائيلية غير مقبولة
رأي الراية القطرية
يبدو أن قدسية ليلة القدر المباركة لم تمنع إسرائيل من التوقف ولو لفترة مؤقتة عن جرائمها وتضييقها بحق الفلسطينيين ككل وقاصدي المسجد الأقصى على وجه الخصوص لإحياء هذه الليلة المباركة والتي هي خير من عبادة 83 عامًا، فبالرغم من حملهم لتصاريح تسمح لهم بدخول المدينة المقدسة إلا أن إسرائيل واصلت سياساتها الإجرامية وغير الأخلاقية بحق الفلسطينيين بمنع من هم دون الأربعين عامًا من التعبد في هذه الليلة في إولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ليس بغريب على دولة الاحتلال الإسرائيلي التضييق على الفلسطينيين في معيشتهم وعبادتهم وحتى في وجودهم على أرضهم المحتلة، ولكن الغريب أن يبقى هذا الصمت الدولي المطبق تجاه كل هذه الجرائم، فالدول الغربية وصاحبة القرار الدولي المؤثر على وجه الخصوص، تغض الطرف متعمّدة عن الممارسات الإسرائيلية وهي التي صدّعت الرؤوس بمطالبتها العلنيّة باحترام الحريّة الدينية للأفراد والجماعات في العالم، وحينما يأتي الحديث عن الجرائم الإسرائيلية لا تجد لهم صوتًا ولا حتى ردة فعل خجولة.
العنصرية الدينية الإسرائيلية ليست مقتصرة على المسلمين فحسب، بل إن المسيحيين في الأراضي المحتلة يعانون من نفس الممارسات والتضييقات، وهذا يثبت في كل يوم أن إسرائيل دولة مارقة ومتمرّدة على القانون، بل إنها تتلذذ تعذيب الآخرين وكسر إرداتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم وهي حرية ممارسة المعتقد، فهي ما انفكت عن تدنيس المسجد الأقصى وقبة الصخرة بسماحها لقطعان المستوطنين بالتجول في باحات الأقصى تحت حراسة مشدّدة وكذلك غض الطرف عن ممارساتهم الاستفزازية بحق المصلين والمعتكفين.
إسرائيل ومنذ قيامها على الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وضعت نصب عينها السيطرة على القدس وتهويدها، وقد عملت انطلاقًا من منطق القوة على تسريع التهويد وطمس المعالم الإسلامية والمسيحية في المدينة وعموم فلسطين التاريخية، وما الحفريات الخبيثة تحت المسجد الأقصى المبارك وسرقة حائط البراق إلا إجراءات لفرض الهيكل المزعوم واقعًا مكان المسجد الأقصى المبارك، فحكومة الاحتلال تولي الجماعات الإسرائيلية المتطرّفة المُطالبة ببناء الهيكل أولوية خاصة من حيث التمويل والغطاء القانوني.
ليلة القدر لها قدسية خاصة لدى المسلمين، كيف لا وهي الليلة التي أُنزل فيها القرآن ليكون هدى للناس، ومنع إسرائيل الفلسطينيين من إحياء هذه الليلة المباركة بالصلاة في المسجد الأقصى لا يمكن قبوله ولا تبريره، فهذا الحق لا يقل أهمية عن حق الفلسطيني والعربي في الوجود، وهو حق لا يمكن المساومة عليه، وعلى إسرائيل التوقف فورًا عن هذه الممارسات البشعة إذا كانت جادة في تحقيق السلام العادل والشامل، فعليها أن تسوق نفسها كدولة راغبة بالسلام من خلال احترام حقوق الفلسطينيين وبالأخص الحقوق الدينية.
محاولات إسرائيلية لوأد عملية السلام
رأي الوطن السعودية
منذ اليوم الأول الذي تبنى فيه جون كيري مهمة تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قال كثيرون إن مهمته مستحيلة، لأن التاريخ مملوء بشواهد تبين إصرار إسرائيل على إفشال أي عملية سلام حقيقية مع الفلسطينيين. لكن كيري قال في بداية مهمته إن "الفشل ليس خيارا"، وبالفعل كرس وقته وجهده الأساسي لمتابعة جهود استئناف محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى أن نجح في إقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات.
لكن الرد الإسرائيلي الحقيقي على محاولات الوصول إلى سلام بين الطرفين لم يستغرق وقتا طويلا، فقد تحدثت صحيفة معاريف الإسرائيلية مؤخرا عن اتفاق سري بين رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الإسكان يوري أرييل من حزب البيت اليهودي تم من خلاله إقناع هذا الحزب اليميني بالبقاء في الحكم مع بداية المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية. الاتفاقية تضمنت إجراءات للمصادقة على بناء 1000 بيت جديد في الضفة الغربية والقدس الشرقية. التقرير قال إنه سيتم لاحقا منح موافقة على بناء 3500-4000 بيت جديد. وبما أن الضفة الغربية والقدس الشرقية هي مناطق محتلة بموجب القانون الدولي، فإن هذه الخطوة تعتبر انتهاكا جديدا لما تم الاتفاق عليه مع الفلسطينيين الذين أصروا على تجميد توسيع المستوطنات في المناطق المحتلة من أجل الموافقة على العودة إلى طاولة المفاوضات. لذلك فإن من المتوقع أن تسفر هذه الخطة الإسرائيلية الاستفزازية عن ردة فعل سلبية من الفلسطينيين الذين قد ينسحبون من المفاوضات كما حدث من قبل أكثر من مرة في ظروف مشابهة.
لقد أثبتت إسرائيل أنها لا تعير أي أهمية للقانون الدولي وأنها غير معنية بالوصول إلى اتفاق سلام عادل مع الفلسطينيين، معتمدة على الدعم الدولي، وخاصة الأميركي، الذي يقدم الدعم الكامل والمفتوح لإسرائيل في جميع الظروف والحالات. لذلك فإن على الولايات المتحدة بشكل خاص أن تسعى لوضع الضغوط في مكانها وإجبار إسرائيل على الالتزام بتعهداتها وانتهاج مسار جدي للوصول إلى اتفاقية سلام مقبولة من الفلسطينيين.
إذا كان المجتمع الدولي معنيا باستقرار الشرق الأوسط، فعليه أن يثبت ذلك بخطوات عملية لأن مجرد الإعلان أن "الفشل ليس خيارا" لا يكفي وحده لإنجاح عملية معقدة مثل السلام في الشرق الأوسط.
بماذا تبشـرنا مفاوضات واشنطن؟!
ياسر الزعاترة - الدستور الأردنية
ها هي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تستأنف من جديد، وذلك بعد أن عانى صائب عريقات البطالة أكثر من ثلاث سنوات، وها هو مارتن إنديك، الصهيوني العريق، صديق قادة السلطة، وسفير أمريكا الأسبق في الكيان الصهيوني يعود إلى الحلبة من جديد كمشرف على تلك المفاوضات، فهل ستكون الرحلة الجديدة كسابقاتها، أم أن في الأفق احتمالات أخرى؟!
يبدو من الكسل الفكري القول إنها ستكون عبثية كسابقاتها، ولا نعني بنفي العبثية هنا أنها (أي المفاوضات) ستمنح الفلسطينيين شيئا أفضل من الجولات السابقة منذ مدريد 91 ولغاية الآن، ولكن لجهة ما يمكن أن تتوصل إليه من نتائج خلال ستة إلى 9 أشهر، هي المدة التي حددها كيري، أو خلال فترة أطول بحسب التطورات (المواعيد ليست مقدسة كالعادة!!).
من الضروري التذكير بأن واشنطن وقيادة السلطة لم تجد بدا من الخضوع لشروط نتنياهو لاستئناف التفاوض، فلا الاستيطان تم تجميده، وهو للتذكير استيطان في الأراضي المحتلة عام 67 التي ينبغي أن تقام عليها الدولة الفلسطينية العتيدة، ولا شرط أن يكون التفاوض على قاعدة حدود 67 تم القبول به، فيما منحت السلطة حافزا يصلح للتسويق في احتفالات مهيبة، أعني الإفراج عن 104 من كبار الأسرى الذين اعتقلوا قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 93، مع العلم أننا نفرح بالإفراج عن أي أسير مهما كانت محكوميته، وأيا يكن انتماؤه، لكن ذلك شيء والتخلي عن القضية التي ناضل الأسرى والشهداء من أجلها شيء آخر، وهو ليس ذنبهم على كل حال.
سمعنا عن العرض الذي قدمه كيري لمحمود عباس، لكن العرض لا يشتمل على أي عنوان يستحق التوقف، بما في ذلك الحديث عن دولة متواصلة جغرافيا (مصطلح بائس يشي بما وراءه، إذ كيف تكون دولة إذا لم تكن متواصلة جغرافيا، مع العلم أن التواصل يمكن أن يتم، بل الأرجح أن يتم من خلال الجسور والأنفاق بسبب التوافق على بقاء الكتل الاستيطانية الثلاث الكبيرة في عمق الضفة الغربية، وهي التي تفتت الكيان الفلسطيني، وتسيطر على أحواض المياه في الضفة، ومع ذلك سيتم التخلي عنها تحت مسمى تبادل الأراضي الذي تم التأمين عليه عربيا).
ولكن ما الذي يدفعنا إلى القول إن هذه المفاوضات قد لا تكون كسابقاتها من حيث النتيجة النهائية؟ السبب هو الأجواء العربية والدولية التي تقف خلفها، وفي المقدمة انشغال الأنظمة العربية الكبيرة التي كانت تسمى محور الاعتدال بمطاردة ربيع العرب والإسلام السياسي، وفي مقدمته الإخوان وحماس ومن على شاكلتهما، بما في ذلك القوى السلفية التي تنخرط في العمل السياسي.
أما الذي لا يقل أهمية، فيتمثل في وجود قيادة فلسطينية لديها القابلية للتنازل وعقد الصفقات السرية، وهي عموما تبدو موافقة على أحد الاحتمالين اللذين يمكن أن تسفر عنهما المفاوضات، ويتمثل أولهما في دولة في حدود الجدار الأمني مع بقاء القضايا الأخرى عالقة، ولكن كنزاع حدودي، وسيكون من المناسب بعد ذلك الدفع في اتجاه حصول تلك الدولة على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ليكون الاحتفال التاريخي بوقوف محمود عباس خلف تأسيس الدولة الفلسطينية الديمقراطية الحديثة كما ذهب رئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز!!
والحال أن هذا المسار كان يمضي دون توقف منذ ورثت قيادة السلطة الحالية ياسر عرفات، وهو مسار تجمع عليه الأوساط الإسرائيلية بكل ألوانها السياسية، لكن الاحتمال الآخر لا يبدو مستبعدا. أعني الوصول إلى اتفاق نهائي يتمثل في دولة على الأراضي المحتلة عام 67 دون الغور، ودون الكتل الاستيطانية، وبالطبع دون سيادة كاملة، فضلا عن كونها منزوعة السلاح وبضمانات أمنية مشددة. وتبقى قضية القدس الشائكة التي أفشلت مفاوضات كامب ديفيد عام 200، والمفاوضات مع حكومة أولمرت قبل سنوات، وهذه سيكون لها حلا مبتكرا يتمثل في عاصمة فلسطينية في المناطق التي ضمَّت إلى القدس بعد عام 67، فيما تبقى المدينة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية وإشراف عربي دولي على المقدسات لا يحرم الصهاينة من استمرار البحث عن الهيكل المزعوم في محيط المسجد الأقصى. ولا ننسى أن ترتيبات كونفدرالية مع الأردن ستكون حاضرة في المشهد التالي، فيما ستجري مطاردة قطاع غزة حتى تركيعه وضمه للمشروع من خلال مصر ما بعد الانقلاب.
لا عودة بالطبع للاجئين للأراضي المحتلة عام 67، بل سيتوزعون على مناطق السلطة، والمناطق التي يعيشون فيها، ولا يعرف إن كانت هناك تعويضات سيتكفل بها العرب على الأرجح، أم ستعتبر مقايضة مع ما يعرف بأملاك اليهود في الدول العربية التي هاجروا منها إلى الكيان الصهيوني.
احتمالان إذن للمفاوضات الجديدة تشجع عليهما مرونة السلطة، ودعم العرب للعملية التفاوضية الجديدة (روحية الاحتمال الثاني هي وثيقة جنيف وملحقها الأمني). لكن السؤال هو: هل سيستقر الوضع على أي من الحالين فيما لو أنجز؟ الجواب هو لا، فلا الشعب الفلسطيني سيقبل بصفقة بائسة من هذا النوع (لا قيمة لاستفتاء لأهل الداخل يستثني الشتات، ويمكن التلاعب بنتائجه)، ولا جماهير الأمة ستقبل به بعد أن تستأنف ربيعها من جديد بعد مرحلة التعثر الحالية.
وساطة جون كيري: مفاوضات استئناف المفاوضات
جميل مطر - دار الحياة
مرة أخرى، لعلها المرة العشرون، التي ينتابني والكثير من أبناء جيلي الشعور بأن أحداً ما يتعمد الاستخفاف بنا كأمة عربية ويستهين بالقادة العرب. قبل أيام جلسنا نستمع إلى رواية عن السناتور جون كيري الذي أصبح وزيراً للخارجية الأميركية، تحكي كيف أنه قضى أربعة شهور كاملة يضع خطة تهدف إلى «استئناف» المفاوضات المتوقفة بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل. تحكي أيضاً أنه في نهاية الشهور الأربعة تحقق له ولخطته النجاح حين اجتمع في واشنطن قبل أسبوع وعلى مائدة واحدة السيد صائب عريقات القائد الدائم لفريق المفاوضات الفلسطيني والسيدة تسيبي ليفني وزيرة العدل في حكومة اليمين التي يرأسها بنيامين نتانياهو، عن الجانب الإسرائيلي. الأمر الواضح طبعاً هو أن المفاوضات لن تجري، كما جرت في جولة سابقة، بين وفدين كل منهما يقطن في طابق بعيداً من الطابق إلذي ينزل فيه الوفد الآخر، بينما يقضي الوسيط الأميركي وقته متنقلاً بين الطابقين. والمعنى أيضاً واضح وهو أن الوسيط جون كيري يريدها مفاوضات ودية في جو ناعم وأليف وخالٍ من التوتر وبعيد من أعين المتطفلين.
كغيرها من المرات السابقة التي ألفناها وحفظنا خطواتها أحيطت العملية، وأقصد عملية «الاستئناف»، بهالة من التعظيم. إذ خرج الرئيس الأسبق جيمي كارتر صاحب المكانة المتميزة في موضوع مفاوضات السلام منذ أن توصل خلال رئاسته إلى اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، فكانت أول وآخر إنجاز حققه لبلده خلال حياته السياسية الممتدة حتى عمر يكاد يناهز التسعين عاماً، خرج مشيداً بالمجهود الخارق الذي بذله الوزير كيري وبشجاعة نتانياهو الذي لولاه لما أقدمت إسرائيل على ما أقدمت عليه من أجل استئناف المفاوضات.
قيل في الحكايات التي صاحبت الإعلان عن نجاح السناتور كيري في جمع الطرفين إلى مائدة واحدة، ومنها حكاية الرئيس كارتر، إن نتانياهو على وشك أن يدخل التاريخ باعتباره «البطل التاريخي الذي جاء بالسلام الكامل والنهائي»، إذ أن لا أحد غير نتانياهو كان يمكن أن يكون صانعاً للسلام. يدللون على حجتهم بأن توني بلير، الرجل الخفي في «عملية توقف المفاوضات» وعمليات أخرى عديدة لا علاقة لها بالصراع العربي - الإسرائيلي بقدر علاقتها بصنع ثروة خاصة مستفيداً من عقبات السلام، كان يعرف طول الوقت أن نتانياهو سيكون صانع السلام.
يقولون أيضاً، وكارتر بين القائلين، إن خطة الوزير كيري تستحق الإعجاب لأسباب أربعة على الأقل، أولها اعتمادها على إصرار عنيد ينوي التمسك به. ثانيها، فرضه مبدأ السرية المطلقة على المفاوضات وعدم إدلاء المفاوضين بتصريحات إلا بموافقة الأطراف الثلاثة. ثالثها، إخراج عملية المفاوضات، مكاناً وزماناً وشكلاً وتنظيماً، بحيث تجري في واشنطن تحت سمعه وبصره وبعيدة تماماً من تدخلات السياسيين المعارضين ومن الرأي العام وأسماع القوى المتصارعة في الميادين العربية. رابعها، نجاحه المرموق في «تشغيل» الجامعة العربية وفي «مناشدة» الجاليات اليهودية في أميركا. مهم من دون شك التمييز في الصياغة بين إصدار أوامر لتشغيل الجامعة العربية وبين مناشدة وتوجيه نداءات إلى الجالية اليهودية، وبخاصة في السياق الراهن لحال العرب في الشرق الأوسط وعلى ضوء المزاج السائد بين اليهود في الولايات المتحدة بعد الانتصار الذي حققه نتانياهو بمساعدتهم على الرئيس باراك أوباما في المواجهات التي وقعت على أرضه وفي ساحته.
إلى جانب الإشادة بانجازات جون كيري تعددت مظاهر الإشادة بعنصرية نتانياهو خلال الشهور الأربعة التي كان كيري يستعد فيها لإطلاق المفاوضات، وبخاصة حين جرت المحاولة المعتادة للمناورة بلعبة يطلق عليها أحياناً «الثنائي الخبيث»، وأقصد الربط المتعمد بين قضية وقف بناء المستوطنات وقضية الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، باعتبارهما القضيتين اللتين يتشبث بهما الفلسطينيون كشرطين لاستئناف المفاوضات. عرف الوسطاء الأميركيون والأوروبيون كما عرف الإسرائيليون أن التنازل في واحدة منهما بعد مفاوضات شاقة يسمح بالتمسك بالأخرى، بمعنى أنه بعد إنهاك الفلسطينيين وحلفائهم، إن وجدوا، يلجأ الأميركيون والإسرائيليون إلى الإفراج عن عدد من المعتقلين مقابل تنازل الفلسطينيين عن التمسك بشرط وقف الاستيطان.
وكما جرت العادة شهدت المرحلة الأخيرة من مباحثات الاستعداد لاستئناف المفاوضات مناوشات ومناورات داخل العائلة الإسرائيلية وبخاصة بين نتانياهو ونافتالي بنيت رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» والشريك في الحكومة، وهي المناورات التي انتهت بموافقة ثلاثة عشر وزيراً على تقديم التنازل بإطلاق سراح بعض المعتقلين، بشروط لعلها لم تعلن صراحة بوضوح كافٍ، أولها أن تبقى المفاوضات المستأنفة مفتوحة إلى الأبد، بمعنى ضرورة العمل على إطالتها ورفض كل محاولات وضع حد أو نهاية لها، وأن تبقى في حدود مهمتها الأساسية وهي الاستعداد لاستئناف المفاوضات. ثانيها، الحصول من الاتحاد الأوروبي على قرار جديد يضمن عدم تنفيذ قراره منع التعامل الاقتصادي مع المستوطنات والتعهد بعدم التدخل بأي قرار جديد يؤثر في مسيرة استئناف المفاوضات. ثالثاً، الاستفادة من استئناف المفاوضات واستمرارها لفترة طويلة لاستعادة مكانة أفضل لإسرائيل في المجتمع الدولي ولاستكمال أهداف إسرائيل في الاستيطان والهيمنة على بقية الأراضي الفلسطينية.
