Haneen
2014-03-18, 12:45 PM
اقلام عربي 621
13/2/2014
في هذا الملف:
نقاش مفتوح مع الرئيس الفلسطيني
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
زفـة المصالحة الجديدة وما وراءها
بقلم: ياسر الزعاترة عن الدستور الأردنية
العرب: ثورات وعنف وحركات تغيير
بقلم: شفيق ناظم الغبرا عن الحياة اللندنية
لهذا يقوم العاهل الأردني بهذا الدور ويقف الأردن هذا الموقف!
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
الكون يحارب «داعش»... ولا يهزمها
بقلم: رومان كاييه عن الأخبار اللبنانية
السلفية الوهابية صناعة مخابراتية؟
بقلم: عدة فلاحي عن الشروق الجزائرية
مصر نحو عصر رئاسي جديد
بقلم: أحمد الجارالله عن السياسة الكويتية
نقاش مفتوح مع الرئيس الفلسطيني
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
المقابلة الصحافية التي أجرتها صحيفة ‘نيويورك تايمز′ مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونشرتها (الاثنين 3 فبراير/شباط الحالي) تضمنت سلسلة مقترحات له حول التسوية. المقترحات هي رسالة موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وهي أيضاً رسالة إلى إسرائيل. في المقابلة يقترح عباس نشر قوة من حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكية في أراضي الدولة الفلسطينية. من وجهة نظره، فإن هذه القوة من حلف الناتو سيكون بإمكانها الانتشار في مختلف أراضي الدولة الفلسطينية، وعلى جميع المعابر الحدودية وكذلك داخل القدس. حول هذا الاقتراح الذي يتقدم به عباس يمكن القول، ان قوات حلف الناتو هي عملياً بإمرة أمريكية وكلا الجهتين، الولايات المتحدة ودول حلف الناتو حليفان لإسرائيل! قد يتصور الرئيس الفلسطيني ان هذه القوات تقف محايدة في الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني، كلا فلا يمكن لهذه القوات أن تكون محايدة تماماً مثل مواقف بلادها من عملية الصراع في الشرق الأوسط، فهي تصطف إلى جانب إسرائيل. من زاوية ثانية فقد جرى اختبار الحراسة البريطانية والإشراف الأمريكي لسجن أريحا. لا الاتفاق ولا الدولتان منعتا إسرائيل من الهجوم على سجن أريحا واختطاف المناضلين أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي ورفاقهما من سجن أريحا في 14 مارس/اذار 2006. رغم كل اقتراحات عباس فإن إسرائيل ترفض وجود اي قوات سوى قواتها، فما الداعي لمثل هذا الاقتراح الذي أيضاً لم ولن يشفع للفلسطينيين لا أمام الولايات المتحدة ولا أمام دول حلف الناتو؟
في المقابلة أضاف الرئيس الفلسطيني، ان القوات الإسرائيلية سيمكنها البقاء في الضفة الغربية لمدة أقصاها خمس سنوات وليس ثلاث سنوات، كما اقترح في الماضي، على أن تتم إزالة المستوطنات خلال فترة مماثلة. وحول هذا الاقتراح نقول ونتساءل، أين هو استقلال دولة فلسطين إذا كانت القوات الإسرائيلية ستوجد مدة خمس سنوات؟ ثم ما هي الضمانات لعدم بقاء هذه القوات لخمس سنوات أخرى وأخرى غيرها، فيما لو ارتأت تحت مبرر حماية الأمن الإسرئيلي؟ ومن ذا الذي سيجبرها على الرحيل وفقاً للاتفاق؟ أهي القوات الفلسطينية؟ وعباس يقترح دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلا من قوة شرطية، حيث تتولى القــوة الدولية حسب اقتراحه مهمة منع تهريب الأسلحة ومواجهـــــة (الأعمال الإرهابية). هنا فإن الرئيس الفلسطيني يعترف بأن عمليات المقاومة التي قامت بها الفصائل الفلسطينية ليست اكثر من عمليات’إرهابية’! هذا في الوقت الذي أتاحت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة للشعوب المحتلة أراضيها والمغتصبة إرادتها، الحــــق في مقاومة الاحتلال (القرار الذي يحمل الرقم 3034 بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الاول 1972) بما في ذلك الحق في