لفت انتباهنا أن صحفاً كثيرة كتبت عن سمات التفاؤل التي بدت على وجوه المفاوضين الإسرائيليين والوسطاء الأميركيين، ومن بينهم الوسيط الجديد المثير للجدل والقادم من مؤسسة بروكنغز وصاحب السجل الطويل في تقلبات الولاء السياسي، مارتن إنديك. أستطيع أن أفهم دواعي هذا التفاؤل، فبالنسبة الى الأميركيين قد يحمل هذا الاجتماع للرأي العام الأميركي معنى أن أوباما ليس سيئاً أو ضعيفاً إلى الدرجة التي أصبح يوصف بها في معظم دوائر صنع القرار في دول عديدة، وان إدارته قادرة على تحقيق إنجاز في أصعب قضية دولية على الإطلاق، بما يعني زيادة في احتمالات نجاحه في قضايا دولية أخرى متعثرة.
أتصور أيضاً أن الأميركيين متفائلون لأنهم ربما اعتقدوا أن «الاستئناف» في حد ذاته يمكن اعتباره مكسباً تمكنت اميركا من انتزاعه من أطلال الربيع العربي. بمعنى آخر، الاعتقاد بأن الديبلوماسية الأميركية استطاعت خلال الشهور الأربعة الماضية إقناع الإسرائيليين بأن المرحلة الراهنة أفضل المراحل على الإطلاق لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن العرب في غالبيتهم العظمى إما مشغولون في مشاكلهم الداخلية أو لأن الحكام العرب متوجسون شراً من عواقب تطور الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة في اتجاه أن تصبح صراعاً سياسياً وعسكرياً إقليمياً بأبعاد رهيبة في نظام دولي وإقليمي غير مستقر.
كتب معلق أميركي يشيد بهذا التفاؤل البادي بوضوح لدى الجانبين الأميركي والإسرائيلي، ويقول إن المفاوضين في هذين الجانبين واثقون من أن السلطة الفلسطينية بعثت بمفاوضها الأوحد، السيد صائب عريقات، رغم معرفتها ومعرفة كل أطراف «مفاوضات الاستئناف» بأنه يمر في أشد مراحل حياته السياسية والديبلوماسية ضعفاً، لأسباب داخلية وشخصية عديدة، ولجروح عميقة خلفتها حملة إعلامية شرسة.
لا شك في أنها فرصة ذهبية ولا تعوض، فرصة الدخول في مفاوضات، تحت الضغط، للحصول لإسرائيل على الكثير والكثير مما سعت إليه. إذ قد لا يحدث في وقت قريب أن تكون الساحة العربية غير منتبهة بكل حواسها إلى القضية الفلسطينية، كما هي الآن، وقد لا يحدث أن تتمكن أميركا في ظل استمرار تنفيذ انسحاباتها من الشرق الأوسط، من أن تؤثر كما تؤثر الآن في القرار الإسرائيلي بأسلوب يلجم قوى التطرف. مرة أخرى تجد الولايات المتحدة نفسها تتفاوض مباشرة مع إسرائيل في قضية تتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي في غياب العرب. مرة أخرى تتعرض الديبلوماسية الأميركية لاختبار مصادر قوتها على يد إسرائيل، أقرب حلفائها.
الربيع العربي والمستوطنات الإسرائيلية الجديدة
عطاء الله مهاجراني – الشرق الأويط
في ضوء الأحداث الحالية في منطقتنا، ولا سيما في فلسطين، أعتقد أن الضحية الكبرى للربيع العربي كانت ولا تزال تتمثل في الفلسطينيين، وبالطبع عملية السلام الفلسطينية، فالمسلمون مشغولون بقتل وإرهاب بعضهم البعض في سوريا والعراق ومصر وأفغانستان، وحتى في تونس، وأصبحنا نركز الآن على ميدان رابعة العدوية وميدان التحرير، بدلا من التركيز على فلسطين، وهو ما أصبح بمثابة فرصة ذهبية لإسرائيل للتخلي عن عملية السلام وبناء مستوطنات جديدة كل شهر، وصدق المثل القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد».
وكان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد وضع البيض كله في سلة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وكان هذا بمثابة رهان كارثي جعله في النهاية يفقد المصالح الفلسطينية في دول الخليج، كما كررت حركة حماس نفس الخطأ الاستراتيجي لعرفات عندما وضعت كل البيض في سلة محمد مرسي. وللأسف، لا توجد وحدة في العالم الإسلامي في الوقت الراهن، ونفس الأمر ينطبق على الفلسطينيين أنفسهم.
والآن، أصبحنا في موقف معقد للغاية، حيث أصبحت هناك عملية سلام جديدة، ومبعوث أميركي خاص لعملية السلام معروف بدعمه التام لإسرائيل وهو السفير مارتن إنديك، الذي جاء بعصاه السحرية لإضاعة الوقت ومحاولة خلق أجواء إيجابية لتحقيق مصالح إسرائيل. وأعتقد أن هذا الوضع المعقد له ثلاثة أبعاد مختلفة:
1 - أعلنت القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي أنه على الرغم من القرار الإسرائيلي بالإفراج عن 104 معتقلين فلسطينيين واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، فإن وزارة الإسكان الإسرائيلية قد وافقت على إنشاء مستوطنة جديدة في قلب القدس الشرقية المحتلة. ووافق وزير الإسكان الإسرائيلي أوري أرئيل على الخطة. وأضاف أن الكثير من المحللين السياسيين في إسرائيل يعتقدون أن هذه القرار يعد بمثابة ضربة قوية للجهود الرامية إلى استئناف واستمرار المفاوضات. وتم تقديم الخطة مرة أخرى إلى مجلس المدينة الذي وافق عليها، ومن المقرر أن تتم عمليات البناء على مساحة خمسة دونمات. وقد رفض الجانب الفلسطيني هذه الخطة، ولكن يبدو أنه عازم على استئناف الجولة الأولى من المفاوضات مع الإسرائيليين.
2 - توقفت المفاوضات المباشرة بين الجانبين منذ سبتمبر (أيلول) 2009، عندما استأنفت إسرائيل عملياتها الاستيطانية. وتنتشر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، علاوة على أن الجدار العازل قد حول الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات منعزلة. يذكر أن مساحة الضفة الغربية تصل إلى 5655 كيلومترا مربعا طولا، وما يتراوح بين 40 و65 كيلومترا عرضا، بينما تصل مساحة قطاع غزة إلى 365 مترا مربعا طولا وما يتراوح بين 5 و12 كيلومترا عرضا، وهو ما يعني أن إجمالي الأراضي الفلسطينية يصل إلى 6020 كيلومترا مربعا.
وقال مسؤول بالبيت الأبيض، إن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد التقى يوم الثلاثاء الماضي مفاوضين إسرائيليين وفلسطينيين بارزين في اليوم التالي لاستئناف المفاوضات في واشنطن. ويأتي هذا الاجتماع بعد أول جلسة من المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بعد نحو ثلاث سنوات من التوقف في الوقت الذي أعرب فيه وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن أمله في الوصول لحل لهذا الصراع، على الرغم من الخلافات العميقة بين الجانبين. ولم يشارك أوباما في المفاوضات حتى الآن، وترك الأمر لوزير خارجيته لكي يقود المفاوضات بين الجانبين.
ويعد استئناف المفاوضات جزءا من مساعي الولايات المتحدة لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، وهو ما تم الإعلان عنه بداية الشهر الحالي من قبل كيري. ويشارك في هذه المفاوضات الأولية تسيبي ليفني من الجانب الإسرائيلي، وصائب عريقات من الجانب الفلسطيني، ومن المتوقع أن تستمر المفاوضات تسعة أشهر. وفي الوقت الذي طلب فيه كيري من الجانبين التوصل لـ«تسوية معقولة»، تبقى هناك نقاط محل خلاف كبير مثل قضايا الحدود والأمن.
وفي حوار مع «راديو إسرائيل» صباح الثلاثاء الماضي، أعربت ليفني عن اعتقادها أن إسرائيل ليس لديها خيار القبول بالهزيمة فيما يتعلق بالتوصل لاتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، وأنه من الممكن التوصل لمثل هذا الاتفاق. وقالت ليفني إن الأجواء كانت إيجابية في حفل العشاء الذي أقيم في وزارة الخارجية الأميركية ليلة الاثنين، وهو ما يعد بمثابة البداية الرسمية للمفاوضات، بعد ثلاث سنوات من انتهاء المحادثات بالفشل.
وقالت رئيسة وزراء إسرائيل السابقة في مقابلة مع وكالة «رويترز»: «نحن الآن بعد أربع سنوات من الجمود، وقد تفاوضنا في الماضي، ولكننا وصلنا إلى طريق مسدود. وأتمنى أن يكون هناك فهم أفضل الآن لحقيقة أنه من مصلحة الشعبين أن يتم التوصل إلى اتفاق ينهي هذا الصراع». إنها كلمات معسولة ووعود إيجابية من جانب ليفني، ولكننا نعلم جيدا أن إسرائيل متمرسة في التلاعب بالكلمات وإضاعة الوقت.
ومن المرجح أن يلعب مارتن إنديك دورا مهما في عملية السلام. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يتعين علينا أن نكون متفائلين أو متشائمين، أو «متشائلين»، على حد قول الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي.
وفي الآونة الأخيرة، قرأت مقالا ليوسي بيلين نشر في صحيفة «جيروزاليم بوست» في الثاني من أغسطس (آب) الحالي. وخلال هذا المقال، عبر بيلين عن دعمه الكامل لإنديك. يذكر أن بيلين هو مهندس اتفاق أوسلو، الذي أطلقه عام 1992 عندما كان نائبا لوزير خارجية إسرائيل.
3 - يتمثل البعد الثالث في موقفنا الحالي في انتشار الكارثة إلى الدول الإسلامية والعربية نتيجة ما يعرف بالربيع العربي. وإذا ما ألقينا نظرة عابرة على عناوين الصحف سوف نرى أن هناك انفجارات في كل مكان يقتل خلالها المسلمون بعضهم البعض. وفي سوريا، غطت أصوات المدافع والدبابات والرصاص على أصوات أجراس المدارس، كما أدت الأزمة في مصر إلى حالة مقلقة من الاستقطاب، مما يذكرنا بقول الله تعالى في سورة المؤمنون «كل حزب بما لديهم فرحون».
وكما يقول راشد الخالدي في كتابه «سماسرة الخداع»: «فإن ما تسمى عملية السلام الجديدة ستكون بين سماسرة الخداع من جانب، والفلسطينيين من جانب آخر، أما الحقيقة على الأرض فتتمثل في بناء مستوطنات جديدة كل يوم ومعاناة الفلسطينيين بين الجدران الأمنية والمستوطنات. ولكي نكون صرحاء، يجب علينا أن نعترف بأننا قد نسينا الفلسطينيين وأن نتذكر قول الله تعالى في سورة الرعد (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)».
حماس و«محور الممانعة» ... هل هي «عودة الابن الضال»؟!
عريب الرنتاوي - الدستور الأردنية
المؤكد، أن حماس تبذل جهوداً حثيثة لوصل ما تقطّع من سبلها وعلاقاتها مع “محور المقاومة والممانعة”، بعد الاهتزازات الشديدة التي تعرض “الهلال الإخواني” في المنطقة، بدءا من بؤرته في مصر ... والمرجح أن تفضي هذه الجهود إلى “تطبيع” العلاقات بين الحركة وحلفائها القدامى، بيد أنه من السابق لأوانه التكهن بأنها ستعود إلى سابق عهود الثقة والدفء و”الدعم السخي”، والأرجح أن الحركة لن تستقبل بالحفاوة ذاتها في عواصم الحلف الثلاث: طهران، دمشق والضاحية الجنوبية.
بالنسبة لكثيرين، خصوصاً من الناطقين باسم “المحور” المذكور، تشبه عودة حماس إلى خنادقها القديمة “عودة الابن الضال” ... فالحركة ما أن استشعرت وجود بدائل لها من “طينتها وملّتها” في كل من القاهرة وأنقرة وتونس والدوحة، حتى غادرت حضنها الدافئ، في طهران ودمشق والضاحية، وها هي اليوم، وقبل أن تستكمل استدارتها الكاملة، وتستريح في خنادقها الجديد، تبدأ رحلة “العودة إلى قواعدها “سالمة أو غير سالمة.
حماس، التي اعترف رئيس مكتبها السياسي ذات يوم لكاتب هذه السطور، في مقره في دمشق، وفي ذروة العلاقات الممتازة مع “المحور”، بأنها لم تكن أبداً مرتاحة لاحتسابها عليه، وحده دون سواه، كانت دوماً توّاقة، لتوسيع دائرة تحالفاتها، وقد سيّرت العديد من الوساطات والوسطاء، لتحسين علاقاتها مع الأردن (على سبيل المثال)، وتخطي حالة الانقطاع والقطيعة... وبعد حرب الرصاص المصبوب على غزة، أبلغني خالد مشعل، بأنه كان يتطلع لاستقبال موفدين ومسؤولين عرب وإقليميين في دمشق، من معسكر الاعتدال، وليس من معسكر الممانعة فقط، للتضامن والتهنئة والتبريك، حتى لا تحتسب الحركة على محور دون آخر ... نقول ذلك من باب الشهادة للتاريخ.
وقبل بذلك ببضع سنوات، وبالتحديد بعد انتخابات 2006 والحسم/الانقلاب في 2007، وفي حوار مع مسؤولين أردنيين كبار (جداً) أخذوا على حماس انحيازها للمحور “الشيعي” “الفارسي”، قلنا بالحرف الواحد: أن كل باب يغلق في وجه حماس في عمان والقاهرة والرياض، ستفتح مقابله أبواب في دمشق وطهران والدوحة (آنذاك) والضاحية الجنوبية ... وأن من يريد لحماس أن تكون في صفوفه عليه أن يمدها بأسباب القوة، أو في الحد الأدنى بما يقدمه لها الآخرون من إسناد بالمال والسلاح والعتاد والتدريب و”الجغرافيا الآمنة” ... وكنا في ذلك ننطلق من فرضية أن “حصر” علاقة حماس بذاك المحور، لم يكن خياراً بقدر ما كان اضطرارا.
كان ذلك قبل اندلاع شرارات الربيع العربي والصعود الإسلامي ... أما بعد هذا التاريخ، فقد وجدت نفسها من “أهل البيت” في القاهرة وتونس وعدد من الدول العربية ... وتحوّلت أشواقها لعلاقات طبيعية مع بعض الدول العربية، إلى رهانات ذات طبيعة استراتيجية، وبالغت الحركة في حساباتها ورهاناتها، قبل أن تصطدم كما اصطدمنا، بمفاجأة ثورة 30 يونيو وانقلاب الشعب على الإخوان، وسقوط أول تجربة للحكم لهم في “أم الدنيا” ... كان طبيعياً والحالة كهذه، أن تستلهم حماس الشعار الذي يذكره كل من عاصر تجربة حرب لبنان وحصار بيروت: “قف وفكّر”.
إيران ستفتح ذراعيها لحماس العائدة إلى خندقها ... فهي بالأصل، لم تقطع الصلة والإمداد، أقله مع اتجاهات وشخصيات من داخل حماس، وستعاود مد الحركة الدعم متعدد الأشكال، وإن بحذر أكبر وشروط أثقل هذه المرة، مدفوعة في ذلك من حسابات الدور الإقليمي لطهران، ومن رغبة الجمهورية الإسلامية، بالاحتفاظ بوجود مباشر على خطوط التماس مع إسرائيل.
حزب الله سيفعل شيئاً مماثلاً، ولكن بحذر أعلى من حذر طهران، تمليه ظروف الحزب الخاصة، وإحساسه العميق بالاستهداف، وحرصه على ألا يؤتى من مأمنه ... وسيكون الحزب في ذلك مدفوعاً برغبته في تفكيك أطواق العزلة السنيّة التي اشتدت من حوله على وقع الأحداث السورية، وتطورت بعد تدخله المباشر في معارك القصير وما بعدها.
أما سوريا، فليس ثمة ما أو من سيدفعها أو يضغط عليها من أجل استقبال حماس من جديد بين ظهرانيها، وهي التي كشف وليد المعلم، بأن قيادتها ما كانت لتنفتح كل هذا الانفتاح على الحركة، لولا ضغوط إيران وحزب الله، فأزمة الثقة بين دمشق والإخوان بمختلف صنوفهم وجنسياتهم، عميقة للغاية، ولطالما حار المراقب في إدراك كنه العلاقة الخاصة التي نشأت بين حماس والنظام، بشار الأسد وخالد مشعل ... ولا احسب أن أي من طهران أو حزب الله، سيجد الرغبة أو الحافز للضغط على الأسد أو تشجيعه لاستعادة حماس وإعادتها، أقله إلى أن تقدم الحركة لدمشق، ما يكفي للبرهنة على أنها “عودة مفيدة للطرف السوري ابتداءً”، لا خطوة منبثقة من حسابات تكتيكية أو انتهازية.
حماس ستسعى في اسباغ بعض التوازن على علاقاتها مع العواصم العربية والإقليمية، وستكون أكثر حذرا في مقاربة لعبة المحاور والخنادق المتقابلة ... ستعمل على استرجاع علاقاتها مع “محور المقاومة”، بيد أنها ستبذل ما في وسعها للاحتفاظ بعلاقاتها وتطويرها مع محور الاعتدال أو ما تبقى منه أو تفرع عنه ... وعلينا أن نتذكر جيّداً، أن حماس في بداياتها، وفي ذروة عملياتها “الجهادية” في أواسط التسعينات، لم يكن لها حليف أكثر قرباً من العاصمة الأردنية، وكان مقر قيادتها في عمان، قبل دمشق وطهران والدوحة والضاحية الجنوبية، فيما عمان كانت وما تزال، الأنشط من بين جميع العواصم العربية في دفع عملية السلام وتبني خيار المفاوضات ... والملك الحسين هو من أنقذ حياة خالد مشعل بعد محاولة الاغتيال الإسرائيلية الفاشلة، وهو من أخرج الشيخ أحمد ياسين من سجنه، وعجّل في فرج موسى أبو مرزوق من سجون الولايات المتحدة.
خلاصة القول: أن حماس تتمتع بقدر من المرونة والبراغماتية في علاقاتها وتحالفاتها، ما يكفي للسير على أكثر من حبل مشدود، وجمع كثيرٍ من التناقضات في سلة واحدة، من عمان والدوحة وحتى طهران والضاحية الجنوبية.
حقيقة الشرعية
المستشار إسلام إحسان - اليوم السابع
عندما ثار الشعب فى 30 يونيو، مطالباً بعزل الرئيس السابق محمد مرسى، دافع الرئيس المعزول عن بقائه فى منصبه بسند وحيد، ظل يردده كثيراً، وهو أنه الرئيس الشرعى لمصر، ومن ثم من حقه البقاء فى منصبه حتى انتهاء مدته.
ومنذ هذا الحين، ظهرت كلمة الشرعية على السطح، وأصبح الكثيرون يرددون هذا المصطلح القانونى والدستورى، شأن العديد من المصطلحات التى تتردد كل فترة، دون فهم حقيقة معناها، وصحة مدلولها مثل العولمة، والشراكة، والشفافية، وغيرها من المصطلحات والعبارات، التى تستخدم فى أحيان عديدة فى غير محلها، أو دون فهم حقيقة مدلولها.
الشرعية هو مصطلح سياسى ذو أصل لاتينى، مفهومه البسيط إضفاء الصفة القانونية على شىء ما، والأصل العربى للشرعية يرتبط بشكل مباشر بالاتفاق مع "الشرع"، وهو ما ينبىء فى الكشف عن وجوب استناد الشرعية إلى الرضائية كسند لها، أى ما يرتضيه الناس، فذلك هو أساس الشرعية.
ومن هنا يجب أن نفهم بوضوح أن هناك نوعين من الشرعية، لا يجوز الخلط بينهما، النوع الأول هو شرعية الوصول إلى الحكم، والنوع الثانى هو شرعية الاستمرار فى الحكم، فشرعية الوصول إلى الحكم تكون من خلال الصندوق، بأن يختار الرئيس بانتخابات حرة نزيهة، تعبر عن إرادة الناخبين ورضاهم عن اختياره، أما النوع الثانى، وهو شرعية الاستمرار فى الحكم، فتعنى أن يرضى الناس عن عمل الرئيس وعن أدائه، وعن وفائه بمتطلبات منصبه، وجدارته به، أو بمعنى أدق صلاحيته للاستمرار فى شغله.
وبذلك يبين أنه لا يغنى أحد نوعى الشرعية عن الآخر، لكن لكل منهما نطاقه الزمنى، فشرعية الوصول إلى الحكم لابد أن تتحقق وتكتمل، ثم ينتهى أثرها قبل بدء شرعية الاستمرار فيه، فالأخيرة شرعية لاحقة يبدأ نطاقها الزمنى ببدء مباشرة الرئيس مهام منصبه، ويجب أن تستمر طوال فترة عمله.
ومن ثم فإن تحقق أحد نوعى الشرعية لا يعنى بالضرورة تحقق النوع الثانى، كما أن فقد أحد نوعى الشرعية لا يعنى فقد النوع الآخر، فقد يصل الحاكم إلى الحكم بطريقة غير شرعية إلا أنه ينجح فى ممارسته لمهام الحكم فيرضى عنه الشعب، هنا تتوافر له شرعية الاستمرار المبنية على رضا الناس من أدائه، رغم افتقاده لشرعية الوصول إلى منصبه، ولعل المثال الواضح على ذلك فى التاريخ المصرى حكم محمد على، الذى وصل إلى حكم مصر بطريقة غير شرعية من خلال قتل خصومه، لكنه حاز بعد ذلك رضا المصريين عن أدائه فى الحكم فتمتع قطعا بشرعية الاستمرار فيه، هذه هى الشرعية بعنصريها التى يتحدث عنها الجميع دون فهم حقيقة معناها.
أسئلة السقوط التاريخي للإخوان
يوسف الحسن - دار الخليج
هل أصبحت تيارات وأحزاب “الإسلام السياسي” عبئاً على التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟؟ وهل ما تواجهه هذه التيارات والأحزاب في هذه الأيام من تحديات هو مجرد مأزق سياسي مألوف في مواجهة الدولة، أم هو مأزق من النوع الوجودي في مواجهة المجتمع؟ والمأزق الأخير ذو طبيعة مغايرة لما هو مألوف، وهو ما يورث الشعور العميق بالهزيمة، ويتطلب من هذه التيارات والجماعات المنظمة مراجعات جذرية، واجتهادات جسورة، حتى لو كانت متأخرة لنحو ثمانية عقود .
هل ستعود هذه القوى الإسلاموية للعمل تحت الأرض، كما يهدد مثقفون متعاطفون معها في دول الخليج والجزيرة العربية، فتمارس العنف الأعمى والعبثي، وتتحالف سراً مع آخرين كانوا في خطابها الشائع مجرد “شياطين وكُفّار”؟ وهل أدركت هذه القوى الإسلاموية المعاصرة حجم الحصاد المر الذي انتهت إليه جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، حينما مالت إلى العنف والإرهاب، وأخطأت الطريق، ولم تصل إلى الحكم أو حتى المشاركة ولا إلى قلوب الجزائريين؟؟
ألم تدرك هذه القوى والجماعات الإسلاموية حتى الآن، أن قادتها الأوائل، ومن تبعهم حتى ميدان رابعة العدوية وشوارع تونس وأرياف حلب وهضاب اليمن وغيرها، قد أوقفت بأفعالها واجتهاداتها بدايات حركة نهوض عقلانية عربية إسلامية، بشّر بها الإمام محمد عبده وغيره، واختطفها حسن البنا، ليحوّلها إلى حزب سياسي، وعقيدة مغلقة ترى في كل واقف خارج هذا الحزب مجرد “خارج” بحت، وفي فسطاس مغاير، يتوجب مقاتلته والانتصار عليه، إن بالدعاء أو الإقصاء أو العنف .
وها هي في العقود الثلاثة الأخيرة، وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، تعطل التحوّل الديمقراطي الممكن، من خلال استثمار المقدس الديني في بناء الخطاب السياسي، والمماهاة ما بين الدين والمشروع السياسي للوصول إلى السلطة، وتعميم صورة عن نفسها في أذهان البسطاء من الناس، مفادها “أن أي عداء لها هو عداء للإسلام كدين” . فضلاً عن تباكي هذه الجماعات الإسلاموية (ومن لفّ حولها من مثقفين) على الديمقراطية، التي لم يؤمنوا بها من قبل، ولم يسهموا في إشاعة ثقافتها بين الناس .
لم تنقسم الأمة الإسلامية عبر تاريخها إلا بسبب الصراع على السلطة، ولعل هذا الصراع، في مواسم “الربيع العربي”، هو الذي كشف الغطاء عن هذه الجماعات الحزبية الإسلاموية، وقدّمها كقوة منظورة في المشهد السياسي، في مرحلة اتسع فيها “الفراغ الدولاتي”، وغاب عنها المشروع الوطني الجامع، وعانت القوى القومية والوطنية عبر عقود طويلة من انسدادات سياسية وملاحقات سلطوية، في وقت كانت فيه جماعات إسلاموية (الإخوان) تتعاون مع نظام حكم السادات ونظم عربية أخرى، ووصل بعضها إلى السلطة (السودان)، وإلى برلمانات مصرية وأردنية ومغاربية ويمنية، وفتحت لها منابر تربوية وفضائية وإعلامية، وسمح لها بالتغلغل في نسيج المجتمعات الأهلية، من خلال إنشاء مؤسسات ومراكز أكاديمية وتدريب وصحة وتعليم وإغاثة وشباب ونساء وتوجيه واقتصاد، وقد ساعد في ذلك غياب أو ضعف دور الدولة الوطنية، أو حينما كانت تتخلى عن دورها في خدمة مجتمعها ورعايته (مصر كمثال - ولبنان كمثال آخر ومن نوع آخر) . وبذلك حصدت جماعات وتيارات إسلاموية ثمرات تواجدها في الأرياف بين الناس، بعيداً عن المشهد السياسي المنظور (كذلك فعلت الكنائس المصرية)، وتشكّلت لهذه الجماعات واجهات اجتماعية ومدنية وخيرية كثيرة، واعتقد كثيرون من المستفيدين من هذه الخدمات، أن الجماعات الإسلاموية هم “بتوع ربنا” أو “بيعرفوا ربنا”، وأنها صاحبة “مظلومية تاريخية”!!
قد يخضع العربي والمسلم لاستبداد ليبرالي أو قومي أو نظام ملتبس في هويته، لكن من الصعب عليه قبول تسلّط واستبداد باسم الدين، لأنه يشعر بأنه متساوٍ مع الآخر أمام الله الذي أنزل هذا الدين . وحينما تكون خصومته مع الآخر فهي خصومة سياسية، قابلة للنقاش والتسويات والتنازلات . ويشعر المواطن البسيط، أن السلطات الطاغية والمتسلطة التي سبقت “الربيع العربي”، لم تتهمه يوماً بالكفر، ولم تتدخل في تغيير نمط حياته المعتادة، رغم أنها حطَّت من شأن مستوى معيشته، وفشلت في تحقيق عناصر أمنه الإنساني وفق مؤشرات التنمية المتعارف عليها في العالم .
اليوم، تقف كافة شبكات وجماعات الإسلام السياسي أمام معضلة وجودية، وأزمة تصل إلى درجة المحنة، قادتها إلى هاوية تسارعت فيها سرعة استهلاك حقبتها في أكثر من مكان وليس في مصر وحدها (أم الدنيا، وأم الإخوان في آن) .
وتواجه أيضاً تحديات الشعور بالفشل والهزيمة التاريخية، مع استمرار التشبث بالرغبة في الاستحواذ على السلطة، ومع تصادمها مع مجتمعاتها التي أطاحت، أو تنوي الإطاحة بها، وهي على رأس الحكم، أو على الطريق إلى الحكم .
لقد قطعت خيوطها وتواصلها مع المواطن غير (الإخواني) الإسلاموي، وغير الواقف في صفّها، وصنَّفت أي معارض لها فكراً أو سلوكاً كعدو، ورفعت راية العنف بلا مواربة، وحشدت وراءها فتاوى التأثيم والنفير والجهاد والعنف المادي والمعنوي، وصبَّت الزيت على نيران الفتنة المذهبية في أكثر من مكان .
ولا يبدو حتى الآن، وبخاصة بعد تكشّف سيناريوهات صاغها اجتماع سري لقيادات التنظيم الدولي لجماعة الإخوان انعقد مؤخراً في اسطنبول برعاية تركية، لا يبدو أن هذه الجماعات قد فهمت الدرس، واستوعبت العبرة . ومازال نزوعها الانتهازي والسلطوي أقوى من نزوعها المبدئي ومن ادِّعائها الثوري والديمقراطي، ولم تدرك بعد، أنها أشعرت عموم المسلمين بغربة الإسلام عن الواقع، وهذا بحد ذاته خطيئة . وكشفت عن تخلّفها الإداري والفقهي والمعرفي وتدبير الحكم والسياسة، وجهلها بشروط قيام الدولة الوطنية الحديثة، التي يُقيِّد سلطتها عقد اجتماعي، ويحكمها دستور يُقيّد سلطة الحاكم ويخضعها للقانون، كما يُخضع السلطة التنفيذية للمراقبة التشريعية والمساءلة القانونية ويكرِّس استقلالية القضاء .
أما غير ذلك، فلا يقود إلا إلى المجهول، وإلى تأسيس علاقات استعباد واستئصال متبادل بين قوى المجتمع .
إن السياسة والدولة ليستا من العقائد أو الأصول، وإنما تقعان في حيز الاجتهاد البشري . والدولة الحديثة العادلة، لا تُقصي أحداً ممن يقبل بقواعدها المدنية الدستورية .
كيف إذاً ستخرج هذه الجماعات الإسلاموية من هذه الأزمة العميقة؟؟ هل ستُغرق البلاد في بحور العنف والدم؟؟ ومن المؤكد واليقين تماماً، أن مثل هذا الخيار لن يعيدها إلى السلطة . وتجربة الإخوان مع النظم الحاكمة خير برهان على ذلك عبر أكثر من ستة عقود .
هل ستكيّف هذه الجماعات برامجها وخطابها مع مقتضيات ومتطلبات العمل الحزبي، واحترام النظام الأساسي للدولة، وطابعها المدني وهويتها الجامعة؟؟
ماذا لو سلكت هذه التيارات والقوى الإسلاموية الحزبية، نهج أحزاب ديمقراطية مسيحية غربية، لا تخلط ما بين الديني والزمني، مع الأخذ بالاعتبار المزاج الديني الشعبي في الوطن العربي، ومستوى الوعي الديمقراطي المتدني في أوطاننا؟؟
ماذا لو تحوّلت هذه الجماعات والتيارات الإسلاموية إلى “قوة ضغط” في المجتمعات، بعيداً عن الأطر الحزبية الساعية إلى السلطة، ومارست الضغط والدعوة، باتجاه صناع القرار والمشرِّعين والتربويات؟
هل تملك القدرة والحكمة والجسارة والمعرفة لولوج “فقه التجديد” بعد أن صار الفقه السياسي لهذه الجماعات الإسلاموية قديماً، إن لم نقل متخلفاً؟ هل ستتصالح مع مجتمعاتها وتندمج في مشروع الدولة الوطنية، على قاعدة المواطنة، ومواجهة أسئلة الأمة العربية الحقيقية حول الحرية والتنمية وإزالة الاحتلال “الإسرائيلي” والتجدد الحضاري والدور الإنساني الفاعل، وحقوق الإنسان؟؟
هل ستستمر في إنكار فشلها في تدبير السياسة والحكم والمشاركة، وفي عُقمها على مدى ثمانية عقود، في تقديم أية قيمة مضافة إلى الفقه وعلوم الاقتصاد والثقافة وإدارة الحكم والتنمية والفنون والإعلام والعلوم والابتكار؟؟
هل ستواصل مسيرة التيه، واصطناع الخصوصية والاصطفاء وسمو الأخلاق، للتغطية على مأزقها الفقهي والثقافي والسياسي والفكري ومواصلة توليد جماعات العنف الأعمى من بطنها، وإنتاج الخطابات التعبوية لصياغة ذهنية الشارع، وتبنِّي فتاوى التكفير والتأثيم ونكاح الجهاد وإرضاع الكبير، والنفير في مقاتلة مسلمين آخرين، والقتل على الهوية المذهبية، وإعادة إنتاج الأذان في كابول وغيرها، بتحالف غير مكتوب مع “غرب كافر” على حد ما يزعمون، ومحاربة جيش عربي مصري في سيناء، وآخر في تونس أو الجزائر أو اليمن، بينما العدو، الذي قاتلنا في ديننا، وأخرج إخوتنا من ديارهم، على مرمى حجر أمامهم؟؟
إن استمرار الإنكار لا يقود إلا إلى مأزق وجودي عميق، واستمرار هبوط هذه الأمة إلى الحضيض .
إن الضحية الأولى التي يجب أن تحظى بالاهتمام هو “جمهور” هذه الجماعات من غير الملتزم بها حزبياً الذي ظنَّ يوماً أنها “خدمته”، وأنها “بتاعة ربنا”، وأنها لم تعط الوقت الكافي في الحكم، وأن هناك مؤامرة عليها من قبل آخرين يكرهون الجماعة (المصطفاة) وإسلامها (المثالي) .
إن هذا الجمهور، مغيَّب عن معرفة “الأجهزة السرية” لهذه الجماعات، وعن فكرة السمع والطاعة للمرشد وأمثاله، وعن سياسات الاستثمار السياسي للدين، وعن نزوعها الانتهازي والرغبة في الاستحواذ على السلطة بأقصى سرعة .
إن هذا الجمهور، واقع الآن تحت ضغوط “تديُّن هائج منتقم”، فضلاً عن تراكم مكبوتات وسياسات هوجاء خارجية وثقافة عنف أفرزت طغاة كباراً وصغاراً، ولم يشهد حركة إصلاح ديني حقيقي، تجتث وحش الغلو، وتفتح العقل للتفكير العقلاني والتجدد الثقافي والفكري .
هل تخرج قيادات هذه الجماعات من “صندوقها” الفكري والسياسي المنغلق على نفسه، وتعالج معضلتها الفكرية والثقافية قبل فوات الأوان؟؟ هل تغيّر طبيعة التنشئة السياسية في مجتمعاتها الحزبية، نحو قيم التسامح والاختيار الحر وقيم احترام الآخر المختلف والاندماج والمشاركة والفعل الرشيد في المجال العام المفتوح للنقاش والشفافية والمصالحة؟؟
أسئلة وتداعيات سقوط هذا المشروع السياسي الإسلاموي، لها ما بعدها .
الملف النووي وسورية: المهمة المستحيلة لروحاني؟
جورج سمعان- دار الحياة
يتسلم الرئيس الإيراني الجديد الشيخ حسن روحاني دفة الرئاسة في ظروف صعبة ومعقدة تعيشها بلاده والمنطقة. يواجه مخلفات ثماني سنوات هما عمر ولايتي سلفه محمود أحمدي نجاد اللتين كانتا الأسوأ في تاريخ الجمهورية الإسلامية، على المستويين الداخلي والخارجي، وهددتا المصالح القومية: تعمقت الخلافات بين التيارات السياسية وتوترت العلاقات بين أركان النظام ومؤسساته. وهزت التظاهرات والاحتجاجات التي أعقبت انتخابات 2009 الرئاسية منظومة الحكم والنسيج الاجتماعي، ورفعت حدة الاستقطاب... والقمع. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية نتيجة سوء الأداء الحكومي واستشراء الفساد والمحسوبية. وكذلك نتيجة سوء إدارة السياسة الخارجية، خصوصاً الملف النووي الذي ضاعف العقوبات وشدد الحصار. ورفع «الربيع العربي» في السنتين الأخيرتين حجم التحديات التي تواجهها طهران. وقلب موازين القوى وشبكة العلاقات السائدة في الشرق الأوسط كله الذي تداعى نظامه الإقليمي، وتهاوت أنظمة حكم هنا وهناك.
هذه التركة الثقيلة المتراكمة منذ عام 2005، كانت العامل الأول والأساس في اختيار الإيرانيين رئيسهم الجديد. بل كانت الأزمة الاقتصادية وارتباطها بقضايا الداخل والخارج هي الناخب الأكبر. لذلك ستكون هذه في سلّم أولويات الشيخ روحاني. وسيكون على مواطنيه أن ينتظروا طويلاً. فالتغيير المنشود ليس بالسهولة التي يتوقعون. فالرئيس الجديد خرج من رحم النظام السياسي ولم يأتِ من خارجه. شغل منصب امين المجلس الأعلى للأمن القومي وممثل المرشد، وعضو مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء. يعني ذلك أن أي تغيير في السياستين الداخلية والخارجية سيظل تحت رعاية المرشد وبموافقته، ما دام أن الدستور المعمول به طوال ثلاثة عقود لم يتغير. إضافة إلى أن ميزان القوى في مجلس الشورى يبقي الكفة راجحة للتيار المحافظ الذي لم يوفق مرشحوه في منافسة الشيخ روحاني. إضافة أيضاً إلى الثقل الذي تمثله القوى العسكرية والأمنية وأجهزتها وميليشياتها، خصوصاً «الحرس الثوري» وأذرعه المختلفة. وتشكل هذه أكثر من ثلثي الدورة الاقتصادية والتجارية والصناعية، كما هي حال المؤسسة العسكرية في مصر. ولها كلمتها المسموعة في صنع السياستين الداخلية والخارجية أو في صنع القرار على الأقل.
من هنا، إن أي تغيير على المستوى الداخلي سيكون مستحيلاً إذا خرج على ثوابت النظام أو مسّ بجوهر الثورة والمنظومة التي تربط بين مؤسسات الحكم. ومثله، إن أي تغيير على مستوى السياسة الخارجية إقليمياً ودولياً، سيكون مستحيلاً إذا هدد بتقويض الاستراتيجية التي بنتها الجمهورية الإسلامية على مدى عقود ثلاثة. وسواء صُنف الرئيس الجديد في صفوف الإصلاحيين أو المحافظين أو بين بين، ستظل إيران تتحرك تحت عباءة المرشد، أياً كانت تطلعات الإيرانيين. فهؤلاء اختاروا الرئيس محمد خاتمي لولايتين، قبل أحمدي نجاد. وكانوا يتطلعون إلى إعادة بناء العلاقات مع الغرب عموماً وتسوية الخلافات مع الولايات المتحدة. لكن الرئيس الإصلاحي لم يتمكن طوال ثماني سنوات من تغيير مسارات الجمهورية. وكان جل ما قدمه نوعاً من الهدنة أو تبريد الأجواء مع الإقليم والمجتمع الدولي وخفض مستوى التوتر والتهديدات مع الخارج... ويعتبره المتشددون اليوم أحد رموز «الفتنة»! ويطالب بعضهم مجلس الشورى بحجب الثقة عن أسماء مرشحين لتولي حقائب وزارية في الحكومة الجديدة لقربهم منه أو من رموز مماثلة.
لن يكون في مقدور روحاني تغيير كثير من المعادلات في الداخل ما لم يفتح الباب مجدداً أمام الحد الأدنى من الحريات. وما لم يجد صيغة للتعاون مع كل التيارات، من أجل إعادة «لمّ الشمل» تحت عباءة النظام عموماً. وهذا هدف رئيس للمرشد الذي عانى طويلاً من المشكلات التي خلّفها حكم الرئيس نجاد وكادت أن تطيح المسلّمات والثوابت. ما لم يتحقق هذا الهدف، لا يمكن الرئيس الجديد التحرك للجم التضخم ووقف تدهور سعر صرف العملة الوطنية وتعليق سياسة التقشف، وإغراء المستثمرين، وتعزيز التجارة تصديراً واستيراداً، وتنشيط القطاع المصرفي.
هذه الملفات الداخلية لن تجد طريقها إلى تسويات وحلول مقبولة وسريعة، أياً كانت قدرة روحاني على التغيير ومهما بلغت رغبة المرشد في التخفيف من وطأة الاعتراض الشعبي. فجلّها عناوين من تداعيات السياسة الخارجية الإيرانية. بل هي أكثر ارتباطاً بهذه التداعيات مما يمكن أن يحققه الرئيس الجديد على مستوى الداخل وإعادة ترميم العلاقات بين التيارات المختلفة. ولا يكفي أن يلجأ إلى الخطاب التصالحي الذي يبديه حيال المجتمع الدولي وحيال جيرانه الإقليميين. ولعل أبرز قضيتين ساخنتين هذه الأيام هما بالطبع: الملف النووي والموقف من الأزمة السورية التي دفعت الصراع المذهبي في الإقليم إلى حافة الهاوية.
نجحت حكومة الرئيس خاتمي في العقد الماضي في إبقاء الملف النووي بين أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن السياسية الهجومية والخطاب السياسي والإعلامي لحكومة الرئيس نجاد استعديا المجتمع الدولي الذي أخذ الملف إلى مجلس الأمن ونقل إلى طاولة الخمس الكبار وألمانيا. وكانت جملة من العقوبات الدولية تبعتها عقوبات أحادية، أميركية وأوروبية، أشد مرارة. ولن يكون سهلاً بالطبع التوصل إلى تفاهم مماثل لذاك الذي أبرمته حكومة خاتمي بتعليق التخصيب في العام 2003. البرنامج النووي تحول عنصراً من عناصر الروح الوطنية وجزءاً من استراتيجية الجمهورية ورافعاً لثقلها ودورها الإقليميين بقدر ما هو عامل توتير لعلاقاتها بالخارج القريب والبعيد. وأضافت الحرب الدائرة في سورية وانخراط إيران فيها عبر مقاتلي «حزب الله» و «الحرس الثوري» وبعض الميليشيات العراقية، عنصراً معقداً لأي تسوية لهذا البرنامج.
توكأت إيران طويلاً على جملة من العناصر لبناء استراتيجيتها حيال الخارج. استعجلت بناء برنامجها النووي معطوفاً على ترسانة ضخمة من الصواريخ. وعمّقت دورها في بغداد، وباتت الحليف الأول والداعم الأساس للنظام في سورية التي وفرت لها جسر عبور إلى لبنان وحدود إسرائيل وشاطئ المتوسط، من دون أن تخفي تمددها إلى غزة فشمال أفريقيا. ومن السودان إلى عدد من الدول الأفريقية لتعويض الخلل الذي أصاب علاقاتها بدول مؤثرة وفاعلة، من تركيا إلى الهند والبرازيل وغيرها. لكن مثلث بغداد - دمشق - بيروت ظل هو الركن لكل هذه الاستراتيجية. وفي بدايات الأزمة السورية كثر الكلام عن امكان ابرام صفقة بين طهران وخصومها تتم فيها مقايضة هذه الورقة بتلك من الأوراق التي تمتلكها الجمهورية. لكن نظرة منطقية وواقعية إلى التطورات التي تشهدها المنطقة لا تنبئ بتوافر فرصة لمثل هذه المقايضات.
نظرة سريعة إلى المثلث الإيراني تكشف عمق التحديات التي تواجه الرئيس روحاني، وكلها تلقي بثقلها على القضايا الداخلية. مجلس النواب الأميركي أقر، عشية تسلّم الرئيس روحاني مهماته، عقوبات جديدة على القطاع النفطي الإيراني. والعراق يعود سريعاً إلى سيرته قبل عقد من الزمن، فالحكومة الحالية وفرت بسياستها الفئوية وبدعمها نظام الرئيس بشار الأسد، الأجواء لاستعادة «القاعدة» حاضنتها الاجتماعية في المحافظات السنية. إضافة إلى علاقاتها المتوترة باستمرار مع إقليم كردستان ومع... كثير من دول الجوار. ولا حاجة إلى المخاوف التي تنتاب الجمهورية من اقتراب جارها الغربي من شفا الحرب الأهلية. ولا حاجة أيضاً إلى الحديث عن استنزاف القوى الإيرانية، العسكرية والمالية والبشرية في الحرب الطويلة في سورية، وتداعياتها على الوضع في لبنان حيث تعيد مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية النظر في الاصطفافات السياسية والمذهبية وتنذر بانفجار قريب وسط فراغ سياسي وحكومي مخيف. ولا شك في أن أي تنازل تقدمه طهران في بلاد الشام يهدد بإطاحة كل ما بنته طوال عقود تحت شعار «الممانعة والمقاومة»!
إضافة إلى كل هذه السلبيات المحيطة بركائز الاستراتيجية الإيرانية، نقلت التداعيات الحالية لـ «الربيع العربي» على المنطقة بأسرها، خصوصاً في مصر، القضية الفلسطينية، الرافع الأساس للخطاب الإيراني واندفاعه نحو العالم العربي، إلى مرتبة دنيا من الاهتمامات. ولا شك في أن استئناف المحادثات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في غمرة هذه التداعيات وبرعاية أميركية، يكشف عجز طهران عن «التدخل»، سواء عبر لبنان أو عبر غزة وغيرهما. ليس أمام الرئيس روحاني سوى الانتقال سريعاً من النيات إلى تحديد الأهداف التي وحدها كفيلة بتغيير الوقائع والاستراتيجيات. فهل يقدر على مراجعة جذرية لسياسة الجمهورية الإسلامية مع ما تستدعيه من تنازلات مؤلمة؟ هل يقدر في ظل الاستقطاب الداخلي لئلا نقول في ظل الانقسام بين التيارات وسطوة مراكز القوى وأدواتها؟ أم يكتفي بتقطيع الوقت والرهان على تبريد الأجواء مع الخارج، كما فعل سلفه خاتمي؟ الأوضاع الاقتصادية الداخلية، والتطورات التي يشهدها الشرق الأوسط الكبير من المتوسط إلى أفغانستان لا تسمح بترف الترقب والانتظار. تتطلب خيارات ملحّة في الملف النووي وفي الأزمة السورية، وما يتعلق بهما من شبكة علاقات إقليمية ودولية، وفي القضية الفلسطينية... وهذه وحدها قد تعيد الحياة إلى آلة الاقتصاد الإيراني.
الحلقة الضائعة في الثورات العربية (1)
جورج قرم – السفير اللبنانية
المشهد المؤلم للثورات العربية
يتألَّم الجمهور العربي برؤية ما آلت إليه الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الساحة العربية من المحيط إلى الخليج في بداية سنة 2011، فاتحةً آمالاً برّاقة لتغيير الأوضاع المهينة التي تعيشها هذه الجماهير منذ عقود، وذلك بعد أن انطفأت الحلقة الثورية السابقة في القرن الماضي، وكانت قد تجسّدت في الحركات التحررية والتقدمية العروبية منذ تأميم قناة السويس وملحمة الزعيم جمال عبد الناصر في مجابهة قوى الإمبريالية والرجعية العربية المعادية للتقدم وفي مكافحة الهيْمنة الخارجية الغربية. وقد ختمت الحلقة الثورية هذه عند اجتياح إسرائيل للبنان وعاصمته عام 1982 وانهيار ما كان قد تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الثورية العربية الأخرى.
صحيح أنَّه يجب ألا نستسلم لليأس أمام المشاهد المرعِبة لما يحصل في معظم الساحات العربية التي انتفضت فيها الجماهير، لأنَّ الحلقات الثورية تمر دائماً عبر حركات صعود وتراجع، قد تطول عقوداً قبل أن تستقر على أنظمة سياسية اقتصادية واجتماعية جديدة تعيد لحمة المجتمع وتغيِّر إلى الأفضل نمط حياة الشعوب.
لا نود هنا أن ندخل في التعقيدات الكبيرة لكل ساحة من الساحات الثورية المتألِّمة، ابتداءً من جارتنا السورية التي تتعرَّض لخطة تدمير دموية ومؤلمة، تلعب فيها الحركات التكفيرية دوراً ملتبساً للغاية، ومروراً بوضع مصر التي أصبحت هي بدورها في حالة متوترة للغاية بين «الإخوان المسلمين» والتيارات العلمانية الليبرالية أو القومية، ومروراً بليبيا حيث تسود أوضاع ضبابية غير مستقرة تشوبها أعمال عنفٍ من قبل ميليشيات عديدة. وكذلك أوضاع تونس المتميِّزة أيضاً بتوتر بين العلمانيين والسلفيين وبشل أعمال الدولة إلى حد بعيد، مروراً بالبحرين حيث تُمارس أعمال قمع متواصلة ضد المعارضة في ظل سكوت تام، عربياً ودولياً، وبأوضاع اليمن المعقدة بين مشكلة جنوبية ومشكلة الحوثيين ومشكلة إسلاميّي «القاعدة» الناشطين فيها.
وفي الحقيقة ليس في هذا المشهد اليوم ما نستغربه، وذلك لأسباب عديدة، ومنها التدخلات الخارجية، سواءً من قبَل الدول الغربية أو من قبَل بعض الدول العربية صاحبة النفوذ والمال وأخيراً تركيا الحالمة بعودة عهدها العثماني، ما يجلب أيضاً تدخلا روسيا ـ صينيا ـ إيرانيا.
من العناصر الداخلية الهامة في حالات الاضطراب هذه، ضياع العرب لهويتهم الأساسية بين أنصار أولوية المكوِّن الديني فيها التي يمكن أن تأخذ أشكالاً إقصائية ومطلقة وأحادية الجانب من جهة، والمكوِّن المدني والوطني والقومي العربي والليبرالي للهوية، من جهة أخرى. مع لفت النظر إلى أنَّ هذا الانقسام في الهوية ونظام القيَم الذي يتفرّع عنها يؤدي إلى تناقض عميق في تحديد من هو الصديق ومن هو العدو للمجموعة العربية ككل، بين من يدّعي أنَّ المحور الإيراني ـ السوري ـ الروسي والصيني هو العدو، ومَن يدَّعي أنَّ الهيْمنة الأميركية الصهيونية الأوروبية هي العدو الرئيس، خاصةً في ظل استمرار وحشية إسرائيل وعدوانيتها تجاه الفلسطينيين ونيّاتها في ضرب حركة المقاومة الإسلامية اللبنانية ضد إسرائيل في لبنان للانتقام من إنجازاتها في طرد الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 ودحر عدوانه الدموي عام 2006.
الغياب المفجع لأية رؤية بديلة
للمسار التنموي العربي الفاشل
أريد هنا أن أذكر سبباً أعتبره أيضاً رئيساً في تعثر الموجة الثورية العربية وقلَّما نتحدث عنه، ألا وهو غياب أي تصوّر لنموذج تنموي بديل من التنمية المشوّهة التي تتميز بها سلباً الاقتصادات العربية جميعها، وهي اقتصادات ريْعية الطابع واحتكارية تركّز الثروات في أيادٍ قليلة تجني أرباحاً طائلة وسهلة، لا تستثمرها في بناء قدرات إنتاجية في مجالات العلم والتكنولوجيا، تُوَظَّف في نشاطات اقتصادية ذات القيمة المضافة العالية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بدورها أن تؤمِّن فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب العربي وترفع من مستويات المعيشة لدى الفئات الفقيرة والمهمَّشة وهي تعيش حياةً يومية صعبة للغاية بحثاً عن لقمة العيش في بحر من الثراء الذي تكوَّم لدى القيادات السياسية ومحاسيبها من بعض رجال «الأعمال». ولْنتذكر أنَّ أهم شعار قد رُفع من المحيط إلى الخليج هو الكرامة. والحقيقة هذا ما يذكّرني بمؤلَّف قيِّم للغاية كتبه منذ عقود المرحوم الدكتور يوسف صايغ بعنوان «الخبز والكرامة». وفي نظري أنَّ ما جمع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في آذار 2011 هو مطلب الخبز والكرامة، أيْ المجتمع الإنتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة الوطنية في كل قطر عربي وعلى مستوى المجموعة العربية جمعاء، للتخلّص من كل الهيْمنات الخارجية ولإعادة الحق إلى أصحابه في فلسطين المحتلة التي لن تحرَّر إلا بالقوة الجماعية العربية تساندها قدرة إنتاج فعالة.
لكنَّ الإعلام العربي والدولي حول الثورات قد ركّز حصراً على قضية الديموقراطية والحريات الشخصية، سواءً من وجهة نظر الليبرالية أم من وجهة النظر الإسلامية الداعية إلى ضرورة إقامة أنظمة إسلامية في الحكم، وهي حتماً تؤدي إلى الحد من الحريات الشخصية جوهرياً. وقد غاب عن تحليل مجريات الأمور الثورية أية إشارة إلى طرق ووسائل الوصول إلى نمط تنموي متجدد، مستقل عن النموذج النيوليبرالي الذي تفرضه مؤسسات التمويل الدولية، كما الإقليمية العربية أو الإسلامية. وهذا ليس بالقضية السهلة نظراً لعمق تجذر الاقتصاد الريْعي غير المنتج في كل أنحاء الوطن العربي، بالإضافة إلى اتكال الاقتصادات العربية إما على زيادة أسعار النفط وإما على التحويلات المالية التي يقوم بها الملايين من المغتربين العرب لذويهم في الوطن، وكذلك المساعدات الغربية، سواء بشكل قروض أو هبات، والمساعدات الآتية من الدول النفطية في شبه الجزيرة العربية. وحسب علمنا فلم نرَ حزباً سياسياً، إسلامياً كان أم مدنياً، قد ركّز في برامجه وشعاراته على هذه القضية المركزية لكي تصل الثورات العربية إلى بر الأمان. ما شهدناه هو فقط وعود بتحسين مستويات المعيشة، تجسدت بشكل مجزأ وفوضوي بزيادات أجور هنا وهناك تحت ضغط العمال ونقاباتهم، دون أن تقابلها أية خطة للنهوض الإنتاجي بغية كسر حلقة الاقتصاد الريْعي. إنَّ هذه الحلقة السلبية الأثر، هي التي تحول منذ عقود دون الدخول في عالم الإنتاج والعلم والمعرفة، وبالتالي في نموذج اقتصادي على غرار دول شرق آسيا يمكن أن يوفّر فرص العمل الكافية لاستيعاب كل العاطلين من المساهمة في الإنتاج لكي تدخل الاقتصادات العربية في حالة تنافسية حقيقية في الأسواق الدولية.
دلالة قبول الحكومات الثورية
«شراكة» الدول الغربية في الثورات
ومن اللافت للنظر أنَّ الدول الغربية المتقدمة والمجتمعة في مجموعة الثماني قد أعلنت نفسها في شهر أيار 2011 «شريكة الثورات العربية» في اجتماعها في مدينة دوفيل بحضور صندوق النقد الدولي الذي قدم ورقة حول المبالغ التي قد تحتاجها كل من مصر وتونس لتقوية اقتصادهما في المرحلة الانتقالية الصعبة. وقُدِّرَت المبالغ التي يجب توفيرها بـ35 مليار دولار، يمكن أن تُقدَّم كقروض من الصندوق مقابل رزمة من الإصلاحات النيوليبرالية كالعادة. وقد تبع هذا الاجتماع اجتماع آخر في مدينة مرسيليا في شهر حزيران 2011، بوجود وفود من أعلى المستويات من مصر وتونس والأردن، مكوَّنة من العناصر الجديدة التي استلمت مقاليد الأمور المحلية بعد انهيار حكم الاستبداد في تونس ومصر. وفي غياب أي طرح بديل من قبَل الحكومتيْن الثوريتيْن كانت الدلالة واضحة: إنَّ السياسات الاقتصادية ستمضي قدماً على الأسس القديمة نفسها التي كانت هي أحد الأسباب الرئيسية وراء انفجار الغضب الشعبي. وهذا أمر غريب فعلاً، يدل على أنَّ من تسلَّم مقاليد الحكم بعد زوال النظام الديكتاتوري لم يكن لديه أي تصوّر لسياسات اقتصادية ومالية واجتماعية بديلة من تلك السياسات النيوليبرالية التي كرَّست وعمَّقت نظام الريْع والفساد والإفساد وتركز الثروات في أياد قليلة وتوسيع رقعة البطالة، وهي بالذات القضايا الأساسية التي أدت إلى موجة الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج.
وإذا كانت دول الخليج العربي قد تمكّنت من إسكات حركات الانتفاضة لديها عبر مزيج من قمع الشرطة ومن منح زيادات كبيرة في الرواتب والأجور والمنافع الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، فإنَّ الحكومات الجديدة في كل من مصر وتونس لم تطور أهدافاً تنموية بديلة من شأنها أن تؤمِّن فرص العمل المفقودة. ومثل هذه السياسات يجب أن تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية، بما فيها بالأولوية الفئات الريفية والفئات المدينية الفقيرة. وهذا هو ما فعلته دول شرق آسيا واليابان كأولوية في سياساتها التحديثية الهادفة إلى تطوير قدرة إنتاجية، مستقلة نسبياً عن مصادر العلم والتكنولوجيا الغربية، لكي تتمكن من بناء نشاطات اقتصادية حديثة الطابع تنتج السلع والخدمات المطلوبة على النطاق الدولي بقدرة تنافسية من ناحية السعر والجودة. كما أنَّ حكومات تلك البلدان صاغت ورسمت الأهداف المرحلية والقطاعية في العملية هذه بشراكة قوية بين كبار المسؤولين عن الدولة ومنظمات أرباب العمل، وكذلك في بعض الأحيان الجامعات ومعاهد التعليم المهني والتقني. وقد تم في هذه العملية تكريس الموارد المالية اللازمة من قروض طويلة الأمد وميسّرة ومن مساعدات مباشرة من قبَل الدولة لتشجيع الأبحاث والتطوير والابتكار والريادة في الأعمال الصناعية والخدماتية الحديثة الطابع (إلكترونيات، برنماجيات، معلوماتية، اتصالات سلكية ولاسلكية، إلخ) كما في الصناعات الثقيلة التقليدية أيْ صناعة التجهيزات الرأسمالية ووسائل النقل كالسفن والسيارات والطائرات في حالة الصين والبرازيل.
5/8/2013
في هذا الملــــف:
ممارسات إسرائيلية غير مقبولة
رأي الراية القطرية
محاولات إسرائيلية لوأد عملية السلام
رأي الوطن السعودية
بماذا تبشـرنا مفاوضات واشنطن؟!
ياسر الزعاترة - الدستور الأردنية
وساطة جون كيري: مفاوضات استئناف المفاوضات
جميل مطر - دار الحياة
الربيع العربي والمستوطنات الإسرائيلية الجديدة
عطاء الله مهاجراني – الشرق الأويط
حماس و«محور الممانعة» ... هل هي «عودة الابن الضال»؟!
عريب الرنتاوي - الدستور الأردنية
حقيقة الشرعية
المستشار إسلام إحسان - اليوم السابع
أسئلة السقوط التاريخي للإخوان
يوسف الحسن - دار الخليج
الملف النووي وسورية: المهمة المستحيلة لروحاني؟
جورج سمعان- دار الحياة
الحلقة الضائعة في الثورات العربية (1)
جورج قرم – السفير اللبنانية
ممارسات إسرائيلية غير مقبولة
رأي الراية القطرية
يبدو أن قدسية ليلة القدر المباركة لم تمنع إسرائيل من التوقف ولو لفترة مؤقتة عن جرائمها وتضييقها بحق الفلسطينيين ككل وقاصدي المسجد الأقصى على وجه الخصوص لإحياء هذه الليلة المباركة والتي هي خير من عبادة 83 عامًا، فبالرغم من حملهم لتصاريح تسمح لهم بدخول المدينة المقدسة إلا أن إسرائيل واصلت سياساتها الإجرامية وغير الأخلاقية بحق الفلسطينيين بمنع من هم دون الأربعين عامًا من التعبد في هذه الليلة في إولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
ليس بغريب على دولة الاحتلال الإسرائيلي التضييق على الفلسطينيين في معيشتهم وعبادتهم وحتى في وجودهم على أرضهم المحتلة، ولكن الغريب أن يبقى هذا الصمت الدولي المطبق تجاه كل هذه الجرائم، فالدول الغربية وصاحبة القرار الدولي المؤثر على وجه الخصوص، تغض الطرف متعمّدة عن الممارسات الإسرائيلية وهي التي صدّعت الرؤوس بمطالبتها العلنيّة باحترام الحريّة الدينية للأفراد والجماعات في العالم، وحينما يأتي الحديث عن الجرائم الإسرائيلية لا تجد لهم صوتًا ولا حتى ردة فعل خجولة.
العنصرية الدينية الإسرائيلية ليست مقتصرة على المسلمين فحسب، بل إن المسيحيين في الأراضي المحتلة يعانون من نفس الممارسات والتضييقات، وهذا يثبت في كل يوم أن إسرائيل دولة مارقة ومتمرّدة على القانون، بل إنها تتلذذ تعذيب الآخرين وكسر إرداتهم وحرمانهم من أبسط حقوقهم وهي حرية ممارسة المعتقد، فهي ما انفكت عن تدنيس المسجد الأقصى وقبة الصخرة بسماحها لقطعان المستوطنين بالتجول في باحات الأقصى تحت حراسة مشدّدة وكذلك غض الطرف عن ممارساتهم الاستفزازية بحق المصلين والمعتكفين.
إسرائيل ومنذ قيامها على الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وضعت نصب عينها السيطرة على القدس وتهويدها، وقد عملت انطلاقًا من منطق القوة على تسريع التهويد وطمس المعالم الإسلامية والمسيحية في المدينة وعموم فلسطين التاريخية، وما الحفريات الخبيثة تحت المسجد الأقصى المبارك وسرقة حائط البراق إلا إجراءات لفرض الهيكل المزعوم واقعًا مكان المسجد الأقصى المبارك، فحكومة الاحتلال تولي الجماعات الإسرائيلية المتطرّفة المُطالبة ببناء الهيكل أولوية خاصة من حيث التمويل والغطاء القانوني.
ليلة القدر لها قدسية خاصة لدى المسلمين، كيف لا وهي الليلة التي أُنزل فيها القرآن ليكون هدى للناس، ومنع إسرائيل الفلسطينيين من إحياء هذه الليلة المباركة بالصلاة في المسجد الأقصى لا يمكن قبوله ولا تبريره، فهذا الحق لا يقل أهمية عن حق الفلسطيني والعربي في الوجود، وهو حق لا يمكن المساومة عليه، وعلى إسرائيل التوقف فورًا عن هذه الممارسات البشعة إذا كانت جادة في تحقيق السلام العادل والشامل، فعليها أن تسوق نفسها كدولة راغبة بالسلام من خلال احترام حقوق الفلسطينيين وبالأخص الحقوق الدينية.
محاولات إسرائيلية لوأد عملية السلام
رأي الوطن السعودية
منذ اليوم الأول الذي تبنى فيه جون كيري مهمة تحقيق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، قال كثيرون إن مهمته مستحيلة، لأن التاريخ مملوء بشواهد تبين إصرار إسرائيل على إفشال أي عملية سلام حقيقية مع الفلسطينيين. لكن كيري قال في بداية مهمته إن "الفشل ليس خيارا"، وبالفعل كرس وقته وجهده الأساسي لمتابعة جهود استئناف محادثات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى أن نجح في إقناع الطرفين بالجلوس على طاولة المفاوضات.
لكن الرد الإسرائيلي الحقيقي على محاولات الوصول إلى سلام بين الطرفين لم يستغرق وقتا طويلا، فقد تحدثت صحيفة معاريف الإسرائيلية مؤخرا عن اتفاق سري بين رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو ووزير الإسكان يوري أرييل من حزب البيت اليهودي تم من خلاله إقناع هذا الحزب اليميني بالبقاء في الحكم مع بداية المفاوضات الإسرائيلية-الفلسطينية. الاتفاقية تضمنت إجراءات للمصادقة على بناء 1000 بيت جديد في الضفة الغربية والقدس الشرقية. التقرير قال إنه سيتم لاحقا منح موافقة على بناء 3500-4000 بيت جديد. وبما أن الضفة الغربية والقدس الشرقية هي مناطق محتلة بموجب القانون الدولي، فإن هذه الخطوة تعتبر انتهاكا جديدا لما تم الاتفاق عليه مع الفلسطينيين الذين أصروا على تجميد توسيع المستوطنات في المناطق المحتلة من أجل الموافقة على العودة إلى طاولة المفاوضات. لذلك فإن من المتوقع أن تسفر هذه الخطة الإسرائيلية الاستفزازية عن ردة فعل سلبية من الفلسطينيين الذين قد ينسحبون من المفاوضات كما حدث من قبل أكثر من مرة في ظروف مشابهة.
لقد أثبتت إسرائيل أنها لا تعير أي أهمية للقانون الدولي وأنها غير معنية بالوصول إلى اتفاق سلام عادل مع الفلسطينيين، معتمدة على الدعم الدولي، وخاصة الأميركي، الذي يقدم الدعم الكامل والمفتوح لإسرائيل في جميع الظروف والحالات. لذلك فإن على الولايات المتحدة بشكل خاص أن تسعى لوضع الضغوط في مكانها وإجبار إسرائيل على الالتزام بتعهداتها وانتهاج مسار جدي للوصول إلى اتفاقية سلام مقبولة من الفلسطينيين.
إذا كان المجتمع الدولي معنيا باستقرار الشرق الأوسط، فعليه أن يثبت ذلك بخطوات عملية لأن مجرد الإعلان أن "الفشل ليس خيارا" لا يكفي وحده لإنجاح عملية معقدة مثل السلام في الشرق الأوسط.
بماذا تبشـرنا مفاوضات واشنطن؟!
ياسر الزعاترة - الدستور الأردنية
ها هي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية تستأنف من جديد، وذلك بعد أن عانى صائب عريقات البطالة أكثر من ثلاث سنوات، وها هو مارتن إنديك، الصهيوني العريق، صديق قادة السلطة، وسفير أمريكا الأسبق في الكيان الصهيوني يعود إلى الحلبة من جديد كمشرف على تلك المفاوضات، فهل ستكون الرحلة الجديدة كسابقاتها، أم أن في الأفق احتمالات أخرى؟!
يبدو من الكسل الفكري القول إنها ستكون عبثية كسابقاتها، ولا نعني بنفي العبثية هنا أنها (أي المفاوضات) ستمنح الفلسطينيين شيئا أفضل من الجولات السابقة منذ مدريد 91 ولغاية الآن، ولكن لجهة ما يمكن أن تتوصل إليه من نتائج خلال ستة إلى 9 أشهر، هي المدة التي حددها كيري، أو خلال فترة أطول بحسب التطورات (المواعيد ليست مقدسة كالعادة!!).
من الضروري التذكير بأن واشنطن وقيادة السلطة لم تجد بدا من الخضوع لشروط نتنياهو لاستئناف التفاوض، فلا الاستيطان تم تجميده، وهو للتذكير استيطان في الأراضي المحتلة عام 67 التي ينبغي أن تقام عليها الدولة الفلسطينية العتيدة، ولا شرط أن يكون التفاوض على قاعدة حدود 67 تم القبول به، فيما منحت السلطة حافزا يصلح للتسويق في احتفالات مهيبة، أعني الإفراج عن 104 من كبار الأسرى الذين اعتقلوا قبل توقيع اتفاق أوسلو عام 93، مع العلم أننا نفرح بالإفراج عن أي أسير مهما كانت محكوميته، وأيا يكن انتماؤه، لكن ذلك شيء والتخلي عن القضية التي ناضل الأسرى والشهداء من أجلها شيء آخر، وهو ليس ذنبهم على كل حال.
سمعنا عن العرض الذي قدمه كيري لمحمود عباس، لكن العرض لا يشتمل على أي عنوان يستحق التوقف، بما في ذلك الحديث عن دولة متواصلة جغرافيا (مصطلح بائس يشي بما وراءه، إذ كيف تكون دولة إذا لم تكن متواصلة جغرافيا، مع العلم أن التواصل يمكن أن يتم، بل الأرجح أن يتم من خلال الجسور والأنفاق بسبب التوافق على بقاء الكتل الاستيطانية الثلاث الكبيرة في عمق الضفة الغربية، وهي التي تفتت الكيان الفلسطيني، وتسيطر على أحواض المياه في الضفة، ومع ذلك سيتم التخلي عنها تحت مسمى تبادل الأراضي الذي تم التأمين عليه عربيا).
ولكن ما الذي يدفعنا إلى القول إن هذه المفاوضات قد لا تكون كسابقاتها من حيث النتيجة النهائية؟ السبب هو الأجواء العربية والدولية التي تقف خلفها، وفي المقدمة انشغال الأنظمة العربية الكبيرة التي كانت تسمى محور الاعتدال بمطاردة ربيع العرب والإسلام السياسي، وفي مقدمته الإخوان وحماس ومن على شاكلتهما، بما في ذلك القوى السلفية التي تنخرط في العمل السياسي.
أما الذي لا يقل أهمية، فيتمثل في وجود قيادة فلسطينية لديها القابلية للتنازل وعقد الصفقات السرية، وهي عموما تبدو موافقة على أحد الاحتمالين اللذين يمكن أن تسفر عنهما المفاوضات، ويتمثل أولهما في دولة في حدود الجدار الأمني مع بقاء القضايا الأخرى عالقة، ولكن كنزاع حدودي، وسيكون من المناسب بعد ذلك الدفع في اتجاه حصول تلك الدولة على عضوية كاملة في الأمم المتحدة، ليكون الاحتفال التاريخي بوقوف محمود عباس خلف تأسيس الدولة الفلسطينية الديمقراطية الحديثة كما ذهب رئيس الكيان الصهيوني شيمون بيريز!!
والحال أن هذا المسار كان يمضي دون توقف منذ ورثت قيادة السلطة الحالية ياسر عرفات، وهو مسار تجمع عليه الأوساط الإسرائيلية بكل ألوانها السياسية، لكن الاحتمال الآخر لا يبدو مستبعدا. أعني الوصول إلى اتفاق نهائي يتمثل في دولة على الأراضي المحتلة عام 67 دون الغور، ودون الكتل الاستيطانية، وبالطبع دون سيادة كاملة، فضلا عن كونها منزوعة السلاح وبضمانات أمنية مشددة. وتبقى قضية القدس الشائكة التي أفشلت مفاوضات كامب ديفيد عام 200، والمفاوضات مع حكومة أولمرت قبل سنوات، وهذه سيكون لها حلا مبتكرا يتمثل في عاصمة فلسطينية في المناطق التي ضمَّت إلى القدس بعد عام 67، فيما تبقى المدينة موحدة تحت السيادة الإسرائيلية وإشراف عربي دولي على المقدسات لا يحرم الصهاينة من استمرار البحث عن الهيكل المزعوم في محيط المسجد الأقصى. ولا ننسى أن ترتيبات كونفدرالية مع الأردن ستكون حاضرة في المشهد التالي، فيما ستجري مطاردة قطاع غزة حتى تركيعه وضمه للمشروع من خلال مصر ما بعد الانقلاب.
لا عودة بالطبع للاجئين للأراضي المحتلة عام 67، بل سيتوزعون على مناطق السلطة، والمناطق التي يعيشون فيها، ولا يعرف إن كانت هناك تعويضات سيتكفل بها العرب على الأرجح، أم ستعتبر مقايضة مع ما يعرف بأملاك اليهود في الدول العربية التي هاجروا منها إلى الكيان الصهيوني.
احتمالان إذن للمفاوضات الجديدة تشجع عليهما مرونة السلطة، ودعم العرب للعملية التفاوضية الجديدة (روحية الاحتمال الثاني هي وثيقة جنيف وملحقها الأمني). لكن السؤال هو: هل سيستقر الوضع على أي من الحالين فيما لو أنجز؟ الجواب هو لا، فلا الشعب الفلسطيني سيقبل بصفقة بائسة من هذا النوع (لا قيمة لاستفتاء لأهل الداخل يستثني الشتات، ويمكن التلاعب بنتائجه)، ولا جماهير الأمة ستقبل به بعد أن تستأنف ربيعها من جديد بعد مرحلة التعثر الحالية.
وساطة جون كيري: مفاوضات استئناف المفاوضات
جميل مطر - دار الحياة
مرة أخرى، لعلها المرة العشرون، التي ينتابني والكثير من أبناء جيلي الشعور بأن أحداً ما يتعمد الاستخفاف بنا كأمة عربية ويستهين بالقادة العرب. قبل أيام جلسنا نستمع إلى رواية عن السناتور جون كيري الذي أصبح وزيراً للخارجية الأميركية، تحكي كيف أنه قضى أربعة شهور كاملة يضع خطة تهدف إلى «استئناف» المفاوضات المتوقفة بين السلطة الفلسطينية وحكومة إسرائيل. تحكي أيضاً أنه في نهاية الشهور الأربعة تحقق له ولخطته النجاح حين اجتمع في واشنطن قبل أسبوع وعلى مائدة واحدة السيد صائب عريقات القائد الدائم لفريق المفاوضات الفلسطيني والسيدة تسيبي ليفني وزيرة العدل في حكومة اليمين التي يرأسها بنيامين نتانياهو، عن الجانب الإسرائيلي. الأمر الواضح طبعاً هو أن المفاوضات لن تجري، كما جرت في جولة سابقة، بين وفدين كل منهما يقطن في طابق بعيداً من الطابق إلذي ينزل فيه الوفد الآخر، بينما يقضي الوسيط الأميركي وقته متنقلاً بين الطابقين. والمعنى أيضاً واضح وهو أن الوسيط جون كيري يريدها مفاوضات ودية في جو ناعم وأليف وخالٍ من التوتر وبعيد من أعين المتطفلين.
كغيرها من المرات السابقة التي ألفناها وحفظنا خطواتها أحيطت العملية، وأقصد عملية «الاستئناف»، بهالة من التعظيم. إذ خرج الرئيس الأسبق جيمي كارتر صاحب المكانة المتميزة في موضوع مفاوضات السلام منذ أن توصل خلال رئاسته إلى اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل، فكانت أول وآخر إنجاز حققه لبلده خلال حياته السياسية الممتدة حتى عمر يكاد يناهز التسعين عاماً، خرج مشيداً بالمجهود الخارق الذي بذله الوزير كيري وبشجاعة نتانياهو الذي لولاه لما أقدمت إسرائيل على ما أقدمت عليه من أجل استئناف المفاوضات.
قيل في الحكايات التي صاحبت الإعلان عن نجاح السناتور كيري في جمع الطرفين إلى مائدة واحدة، ومنها حكاية الرئيس كارتر، إن نتانياهو على وشك أن يدخل التاريخ باعتباره «البطل التاريخي الذي جاء بالسلام الكامل والنهائي»، إذ أن لا أحد غير نتانياهو كان يمكن أن يكون صانعاً للسلام. يدللون على حجتهم بأن توني بلير، الرجل الخفي في «عملية توقف المفاوضات» وعمليات أخرى عديدة لا علاقة لها بالصراع العربي - الإسرائيلي بقدر علاقتها بصنع ثروة خاصة مستفيداً من عقبات السلام، كان يعرف طول الوقت أن نتانياهو سيكون صانع السلام.
يقولون أيضاً، وكارتر بين القائلين، إن خطة الوزير كيري تستحق الإعجاب لأسباب أربعة على الأقل، أولها اعتمادها على إصرار عنيد ينوي التمسك به. ثانيها، فرضه مبدأ السرية المطلقة على المفاوضات وعدم إدلاء المفاوضين بتصريحات إلا بموافقة الأطراف الثلاثة. ثالثها، إخراج عملية المفاوضات، مكاناً وزماناً وشكلاً وتنظيماً، بحيث تجري في واشنطن تحت سمعه وبصره وبعيدة تماماً من تدخلات السياسيين المعارضين ومن الرأي العام وأسماع القوى المتصارعة في الميادين العربية. رابعها، نجاحه المرموق في «تشغيل» الجامعة العربية وفي «مناشدة» الجاليات اليهودية في أميركا. مهم من دون شك التمييز في الصياغة بين إصدار أوامر لتشغيل الجامعة العربية وبين مناشدة وتوجيه نداءات إلى الجالية اليهودية، وبخاصة في السياق الراهن لحال العرب في الشرق الأوسط وعلى ضوء المزاج السائد بين اليهود في الولايات المتحدة بعد الانتصار الذي حققه نتانياهو بمساعدتهم على الرئيس باراك أوباما في المواجهات التي وقعت على أرضه وفي ساحته.
إلى جانب الإشادة بانجازات جون كيري تعددت مظاهر الإشادة بعنصرية نتانياهو خلال الشهور الأربعة التي كان كيري يستعد فيها لإطلاق المفاوضات، وبخاصة حين جرت المحاولة المعتادة للمناورة بلعبة يطلق عليها أحياناً «الثنائي الخبيث»، وأقصد الربط المتعمد بين قضية وقف بناء المستوطنات وقضية الإفراج عن المعتقلين الفلسطينيين، باعتبارهما القضيتين اللتين يتشبث بهما الفلسطينيون كشرطين لاستئناف المفاوضات. عرف الوسطاء الأميركيون والأوروبيون كما عرف الإسرائيليون أن التنازل في واحدة منهما بعد مفاوضات شاقة يسمح بالتمسك بالأخرى، بمعنى أنه بعد إنهاك الفلسطينيين وحلفائهم، إن وجدوا، يلجأ الأميركيون والإسرائيليون إلى الإفراج عن عدد من المعتقلين مقابل تنازل الفلسطينيين عن التمسك بشرط وقف الاستيطان.
وكما جرت العادة شهدت المرحلة الأخيرة من مباحثات الاستعداد لاستئناف المفاوضات مناوشات ومناورات داخل العائلة الإسرائيلية وبخاصة بين نتانياهو ونافتالي بنيت رئيس حزب «إسرائيل بيتنا» والشريك في الحكومة، وهي المناورات التي انتهت بموافقة ثلاثة عشر وزيراً على تقديم التنازل بإطلاق سراح بعض المعتقلين، بشروط لعلها لم تعلن صراحة بوضوح كافٍ، أولها أن تبقى المفاوضات المستأنفة مفتوحة إلى الأبد، بمعنى ضرورة العمل على إطالتها ورفض كل محاولات وضع حد أو نهاية لها، وأن تبقى في حدود مهمتها الأساسية وهي الاستعداد لاستئناف المفاوضات. ثانيها، الحصول من الاتحاد الأوروبي على قرار جديد يضمن عدم تنفيذ قراره منع التعامل الاقتصادي مع المستوطنات والتعهد بعدم التدخل بأي قرار جديد يؤثر في مسيرة استئناف المفاوضات. ثالثاً، الاستفادة من استئناف المفاوضات واستمرارها لفترة طويلة لاستعادة مكانة أفضل لإسرائيل في المجتمع الدولي ولاستكمال أهداف إسرائيل في الاستيطان والهيمنة على بقية الأراضي الفلسطينية.
لفت انتباهنا أن صحفاً كثيرة كتبت عن سمات التفاؤل التي بدت على وجوه المفاوضين الإسرائيليين والوسطاء الأميركيين، ومن بينهم الوسيط الجديد المثير للجدل والقادم من مؤسسة بروكنغز وصاحب السجل الطويل في تقلبات الولاء السياسي، مارتن إنديك. أستطيع أن أفهم دواعي هذا التفاؤل، فبالنسبة الى الأميركيين قد يحمل هذا الاجتماع للرأي العام الأميركي معنى أن أوباما ليس سيئاً أو ضعيفاً إلى الدرجة التي أصبح يوصف بها في معظم دوائر صنع القرار في دول عديدة، وان إدارته قادرة على تحقيق إنجاز في أصعب قضية دولية على الإطلاق، بما يعني زيادة في احتمالات نجاحه في قضايا دولية أخرى متعثرة.
أتصور أيضاً أن الأميركيين متفائلون لأنهم ربما اعتقدوا أن «الاستئناف» في حد ذاته يمكن اعتباره مكسباً تمكنت اميركا من انتزاعه من أطلال الربيع العربي. بمعنى آخر، الاعتقاد بأن الديبلوماسية الأميركية استطاعت خلال الشهور الأربعة الماضية إقناع الإسرائيليين بأن المرحلة الراهنة أفضل المراحل على الإطلاق لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لأن العرب في غالبيتهم العظمى إما مشغولون في مشاكلهم الداخلية أو لأن الحكام العرب متوجسون شراً من عواقب تطور الفتنة المذهبية بين السنّة والشيعة في اتجاه أن تصبح صراعاً سياسياً وعسكرياً إقليمياً بأبعاد رهيبة في نظام دولي وإقليمي غير مستقر.
كتب معلق أميركي يشيد بهذا التفاؤل البادي بوضوح لدى الجانبين الأميركي والإسرائيلي، ويقول إن المفاوضين في هذين الجانبين واثقون من أن السلطة الفلسطينية بعثت بمفاوضها الأوحد، السيد صائب عريقات، رغم معرفتها ومعرفة كل أطراف «مفاوضات الاستئناف» بأنه يمر في أشد مراحل حياته السياسية والديبلوماسية ضعفاً، لأسباب داخلية وشخصية عديدة، ولجروح عميقة خلفتها حملة إعلامية شرسة.
لا شك في أنها فرصة ذهبية ولا تعوض، فرصة الدخول في مفاوضات، تحت الضغط، للحصول لإسرائيل على الكثير والكثير مما سعت إليه. إذ قد لا يحدث في وقت قريب أن تكون الساحة العربية غير منتبهة بكل حواسها إلى القضية الفلسطينية، كما هي الآن، وقد لا يحدث أن تتمكن أميركا في ظل استمرار تنفيذ انسحاباتها من الشرق الأوسط، من أن تؤثر كما تؤثر الآن في القرار الإسرائيلي بأسلوب يلجم قوى التطرف. مرة أخرى تجد الولايات المتحدة نفسها تتفاوض مباشرة مع إسرائيل في قضية تتعلق بالصراع العربي - الإسرائيلي في غياب العرب. مرة أخرى تتعرض الديبلوماسية الأميركية لاختبار مصادر قوتها على يد إسرائيل، أقرب حلفائها.
الربيع العربي والمستوطنات الإسرائيلية الجديدة
عطاء الله مهاجراني – الشرق الأويط
في ضوء الأحداث الحالية في منطقتنا، ولا سيما في فلسطين، أعتقد أن الضحية الكبرى للربيع العربي كانت ولا تزال تتمثل في الفلسطينيين، وبالطبع عملية السلام الفلسطينية، فالمسلمون مشغولون بقتل وإرهاب بعضهم البعض في سوريا والعراق ومصر وأفغانستان، وحتى في تونس، وأصبحنا نركز الآن على ميدان رابعة العدوية وميدان التحرير، بدلا من التركيز على فلسطين، وهو ما أصبح بمثابة فرصة ذهبية لإسرائيل للتخلي عن عملية السلام وبناء مستوطنات جديدة كل شهر، وصدق المثل القائل «مصائب قوم عند قوم فوائد».
وكان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد وضع البيض كله في سلة الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وكان هذا بمثابة رهان كارثي جعله في النهاية يفقد المصالح الفلسطينية في دول الخليج، كما كررت حركة حماس نفس الخطأ الاستراتيجي لعرفات عندما وضعت كل البيض في سلة محمد مرسي. وللأسف، لا توجد وحدة في العالم الإسلامي في الوقت الراهن، ونفس الأمر ينطبق على الفلسطينيين أنفسهم.
والآن، أصبحنا في موقف معقد للغاية، حيث أصبحت هناك عملية سلام جديدة، ومبعوث أميركي خاص لعملية السلام معروف بدعمه التام لإسرائيل وهو السفير مارتن إنديك، الذي جاء بعصاه السحرية لإضاعة الوقت ومحاولة خلق أجواء إيجابية لتحقيق مصالح إسرائيل. وأعتقد أن هذا الوضع المعقد له ثلاثة أبعاد مختلفة:
1 - أعلنت القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي أنه على الرغم من القرار الإسرائيلي بالإفراج عن 104 معتقلين فلسطينيين واستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، فإن وزارة الإسكان الإسرائيلية قد وافقت على إنشاء مستوطنة جديدة في قلب القدس الشرقية المحتلة. ووافق وزير الإسكان الإسرائيلي أوري أرئيل على الخطة. وأضاف أن الكثير من المحللين السياسيين في إسرائيل يعتقدون أن هذه القرار يعد بمثابة ضربة قوية للجهود الرامية إلى استئناف واستمرار المفاوضات. وتم تقديم الخطة مرة أخرى إلى مجلس المدينة الذي وافق عليها، ومن المقرر أن تتم عمليات البناء على مساحة خمسة دونمات. وقد رفض الجانب الفلسطيني هذه الخطة، ولكن يبدو أنه عازم على استئناف الجولة الأولى من المفاوضات مع الإسرائيليين.
2 - توقفت المفاوضات المباشرة بين الجانبين منذ سبتمبر (أيلول) 2009، عندما استأنفت إسرائيل عملياتها الاستيطانية. وتنتشر المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس، علاوة على أن الجدار العازل قد حول الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات منعزلة. يذكر أن مساحة الضفة الغربية تصل إلى 5655 كيلومترا مربعا طولا، وما يتراوح بين 40 و65 كيلومترا عرضا، بينما تصل مساحة قطاع غزة إلى 365 مترا مربعا طولا وما يتراوح بين 5 و12 كيلومترا عرضا، وهو ما يعني أن إجمالي الأراضي الفلسطينية يصل إلى 6020 كيلومترا مربعا.
وقال مسؤول بالبيت الأبيض، إن الرئيس الأميركي باراك أوباما قد التقى يوم الثلاثاء الماضي مفاوضين إسرائيليين وفلسطينيين بارزين في اليوم التالي لاستئناف المفاوضات في واشنطن. ويأتي هذا الاجتماع بعد أول جلسة من المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية بعد نحو ثلاث سنوات من التوقف في الوقت الذي أعرب فيه وزير الخارجية الأميركي جون كيري عن أمله في الوصول لحل لهذا الصراع، على الرغم من الخلافات العميقة بين الجانبين. ولم يشارك أوباما في المفاوضات حتى الآن، وترك الأمر لوزير خارجيته لكي يقود المفاوضات بين الجانبين.
ويعد استئناف المفاوضات جزءا من مساعي الولايات المتحدة لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، وهو ما تم الإعلان عنه بداية الشهر الحالي من قبل كيري. ويشارك في هذه المفاوضات الأولية تسيبي ليفني من الجانب الإسرائيلي، وصائب عريقات من الجانب الفلسطيني، ومن المتوقع أن تستمر المفاوضات تسعة أشهر. وفي الوقت الذي طلب فيه كيري من الجانبين التوصل لـ«تسوية معقولة»، تبقى هناك نقاط محل خلاف كبير مثل قضايا الحدود والأمن.
وفي حوار مع «راديو إسرائيل» صباح الثلاثاء الماضي، أعربت ليفني عن اعتقادها أن إسرائيل ليس لديها خيار القبول بالهزيمة فيما يتعلق بالتوصل لاتفاق سلام دائم مع الفلسطينيين، وأنه من الممكن التوصل لمثل هذا الاتفاق. وقالت ليفني إن الأجواء كانت إيجابية في حفل العشاء الذي أقيم في وزارة الخارجية الأميركية ليلة الاثنين، وهو ما يعد بمثابة البداية الرسمية للمفاوضات، بعد ثلاث سنوات من انتهاء المحادثات بالفشل.
وقالت رئيسة وزراء إسرائيل السابقة في مقابلة مع وكالة «رويترز»: «نحن الآن بعد أربع سنوات من الجمود، وقد تفاوضنا في الماضي، ولكننا وصلنا إلى طريق مسدود. وأتمنى أن يكون هناك فهم أفضل الآن لحقيقة أنه من مصلحة الشعبين أن يتم التوصل إلى اتفاق ينهي هذا الصراع». إنها كلمات معسولة ووعود إيجابية من جانب ليفني، ولكننا نعلم جيدا أن إسرائيل متمرسة في التلاعب بالكلمات وإضاعة الوقت.
ومن المرجح أن يلعب مارتن إنديك دورا مهما في عملية السلام. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: هل يتعين علينا أن نكون متفائلين أو متشائمين، أو «متشائلين»، على حد قول الروائي الفلسطيني الكبير إميل حبيبي.
وفي الآونة الأخيرة، قرأت مقالا ليوسي بيلين نشر في صحيفة «جيروزاليم بوست» في الثاني من أغسطس (آب) الحالي. وخلال هذا المقال، عبر بيلين عن دعمه الكامل لإنديك. يذكر أن بيلين هو مهندس اتفاق أوسلو، الذي أطلقه عام 1992 عندما كان نائبا لوزير خارجية إسرائيل.
3 - يتمثل البعد الثالث في موقفنا الحالي في انتشار الكارثة إلى الدول الإسلامية والعربية نتيجة ما يعرف بالربيع العربي. وإذا ما ألقينا نظرة عابرة على عناوين الصحف سوف نرى أن هناك انفجارات في كل مكان يقتل خلالها المسلمون بعضهم البعض. وفي سوريا، غطت أصوات المدافع والدبابات والرصاص على أصوات أجراس المدارس، كما أدت الأزمة في مصر إلى حالة مقلقة من الاستقطاب، مما يذكرنا بقول الله تعالى في سورة المؤمنون «كل حزب بما لديهم فرحون».
وكما يقول راشد الخالدي في كتابه «سماسرة الخداع»: «فإن ما تسمى عملية السلام الجديدة ستكون بين سماسرة الخداع من جانب، والفلسطينيين من جانب آخر، أما الحقيقة على الأرض فتتمثل في بناء مستوطنات جديدة كل يوم ومعاناة الفلسطينيين بين الجدران الأمنية والمستوطنات. ولكي نكون صرحاء، يجب علينا أن نعترف بأننا قد نسينا الفلسطينيين وأن نتذكر قول الله تعالى في سورة الرعد (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)».
حماس و«محور الممانعة» ... هل هي «عودة الابن الضال»؟!
عريب الرنتاوي - الدستور الأردنية
المؤكد، أن حماس تبذل جهوداً حثيثة لوصل ما تقطّع من سبلها وعلاقاتها مع “محور المقاومة والممانعة”، بعد الاهتزازات الشديدة التي تعرض “الهلال الإخواني” في المنطقة، بدءا من بؤرته في مصر ... والمرجح أن تفضي هذه الجهود إلى “تطبيع” العلاقات بين الحركة وحلفائها القدامى، بيد أنه من السابق لأوانه التكهن بأنها ستعود إلى سابق عهود الثقة والدفء و”الدعم السخي”، والأرجح أن الحركة لن تستقبل بالحفاوة ذاتها في عواصم الحلف الثلاث: طهران، دمشق والضاحية الجنوبية.
بالنسبة لكثيرين، خصوصاً من الناطقين باسم “المحور” المذكور، تشبه عودة حماس إلى خنادقها القديمة “عودة الابن الضال” ... فالحركة ما أن استشعرت وجود بدائل لها من “طينتها وملّتها” في كل من القاهرة وأنقرة وتونس والدوحة، حتى غادرت حضنها الدافئ، في طهران ودمشق والضاحية، وها هي اليوم، وقبل أن تستكمل استدارتها الكاملة، وتستريح في خنادقها الجديد، تبدأ رحلة “العودة إلى قواعدها “سالمة أو غير سالمة.
حماس، التي اعترف رئيس مكتبها السياسي ذات يوم لكاتب هذه السطور، في مقره في دمشق، وفي ذروة العلاقات الممتازة مع “المحور”، بأنها لم تكن أبداً مرتاحة لاحتسابها عليه، وحده دون سواه، كانت دوماً توّاقة، لتوسيع دائرة تحالفاتها، وقد سيّرت العديد من الوساطات والوسطاء، لتحسين علاقاتها مع الأردن (على سبيل المثال)، وتخطي حالة الانقطاع والقطيعة... وبعد حرب الرصاص المصبوب على غزة، أبلغني خالد مشعل، بأنه كان يتطلع لاستقبال موفدين ومسؤولين عرب وإقليميين في دمشق، من معسكر الاعتدال، وليس من معسكر الممانعة فقط، للتضامن والتهنئة والتبريك، حتى لا تحتسب الحركة على محور دون آخر ... نقول ذلك من باب الشهادة للتاريخ.
وقبل بذلك ببضع سنوات، وبالتحديد بعد انتخابات 2006 والحسم/الانقلاب في 2007، وفي حوار مع مسؤولين أردنيين كبار (جداً) أخذوا على حماس انحيازها للمحور “الشيعي” “الفارسي”، قلنا بالحرف الواحد: أن كل باب يغلق في وجه حماس في عمان والقاهرة والرياض، ستفتح مقابله أبواب في دمشق وطهران والدوحة (آنذاك) والضاحية الجنوبية ... وأن من يريد لحماس أن تكون في صفوفه عليه أن يمدها بأسباب القوة، أو في الحد الأدنى بما يقدمه لها الآخرون من إسناد بالمال والسلاح والعتاد والتدريب و”الجغرافيا الآمنة” ... وكنا في ذلك ننطلق من فرضية أن “حصر” علاقة حماس بذاك المحور، لم يكن خياراً بقدر ما كان اضطرارا.
كان ذلك قبل اندلاع شرارات الربيع العربي والصعود الإسلامي ... أما بعد هذا التاريخ، فقد وجدت نفسها من “أهل البيت” في القاهرة وتونس وعدد من الدول العربية ... وتحوّلت أشواقها لعلاقات طبيعية مع بعض الدول العربية، إلى رهانات ذات طبيعة استراتيجية، وبالغت الحركة في حساباتها ورهاناتها، قبل أن تصطدم كما اصطدمنا، بمفاجأة ثورة 30 يونيو وانقلاب الشعب على الإخوان، وسقوط أول تجربة للحكم لهم في “أم الدنيا” ... كان طبيعياً والحالة كهذه، أن تستلهم حماس الشعار الذي يذكره كل من عاصر تجربة حرب لبنان وحصار بيروت: “قف وفكّر”.
إيران ستفتح ذراعيها لحماس العائدة إلى خندقها ... فهي بالأصل، لم تقطع الصلة والإمداد، أقله مع اتجاهات وشخصيات من داخل حماس، وستعاود مد الحركة الدعم متعدد الأشكال، وإن بحذر أكبر وشروط أثقل هذه المرة، مدفوعة في ذلك من حسابات الدور الإقليمي لطهران، ومن رغبة الجمهورية الإسلامية، بالاحتفاظ بوجود مباشر على خطوط التماس مع إسرائيل.
حزب الله سيفعل شيئاً مماثلاً، ولكن بحذر أعلى من حذر طهران، تمليه ظروف الحزب الخاصة، وإحساسه العميق بالاستهداف، وحرصه على ألا يؤتى من مأمنه ... وسيكون الحزب في ذلك مدفوعاً برغبته في تفكيك أطواق العزلة السنيّة التي اشتدت من حوله على وقع الأحداث السورية، وتطورت بعد تدخله المباشر في معارك القصير وما بعدها.
أما سوريا، فليس ثمة ما أو من سيدفعها أو يضغط عليها من أجل استقبال حماس من جديد بين ظهرانيها، وهي التي كشف وليد المعلم، بأن قيادتها ما كانت لتنفتح كل هذا الانفتاح على الحركة، لولا ضغوط إيران وحزب الله، فأزمة الثقة بين دمشق والإخوان بمختلف صنوفهم وجنسياتهم، عميقة للغاية، ولطالما حار المراقب في إدراك كنه العلاقة الخاصة التي نشأت بين حماس والنظام، بشار الأسد وخالد مشعل ... ولا احسب أن أي من طهران أو حزب الله، سيجد الرغبة أو الحافز للضغط على الأسد أو تشجيعه لاستعادة حماس وإعادتها، أقله إلى أن تقدم الحركة لدمشق، ما يكفي للبرهنة على أنها “عودة مفيدة للطرف السوري ابتداءً”، لا خطوة منبثقة من حسابات تكتيكية أو انتهازية.
حماس ستسعى في اسباغ بعض التوازن على علاقاتها مع العواصم العربية والإقليمية، وستكون أكثر حذرا في مقاربة لعبة المحاور والخنادق المتقابلة ... ستعمل على استرجاع علاقاتها مع “محور المقاومة”، بيد أنها ستبذل ما في وسعها للاحتفاظ بعلاقاتها وتطويرها مع محور الاعتدال أو ما تبقى منه أو تفرع عنه ... وعلينا أن نتذكر جيّداً، أن حماس في بداياتها، وفي ذروة عملياتها “الجهادية” في أواسط التسعينات، لم يكن لها حليف أكثر قرباً من العاصمة الأردنية، وكان مقر قيادتها في عمان، قبل دمشق وطهران والدوحة والضاحية الجنوبية، فيما عمان كانت وما تزال، الأنشط من بين جميع العواصم العربية في دفع عملية السلام وتبني خيار المفاوضات ... والملك الحسين هو من أنقذ حياة خالد مشعل بعد محاولة الاغتيال الإسرائيلية الفاشلة، وهو من أخرج الشيخ أحمد ياسين من سجنه، وعجّل في فرج موسى أبو مرزوق من سجون الولايات المتحدة.
خلاصة القول: أن حماس تتمتع بقدر من المرونة والبراغماتية في علاقاتها وتحالفاتها، ما يكفي للسير على أكثر من حبل مشدود، وجمع كثيرٍ من التناقضات في سلة واحدة، من عمان والدوحة وحتى طهران والضاحية الجنوبية.
حقيقة الشرعية
المستشار إسلام إحسان - اليوم السابع
عندما ثار الشعب فى 30 يونيو، مطالباً بعزل الرئيس السابق محمد مرسى، دافع الرئيس المعزول عن بقائه فى منصبه بسند وحيد، ظل يردده كثيراً، وهو أنه الرئيس الشرعى لمصر، ومن ثم من حقه البقاء فى منصبه حتى انتهاء مدته.
ومنذ هذا الحين، ظهرت كلمة الشرعية على السطح، وأصبح الكثيرون يرددون هذا المصطلح القانونى والدستورى، شأن العديد من المصطلحات التى تتردد كل فترة، دون فهم حقيقة معناها، وصحة مدلولها مثل العولمة، والشراكة، والشفافية، وغيرها من المصطلحات والعبارات، التى تستخدم فى أحيان عديدة فى غير محلها، أو دون فهم حقيقة مدلولها.
الشرعية هو مصطلح سياسى ذو أصل لاتينى، مفهومه البسيط إضفاء الصفة القانونية على شىء ما، والأصل العربى للشرعية يرتبط بشكل مباشر بالاتفاق مع "الشرع"، وهو ما ينبىء فى الكشف عن وجوب استناد الشرعية إلى الرضائية كسند لها، أى ما يرتضيه الناس، فذلك هو أساس الشرعية.
ومن هنا يجب أن نفهم بوضوح أن هناك نوعين من الشرعية، لا يجوز الخلط بينهما، النوع الأول هو شرعية الوصول إلى الحكم، والنوع الثانى هو شرعية الاستمرار فى الحكم، فشرعية الوصول إلى الحكم تكون من خلال الصندوق، بأن يختار الرئيس بانتخابات حرة نزيهة، تعبر عن إرادة الناخبين ورضاهم عن اختياره، أما النوع الثانى، وهو شرعية الاستمرار فى الحكم، فتعنى أن يرضى الناس عن عمل الرئيس وعن أدائه، وعن وفائه بمتطلبات منصبه، وجدارته به، أو بمعنى أدق صلاحيته للاستمرار فى شغله.
وبذلك يبين أنه لا يغنى أحد نوعى الشرعية عن الآخر، لكن لكل منهما نطاقه الزمنى، فشرعية الوصول إلى الحكم لابد أن تتحقق وتكتمل، ثم ينتهى أثرها قبل بدء شرعية الاستمرار فيه، فالأخيرة شرعية لاحقة يبدأ نطاقها الزمنى ببدء مباشرة الرئيس مهام منصبه، ويجب أن تستمر طوال فترة عمله.
ومن ثم فإن تحقق أحد نوعى الشرعية لا يعنى بالضرورة تحقق النوع الثانى، كما أن فقد أحد نوعى الشرعية لا يعنى فقد النوع الآخر، فقد يصل الحاكم إلى الحكم بطريقة غير شرعية إلا أنه ينجح فى ممارسته لمهام الحكم فيرضى عنه الشعب، هنا تتوافر له شرعية الاستمرار المبنية على رضا الناس من أدائه، رغم افتقاده لشرعية الوصول إلى منصبه، ولعل المثال الواضح على ذلك فى التاريخ المصرى حكم محمد على، الذى وصل إلى حكم مصر بطريقة غير شرعية من خلال قتل خصومه، لكنه حاز بعد ذلك رضا المصريين عن أدائه فى الحكم فتمتع قطعا بشرعية الاستمرار فيه، هذه هى الشرعية بعنصريها التى يتحدث عنها الجميع دون فهم حقيقة معناها.
أسئلة السقوط التاريخي للإخوان
يوسف الحسن - دار الخليج
هل أصبحت تيارات وأحزاب “الإسلام السياسي” عبئاً على التحول الديمقراطي في الوطن العربي؟؟ وهل ما تواجهه هذه التيارات والأحزاب في هذه الأيام من تحديات هو مجرد مأزق سياسي مألوف في مواجهة الدولة، أم هو مأزق من النوع الوجودي في مواجهة المجتمع؟ والمأزق الأخير ذو طبيعة مغايرة لما هو مألوف، وهو ما يورث الشعور العميق بالهزيمة، ويتطلب من هذه التيارات والجماعات المنظمة مراجعات جذرية، واجتهادات جسورة، حتى لو كانت متأخرة لنحو ثمانية عقود .
هل ستعود هذه القوى الإسلاموية للعمل تحت الأرض، كما يهدد مثقفون متعاطفون معها في دول الخليج والجزيرة العربية، فتمارس العنف الأعمى والعبثي، وتتحالف سراً مع آخرين كانوا في خطابها الشائع مجرد “شياطين وكُفّار”؟ وهل أدركت هذه القوى الإسلاموية المعاصرة حجم الحصاد المر الذي انتهت إليه جبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر، حينما مالت إلى العنف والإرهاب، وأخطأت الطريق، ولم تصل إلى الحكم أو حتى المشاركة ولا إلى قلوب الجزائريين؟؟
ألم تدرك هذه القوى والجماعات الإسلاموية حتى الآن، أن قادتها الأوائل، ومن تبعهم حتى ميدان رابعة العدوية وشوارع تونس وأرياف حلب وهضاب اليمن وغيرها، قد أوقفت بأفعالها واجتهاداتها بدايات حركة نهوض عقلانية عربية إسلامية، بشّر بها الإمام محمد عبده وغيره، واختطفها حسن البنا، ليحوّلها إلى حزب سياسي، وعقيدة مغلقة ترى في كل واقف خارج هذا الحزب مجرد “خارج” بحت، وفي فسطاس مغاير، يتوجب مقاتلته والانتصار عليه، إن بالدعاء أو الإقصاء أو العنف .
وها هي في العقود الثلاثة الأخيرة، وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة، تعطل التحوّل الديمقراطي الممكن، من خلال استثمار المقدس الديني في بناء الخطاب السياسي، والمماهاة ما بين الدين والمشروع السياسي للوصول إلى السلطة، وتعميم صورة عن نفسها في أذهان البسطاء من الناس، مفادها “أن أي عداء لها هو عداء للإسلام كدين” . فضلاً عن تباكي هذه الجماعات الإسلاموية (ومن لفّ حولها من مثقفين) على الديمقراطية، التي لم يؤمنوا بها من قبل، ولم يسهموا في إشاعة ثقافتها بين الناس .
لم تنقسم الأمة الإسلامية عبر تاريخها إلا بسبب الصراع على السلطة، ولعل هذا الصراع، في مواسم “الربيع العربي”، هو الذي كشف الغطاء عن هذه الجماعات الحزبية الإسلاموية، وقدّمها كقوة منظورة في المشهد السياسي، في مرحلة اتسع فيها “الفراغ الدولاتي”، وغاب عنها المشروع الوطني الجامع، وعانت القوى القومية والوطنية عبر عقود طويلة من انسدادات سياسية وملاحقات سلطوية، في وقت كانت فيه جماعات إسلاموية (الإخوان) تتعاون مع نظام حكم السادات ونظم عربية أخرى، ووصل بعضها إلى السلطة (السودان)، وإلى برلمانات مصرية وأردنية ومغاربية ويمنية، وفتحت لها منابر تربوية وفضائية وإعلامية، وسمح لها بالتغلغل في نسيج المجتمعات الأهلية، من خلال إنشاء مؤسسات ومراكز أكاديمية وتدريب وصحة وتعليم وإغاثة وشباب ونساء وتوجيه واقتصاد، وقد ساعد في ذلك غياب أو ضعف دور الدولة الوطنية، أو حينما كانت تتخلى عن دورها في خدمة مجتمعها ورعايته (مصر كمثال - ولبنان كمثال آخر ومن نوع آخر) . وبذلك حصدت جماعات وتيارات إسلاموية ثمرات تواجدها في الأرياف بين الناس، بعيداً عن المشهد السياسي المنظور (كذلك فعلت الكنائس المصرية)، وتشكّلت لهذه الجماعات واجهات اجتماعية ومدنية وخيرية كثيرة، واعتقد كثيرون من المستفيدين من هذه الخدمات، أن الجماعات الإسلاموية هم “بتوع ربنا” أو “بيعرفوا ربنا”، وأنها صاحبة “مظلومية تاريخية”!!
قد يخضع العربي والمسلم لاستبداد ليبرالي أو قومي أو نظام ملتبس في هويته، لكن من الصعب عليه قبول تسلّط واستبداد باسم الدين، لأنه يشعر بأنه متساوٍ مع الآخر أمام الله الذي أنزل هذا الدين . وحينما تكون خصومته مع الآخر فهي خصومة سياسية، قابلة للنقاش والتسويات والتنازلات . ويشعر المواطن البسيط، أن السلطات الطاغية والمتسلطة التي سبقت “الربيع العربي”، لم تتهمه يوماً بالكفر، ولم تتدخل في تغيير نمط حياته المعتادة، رغم أنها حطَّت من شأن مستوى معيشته، وفشلت في تحقيق عناصر أمنه الإنساني وفق مؤشرات التنمية المتعارف عليها في العالم .
اليوم، تقف كافة شبكات وجماعات الإسلام السياسي أمام معضلة وجودية، وأزمة تصل إلى درجة المحنة، قادتها إلى هاوية تسارعت فيها سرعة استهلاك حقبتها في أكثر من مكان وليس في مصر وحدها (أم الدنيا، وأم الإخوان في آن) .
وتواجه أيضاً تحديات الشعور بالفشل والهزيمة التاريخية، مع استمرار التشبث بالرغبة في الاستحواذ على السلطة، ومع تصادمها مع مجتمعاتها التي أطاحت، أو تنوي الإطاحة بها، وهي على رأس الحكم، أو على الطريق إلى الحكم .
لقد قطعت خيوطها وتواصلها مع المواطن غير (الإخواني) الإسلاموي، وغير الواقف في صفّها، وصنَّفت أي معارض لها فكراً أو سلوكاً كعدو، ورفعت راية العنف بلا مواربة، وحشدت وراءها فتاوى التأثيم والنفير والجهاد والعنف المادي والمعنوي، وصبَّت الزيت على نيران الفتنة المذهبية في أكثر من مكان .
ولا يبدو حتى الآن، وبخاصة بعد تكشّف سيناريوهات صاغها اجتماع سري لقيادات التنظيم الدولي لجماعة الإخوان انعقد مؤخراً في اسطنبول برعاية تركية، لا يبدو أن هذه الجماعات قد فهمت الدرس، واستوعبت العبرة . ومازال نزوعها الانتهازي والسلطوي أقوى من نزوعها المبدئي ومن ادِّعائها الثوري والديمقراطي، ولم تدرك بعد، أنها أشعرت عموم المسلمين بغربة الإسلام عن الواقع، وهذا بحد ذاته خطيئة . وكشفت عن تخلّفها الإداري والفقهي والمعرفي وتدبير الحكم والسياسة، وجهلها بشروط قيام الدولة الوطنية الحديثة، التي يُقيِّد سلطتها عقد اجتماعي، ويحكمها دستور يُقيّد سلطة الحاكم ويخضعها للقانون، كما يُخضع السلطة التنفيذية للمراقبة التشريعية والمساءلة القانونية ويكرِّس استقلالية القضاء .
أما غير ذلك، فلا يقود إلا إلى المجهول، وإلى تأسيس علاقات استعباد واستئصال متبادل بين قوى المجتمع .
إن السياسة والدولة ليستا من العقائد أو الأصول، وإنما تقعان في حيز الاجتهاد البشري . والدولة الحديثة العادلة، لا تُقصي أحداً ممن يقبل بقواعدها المدنية الدستورية .
كيف إذاً ستخرج هذه الجماعات الإسلاموية من هذه الأزمة العميقة؟؟ هل ستُغرق البلاد في بحور العنف والدم؟؟ ومن المؤكد واليقين تماماً، أن مثل هذا الخيار لن يعيدها إلى السلطة . وتجربة الإخوان مع النظم الحاكمة خير برهان على ذلك عبر أكثر من ستة عقود .
هل ستكيّف هذه الجماعات برامجها وخطابها مع مقتضيات ومتطلبات العمل الحزبي، واحترام النظام الأساسي للدولة، وطابعها المدني وهويتها الجامعة؟؟
ماذا لو سلكت هذه التيارات والقوى الإسلاموية الحزبية، نهج أحزاب ديمقراطية مسيحية غربية، لا تخلط ما بين الديني والزمني، مع الأخذ بالاعتبار المزاج الديني الشعبي في الوطن العربي، ومستوى الوعي الديمقراطي المتدني في أوطاننا؟؟
ماذا لو تحوّلت هذه الجماعات والتيارات الإسلاموية إلى “قوة ضغط” في المجتمعات، بعيداً عن الأطر الحزبية الساعية إلى السلطة، ومارست الضغط والدعوة، باتجاه صناع القرار والمشرِّعين والتربويات؟
هل تملك القدرة والحكمة والجسارة والمعرفة لولوج “فقه التجديد” بعد أن صار الفقه السياسي لهذه الجماعات الإسلاموية قديماً، إن لم نقل متخلفاً؟ هل ستتصالح مع مجتمعاتها وتندمج في مشروع الدولة الوطنية، على قاعدة المواطنة، ومواجهة أسئلة الأمة العربية الحقيقية حول الحرية والتنمية وإزالة الاحتلال “الإسرائيلي” والتجدد الحضاري والدور الإنساني الفاعل، وحقوق الإنسان؟؟
هل ستستمر في إنكار فشلها في تدبير السياسة والحكم والمشاركة، وفي عُقمها على مدى ثمانية عقود، في تقديم أية قيمة مضافة إلى الفقه وعلوم الاقتصاد والثقافة وإدارة الحكم والتنمية والفنون والإعلام والعلوم والابتكار؟؟
هل ستواصل مسيرة التيه، واصطناع الخصوصية والاصطفاء وسمو الأخلاق، للتغطية على مأزقها الفقهي والثقافي والسياسي والفكري ومواصلة توليد جماعات العنف الأعمى من بطنها، وإنتاج الخطابات التعبوية لصياغة ذهنية الشارع، وتبنِّي فتاوى التكفير والتأثيم ونكاح الجهاد وإرضاع الكبير، والنفير في مقاتلة مسلمين آخرين، والقتل على الهوية المذهبية، وإعادة إنتاج الأذان في كابول وغيرها، بتحالف غير مكتوب مع “غرب كافر” على حد ما يزعمون، ومحاربة جيش عربي مصري في سيناء، وآخر في تونس أو الجزائر أو اليمن، بينما العدو، الذي قاتلنا في ديننا، وأخرج إخوتنا من ديارهم، على مرمى حجر أمامهم؟؟
إن استمرار الإنكار لا يقود إلا إلى مأزق وجودي عميق، واستمرار هبوط هذه الأمة إلى الحضيض .
إن الضحية الأولى التي يجب أن تحظى بالاهتمام هو “جمهور” هذه الجماعات من غير الملتزم بها حزبياً الذي ظنَّ يوماً أنها “خدمته”، وأنها “بتاعة ربنا”، وأنها لم تعط الوقت الكافي في الحكم، وأن هناك مؤامرة عليها من قبل آخرين يكرهون الجماعة (المصطفاة) وإسلامها (المثالي) .
إن هذا الجمهور، مغيَّب عن معرفة “الأجهزة السرية” لهذه الجماعات، وعن فكرة السمع والطاعة للمرشد وأمثاله، وعن سياسات الاستثمار السياسي للدين، وعن نزوعها الانتهازي والرغبة في الاستحواذ على السلطة بأقصى سرعة .
إن هذا الجمهور، واقع الآن تحت ضغوط “تديُّن هائج منتقم”، فضلاً عن تراكم مكبوتات وسياسات هوجاء خارجية وثقافة عنف أفرزت طغاة كباراً وصغاراً، ولم يشهد حركة إصلاح ديني حقيقي، تجتث وحش الغلو، وتفتح العقل للتفكير العقلاني والتجدد الثقافي والفكري .
هل تخرج قيادات هذه الجماعات من “صندوقها” الفكري والسياسي المنغلق على نفسه، وتعالج معضلتها الفكرية والثقافية قبل فوات الأوان؟؟ هل تغيّر طبيعة التنشئة السياسية في مجتمعاتها الحزبية، نحو قيم التسامح والاختيار الحر وقيم احترام الآخر المختلف والاندماج والمشاركة والفعل الرشيد في المجال العام المفتوح للنقاش والشفافية والمصالحة؟؟
أسئلة وتداعيات سقوط هذا المشروع السياسي الإسلاموي، لها ما بعدها .
الملف النووي وسورية: المهمة المستحيلة لروحاني؟
جورج سمعان- دار الحياة
يتسلم الرئيس الإيراني الجديد الشيخ حسن روحاني دفة الرئاسة في ظروف صعبة ومعقدة تعيشها بلاده والمنطقة. يواجه مخلفات ثماني سنوات هما عمر ولايتي سلفه محمود أحمدي نجاد اللتين كانتا الأسوأ في تاريخ الجمهورية الإسلامية، على المستويين الداخلي والخارجي، وهددتا المصالح القومية: تعمقت الخلافات بين التيارات السياسية وتوترت العلاقات بين أركان النظام ومؤسساته. وهزت التظاهرات والاحتجاجات التي أعقبت انتخابات 2009 الرئاسية منظومة الحكم والنسيج الاجتماعي، ورفعت حدة الاستقطاب... والقمع. وتفاقمت الأزمة الاقتصادية الاجتماعية نتيجة سوء الأداء الحكومي واستشراء الفساد والمحسوبية. وكذلك نتيجة سوء إدارة السياسة الخارجية، خصوصاً الملف النووي الذي ضاعف العقوبات وشدد الحصار. ورفع «الربيع العربي» في السنتين الأخيرتين حجم التحديات التي تواجهها طهران. وقلب موازين القوى وشبكة العلاقات السائدة في الشرق الأوسط كله الذي تداعى نظامه الإقليمي، وتهاوت أنظمة حكم هنا وهناك.
هذه التركة الثقيلة المتراكمة منذ عام 2005، كانت العامل الأول والأساس في اختيار الإيرانيين رئيسهم الجديد. بل كانت الأزمة الاقتصادية وارتباطها بقضايا الداخل والخارج هي الناخب الأكبر. لذلك ستكون هذه في سلّم أولويات الشيخ روحاني. وسيكون على مواطنيه أن ينتظروا طويلاً. فالتغيير المنشود ليس بالسهولة التي يتوقعون. فالرئيس الجديد خرج من رحم النظام السياسي ولم يأتِ من خارجه. شغل منصب امين المجلس الأعلى للأمن القومي وممثل المرشد، وعضو مجلس تشخيص مصلحة النظام ومجلس الخبراء. يعني ذلك أن أي تغيير في السياستين الداخلية والخارجية سيظل تحت رعاية المرشد وبموافقته، ما دام أن الدستور المعمول به طوال ثلاثة عقود لم يتغير. إضافة إلى أن ميزان القوى في مجلس الشورى يبقي الكفة راجحة للتيار المحافظ الذي لم يوفق مرشحوه في منافسة الشيخ روحاني. إضافة أيضاً إلى الثقل الذي تمثله القوى العسكرية والأمنية وأجهزتها وميليشياتها، خصوصاً «الحرس الثوري» وأذرعه المختلفة. وتشكل هذه أكثر من ثلثي الدورة الاقتصادية والتجارية والصناعية، كما هي حال المؤسسة العسكرية في مصر. ولها كلمتها المسموعة في صنع السياستين الداخلية والخارجية أو في صنع القرار على الأقل.
من هنا، إن أي تغيير على المستوى الداخلي سيكون مستحيلاً إذا خرج على ثوابت النظام أو مسّ بجوهر الثورة والمنظومة التي تربط بين مؤسسات الحكم. ومثله، إن أي تغيير على مستوى السياسة الخارجية إقليمياً ودولياً، سيكون مستحيلاً إذا هدد بتقويض الاستراتيجية التي بنتها الجمهورية الإسلامية على مدى عقود ثلاثة. وسواء صُنف الرئيس الجديد في صفوف الإصلاحيين أو المحافظين أو بين بين، ستظل إيران تتحرك تحت عباءة المرشد، أياً كانت تطلعات الإيرانيين. فهؤلاء اختاروا الرئيس محمد خاتمي لولايتين، قبل أحمدي نجاد. وكانوا يتطلعون إلى إعادة بناء العلاقات مع الغرب عموماً وتسوية الخلافات مع الولايات المتحدة. لكن الرئيس الإصلاحي لم يتمكن طوال ثماني سنوات من تغيير مسارات الجمهورية. وكان جل ما قدمه نوعاً من الهدنة أو تبريد الأجواء مع الإقليم والمجتمع الدولي وخفض مستوى التوتر والتهديدات مع الخارج... ويعتبره المتشددون اليوم أحد رموز «الفتنة»! ويطالب بعضهم مجلس الشورى بحجب الثقة عن أسماء مرشحين لتولي حقائب وزارية في الحكومة الجديدة لقربهم منه أو من رموز مماثلة.
لن يكون في مقدور روحاني تغيير كثير من المعادلات في الداخل ما لم يفتح الباب مجدداً أمام الحد الأدنى من الحريات. وما لم يجد صيغة للتعاون مع كل التيارات، من أجل إعادة «لمّ الشمل» تحت عباءة النظام عموماً. وهذا هدف رئيس للمرشد الذي عانى طويلاً من المشكلات التي خلّفها حكم الرئيس نجاد وكادت أن تطيح المسلّمات والثوابت. ما لم يتحقق هذا الهدف، لا يمكن الرئيس الجديد التحرك للجم التضخم ووقف تدهور سعر صرف العملة الوطنية وتعليق سياسة التقشف، وإغراء المستثمرين، وتعزيز التجارة تصديراً واستيراداً، وتنشيط القطاع المصرفي.
هذه الملفات الداخلية لن تجد طريقها إلى تسويات وحلول مقبولة وسريعة، أياً كانت قدرة روحاني على التغيير ومهما بلغت رغبة المرشد في التخفيف من وطأة الاعتراض الشعبي. فجلّها عناوين من تداعيات السياسة الخارجية الإيرانية. بل هي أكثر ارتباطاً بهذه التداعيات مما يمكن أن يحققه الرئيس الجديد على مستوى الداخل وإعادة ترميم العلاقات بين التيارات المختلفة. ولا يكفي أن يلجأ إلى الخطاب التصالحي الذي يبديه حيال المجتمع الدولي وحيال جيرانه الإقليميين. ولعل أبرز قضيتين ساخنتين هذه الأيام هما بالطبع: الملف النووي والموقف من الأزمة السورية التي دفعت الصراع المذهبي في الإقليم إلى حافة الهاوية.
نجحت حكومة الرئيس خاتمي في العقد الماضي في إبقاء الملف النووي بين أيدي الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لكن السياسية الهجومية والخطاب السياسي والإعلامي لحكومة الرئيس نجاد استعديا المجتمع الدولي الذي أخذ الملف إلى مجلس الأمن ونقل إلى طاولة الخمس الكبار وألمانيا. وكانت جملة من العقوبات الدولية تبعتها عقوبات أحادية، أميركية وأوروبية، أشد مرارة. ولن يكون سهلاً بالطبع التوصل إلى تفاهم مماثل لذاك الذي أبرمته حكومة خاتمي بتعليق التخصيب في العام 2003. البرنامج النووي تحول عنصراً من عناصر الروح الوطنية وجزءاً من استراتيجية الجمهورية ورافعاً لثقلها ودورها الإقليميين بقدر ما هو عامل توتير لعلاقاتها بالخارج القريب والبعيد. وأضافت الحرب الدائرة في سورية وانخراط إيران فيها عبر مقاتلي «حزب الله» و «الحرس الثوري» وبعض الميليشيات العراقية، عنصراً معقداً لأي تسوية لهذا البرنامج.
توكأت إيران طويلاً على جملة من العناصر لبناء استراتيجيتها حيال الخارج. استعجلت بناء برنامجها النووي معطوفاً على ترسانة ضخمة من الصواريخ. وعمّقت دورها في بغداد، وباتت الحليف الأول والداعم الأساس للنظام في سورية التي وفرت لها جسر عبور إلى لبنان وحدود إسرائيل وشاطئ المتوسط، من دون أن تخفي تمددها إلى غزة فشمال أفريقيا. ومن السودان إلى عدد من الدول الأفريقية لتعويض الخلل الذي أصاب علاقاتها بدول مؤثرة وفاعلة، من تركيا إلى الهند والبرازيل وغيرها. لكن مثلث بغداد - دمشق - بيروت ظل هو الركن لكل هذه الاستراتيجية. وفي بدايات الأزمة السورية كثر الكلام عن امكان ابرام صفقة بين طهران وخصومها تتم فيها مقايضة هذه الورقة بتلك من الأوراق التي تمتلكها الجمهورية. لكن نظرة منطقية وواقعية إلى التطورات التي تشهدها المنطقة لا تنبئ بتوافر فرصة لمثل هذه المقايضات.
نظرة سريعة إلى المثلث الإيراني تكشف عمق التحديات التي تواجه الرئيس روحاني، وكلها تلقي بثقلها على القضايا الداخلية. مجلس النواب الأميركي أقر، عشية تسلّم الرئيس روحاني مهماته، عقوبات جديدة على القطاع النفطي الإيراني. والعراق يعود سريعاً إلى سيرته قبل عقد من الزمن، فالحكومة الحالية وفرت بسياستها الفئوية وبدعمها نظام الرئيس بشار الأسد، الأجواء لاستعادة «القاعدة» حاضنتها الاجتماعية في المحافظات السنية. إضافة إلى علاقاتها المتوترة باستمرار مع إقليم كردستان ومع... كثير من دول الجوار. ولا حاجة إلى المخاوف التي تنتاب الجمهورية من اقتراب جارها الغربي من شفا الحرب الأهلية. ولا حاجة أيضاً إلى الحديث عن استنزاف القوى الإيرانية، العسكرية والمالية والبشرية في الحرب الطويلة في سورية، وتداعياتها على الوضع في لبنان حيث تعيد مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية النظر في الاصطفافات السياسية والمذهبية وتنذر بانفجار قريب وسط فراغ سياسي وحكومي مخيف. ولا شك في أن أي تنازل تقدمه طهران في بلاد الشام يهدد بإطاحة كل ما بنته طوال عقود تحت شعار «الممانعة والمقاومة»!
إضافة إلى كل هذه السلبيات المحيطة بركائز الاستراتيجية الإيرانية، نقلت التداعيات الحالية لـ «الربيع العربي» على المنطقة بأسرها، خصوصاً في مصر، القضية الفلسطينية، الرافع الأساس للخطاب الإيراني واندفاعه نحو العالم العربي، إلى مرتبة دنيا من الاهتمامات. ولا شك في أن استئناف المحادثات بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في غمرة هذه التداعيات وبرعاية أميركية، يكشف عجز طهران عن «التدخل»، سواء عبر لبنان أو عبر غزة وغيرهما. ليس أمام الرئيس روحاني سوى الانتقال سريعاً من النيات إلى تحديد الأهداف التي وحدها كفيلة بتغيير الوقائع والاستراتيجيات. فهل يقدر على مراجعة جذرية لسياسة الجمهورية الإسلامية مع ما تستدعيه من تنازلات مؤلمة؟ هل يقدر في ظل الاستقطاب الداخلي لئلا نقول في ظل الانقسام بين التيارات وسطوة مراكز القوى وأدواتها؟ أم يكتفي بتقطيع الوقت والرهان على تبريد الأجواء مع الخارج، كما فعل سلفه خاتمي؟ الأوضاع الاقتصادية الداخلية، والتطورات التي يشهدها الشرق الأوسط الكبير من المتوسط إلى أفغانستان لا تسمح بترف الترقب والانتظار. تتطلب خيارات ملحّة في الملف النووي وفي الأزمة السورية، وما يتعلق بهما من شبكة علاقات إقليمية ودولية، وفي القضية الفلسطينية... وهذه وحدها قد تعيد الحياة إلى آلة الاقتصاد الإيراني.
الحلقة الضائعة في الثورات العربية (1)
جورج قرم – السفير اللبنانية
المشهد المؤلم للثورات العربية
يتألَّم الجمهور العربي برؤية ما آلت إليه الانتفاضات الشعبية التي اجتاحت الساحة العربية من المحيط إلى الخليج في بداية سنة 2011، فاتحةً آمالاً برّاقة لتغيير الأوضاع المهينة التي تعيشها هذه الجماهير منذ عقود، وذلك بعد أن انطفأت الحلقة الثورية السابقة في القرن الماضي، وكانت قد تجسّدت في الحركات التحررية والتقدمية العروبية منذ تأميم قناة السويس وملحمة الزعيم جمال عبد الناصر في مجابهة قوى الإمبريالية والرجعية العربية المعادية للتقدم وفي مكافحة الهيْمنة الخارجية الغربية. وقد ختمت الحلقة الثورية هذه عند اجتياح إسرائيل للبنان وعاصمته عام 1982 وانهيار ما كان قد تبقى من منظمة التحرير الفلسطينية والقوى الثورية العربية الأخرى.
صحيح أنَّه يجب ألا نستسلم لليأس أمام المشاهد المرعِبة لما يحصل في معظم الساحات العربية التي انتفضت فيها الجماهير، لأنَّ الحلقات الثورية تمر دائماً عبر حركات صعود وتراجع، قد تطول عقوداً قبل أن تستقر على أنظمة سياسية اقتصادية واجتماعية جديدة تعيد لحمة المجتمع وتغيِّر إلى الأفضل نمط حياة الشعوب.
لا نود هنا أن ندخل في التعقيدات الكبيرة لكل ساحة من الساحات الثورية المتألِّمة، ابتداءً من جارتنا السورية التي تتعرَّض لخطة تدمير دموية ومؤلمة، تلعب فيها الحركات التكفيرية دوراً ملتبساً للغاية، ومروراً بوضع مصر التي أصبحت هي بدورها في حالة متوترة للغاية بين «الإخوان المسلمين» والتيارات العلمانية الليبرالية أو القومية، ومروراً بليبيا حيث تسود أوضاع ضبابية غير مستقرة تشوبها أعمال عنفٍ من قبل ميليشيات عديدة. وكذلك أوضاع تونس المتميِّزة أيضاً بتوتر بين العلمانيين والسلفيين وبشل أعمال الدولة إلى حد بعيد، مروراً بالبحرين حيث تُمارس أعمال قمع متواصلة ضد المعارضة في ظل سكوت تام، عربياً ودولياً، وبأوضاع اليمن المعقدة بين مشكلة جنوبية ومشكلة الحوثيين ومشكلة إسلاميّي «القاعدة» الناشطين فيها.
وفي الحقيقة ليس في هذا المشهد اليوم ما نستغربه، وذلك لأسباب عديدة، ومنها التدخلات الخارجية، سواءً من قبَل الدول الغربية أو من قبَل بعض الدول العربية صاحبة النفوذ والمال وأخيراً تركيا الحالمة بعودة عهدها العثماني، ما يجلب أيضاً تدخلا روسيا ـ صينيا ـ إيرانيا.
من العناصر الداخلية الهامة في حالات الاضطراب هذه، ضياع العرب لهويتهم الأساسية بين أنصار أولوية المكوِّن الديني فيها التي يمكن أن تأخذ أشكالاً إقصائية ومطلقة وأحادية الجانب من جهة، والمكوِّن المدني والوطني والقومي العربي والليبرالي للهوية، من جهة أخرى. مع لفت النظر إلى أنَّ هذا الانقسام في الهوية ونظام القيَم الذي يتفرّع عنها يؤدي إلى تناقض عميق في تحديد من هو الصديق ومن هو العدو للمجموعة العربية ككل، بين من يدّعي أنَّ المحور الإيراني ـ السوري ـ الروسي والصيني هو العدو، ومَن يدَّعي أنَّ الهيْمنة الأميركية الصهيونية الأوروبية هي العدو الرئيس، خاصةً في ظل استمرار وحشية إسرائيل وعدوانيتها تجاه الفلسطينيين ونيّاتها في ضرب حركة المقاومة الإسلامية اللبنانية ضد إسرائيل في لبنان للانتقام من إنجازاتها في طرد الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000 ودحر عدوانه الدموي عام 2006.
الغياب المفجع لأية رؤية بديلة
للمسار التنموي العربي الفاشل
أريد هنا أن أذكر سبباً أعتبره أيضاً رئيساً في تعثر الموجة الثورية العربية وقلَّما نتحدث عنه، ألا وهو غياب أي تصوّر لنموذج تنموي بديل من التنمية المشوّهة التي تتميز بها سلباً الاقتصادات العربية جميعها، وهي اقتصادات ريْعية الطابع واحتكارية تركّز الثروات في أيادٍ قليلة تجني أرباحاً طائلة وسهلة، لا تستثمرها في بناء قدرات إنتاجية في مجالات العلم والتكنولوجيا، تُوَظَّف في نشاطات اقتصادية ذات القيمة المضافة العالية. هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن بدورها أن تؤمِّن فرص العمل اللائقة للعنصر الشاب العربي وترفع من مستويات المعيشة لدى الفئات الفقيرة والمهمَّشة وهي تعيش حياةً يومية صعبة للغاية بحثاً عن لقمة العيش في بحر من الثراء الذي تكوَّم لدى القيادات السياسية ومحاسيبها من بعض رجال «الأعمال». ولْنتذكر أنَّ أهم شعار قد رُفع من المحيط إلى الخليج هو الكرامة. والحقيقة هذا ما يذكّرني بمؤلَّف قيِّم للغاية كتبه منذ عقود المرحوم الدكتور يوسف صايغ بعنوان «الخبز والكرامة». وفي نظري أنَّ ما جمع الجماهير العربية من المحيط إلى الخليج في آذار 2011 هو مطلب الخبز والكرامة، أيْ المجتمع الإنتاجي الذي وحده يوفر فرص العمل اللائقة ويحقق الكرامة الوطنية في كل قطر عربي وعلى مستوى المجموعة العربية جمعاء، للتخلّص من كل الهيْمنات الخارجية ولإعادة الحق إلى أصحابه في فلسطين المحتلة التي لن تحرَّر إلا بالقوة الجماعية العربية تساندها قدرة إنتاج فعالة.
لكنَّ الإعلام العربي والدولي حول الثورات قد ركّز حصراً على قضية الديموقراطية والحريات الشخصية، سواءً من وجهة نظر الليبرالية أم من وجهة النظر الإسلامية الداعية إلى ضرورة إقامة أنظمة إسلامية في الحكم، وهي حتماً تؤدي إلى الحد من الحريات الشخصية جوهرياً. وقد غاب عن تحليل مجريات الأمور الثورية أية إشارة إلى طرق ووسائل الوصول إلى نمط تنموي متجدد، مستقل عن النموذج النيوليبرالي الذي تفرضه مؤسسات التمويل الدولية، كما الإقليمية العربية أو الإسلامية. وهذا ليس بالقضية السهلة نظراً لعمق تجذر الاقتصاد الريْعي غير المنتج في كل أنحاء الوطن العربي، بالإضافة إلى اتكال الاقتصادات العربية إما على زيادة أسعار النفط وإما على التحويلات المالية التي يقوم بها الملايين من المغتربين العرب لذويهم في الوطن، وكذلك المساعدات الغربية، سواء بشكل قروض أو هبات، والمساعدات الآتية من الدول النفطية في شبه الجزيرة العربية. وحسب علمنا فلم نرَ حزباً سياسياً، إسلامياً كان أم مدنياً، قد ركّز في برامجه وشعاراته على هذه القضية المركزية لكي تصل الثورات العربية إلى بر الأمان. ما شهدناه هو فقط وعود بتحسين مستويات المعيشة، تجسدت بشكل مجزأ وفوضوي بزيادات أجور هنا وهناك تحت ضغط العمال ونقاباتهم، دون أن تقابلها أية خطة للنهوض الإنتاجي بغية كسر حلقة الاقتصاد الريْعي. إنَّ هذه الحلقة السلبية الأثر، هي التي تحول منذ عقود دون الدخول في عالم الإنتاج والعلم والمعرفة، وبالتالي في نموذج اقتصادي على غرار دول شرق آسيا يمكن أن يوفّر فرص العمل الكافية لاستيعاب كل العاطلين من المساهمة في الإنتاج لكي تدخل الاقتصادات العربية في حالة تنافسية حقيقية في الأسواق الدولية.
دلالة قبول الحكومات الثورية
«شراكة» الدول الغربية في الثورات
ومن اللافت للنظر أنَّ الدول الغربية المتقدمة والمجتمعة في مجموعة الثماني قد أعلنت نفسها في شهر أيار 2011 «شريكة الثورات العربية» في اجتماعها في مدينة دوفيل بحضور صندوق النقد الدولي الذي قدم ورقة حول المبالغ التي قد تحتاجها كل من مصر وتونس لتقوية اقتصادهما في المرحلة الانتقالية الصعبة. وقُدِّرَت المبالغ التي يجب توفيرها بـ35 مليار دولار، يمكن أن تُقدَّم كقروض من الصندوق مقابل رزمة من الإصلاحات النيوليبرالية كالعادة. وقد تبع هذا الاجتماع اجتماع آخر في مدينة مرسيليا في شهر حزيران 2011، بوجود وفود من أعلى المستويات من مصر وتونس والأردن، مكوَّنة من العناصر الجديدة التي استلمت مقاليد الأمور المحلية بعد انهيار حكم الاستبداد في تونس ومصر. وفي غياب أي طرح بديل من قبَل الحكومتيْن الثوريتيْن كانت الدلالة واضحة: إنَّ السياسات الاقتصادية ستمضي قدماً على الأسس القديمة نفسها التي كانت هي أحد الأسباب الرئيسية وراء انفجار الغضب الشعبي. وهذا أمر غريب فعلاً، يدل على أنَّ من تسلَّم مقاليد الحكم بعد زوال النظام الديكتاتوري لم يكن لديه أي تصوّر لسياسات اقتصادية ومالية واجتماعية بديلة من تلك السياسات النيوليبرالية التي كرَّست وعمَّقت نظام الريْع والفساد والإفساد وتركز الثروات في أياد قليلة وتوسيع رقعة البطالة، وهي بالذات القضايا الأساسية التي أدت إلى موجة الانتفاضات العربية من المحيط إلى الخليج.
وإذا كانت دول الخليج العربي قد تمكّنت من إسكات حركات الانتفاضة لديها عبر مزيج من قمع الشرطة ومن منح زيادات كبيرة في الرواتب والأجور والمنافع الاجتماعية للفئات الأكثر فقراً، فإنَّ الحكومات الجديدة في كل من مصر وتونس لم تطور أهدافاً تنموية بديلة من شأنها أن تؤمِّن فرص العمل المفقودة. ومثل هذه السياسات يجب أن تركز على استراتيجية لتوطين العلم والتكنولوجيا لدى كل الفئات الاجتماعية، بما فيها بالأولوية الفئات الريفية والفئات المدينية الفقيرة. وهذا هو ما فعلته دول شرق آسيا واليابان كأولوية في سياساتها التحديثية الهادفة إلى تطوير قدرة إنتاجية، مستقلة نسبياً عن مصادر العلم والتكنولوجيا الغربية، لكي تتمكن من بناء نشاطات اقتصادية حديثة الطابع تنتج السلع والخدمات المطلوبة على النطاق الدولي بقدرة تنافسية من ناحية السعر والجودة. كما أنَّ حكومات تلك البلدان صاغت ورسمت الأهداف المرحلية والقطاعية في العملية هذه بشراكة قوية بين كبار المسؤولين عن الدولة ومنظمات أرباب العمل، وكذلك في بعض الأحيان الجامعات ومعاهد التعليم المهني والتقني. وقد تم في هذه العملية تكريس الموارد المالية اللازمة من قروض طويلة الأمد وميسّرة ومن مساعدات مباشرة من قبَل الدولة لتشجيع الأبحاث والتطوير والابتكار والريادة في الأعمال الصناعية والخدماتية الحديثة الطابع (إلكترونيات، برنماجيات، معلوماتية، اتصالات سلكية ولاسلكية، إلخ) كما في الصناعات الثقيلة التقليدية أيْ صناعة التجهيزات الرأسمالية ووسائل النقل كالسفن والسيارات والطائرات في حالة الصين والبرازيل.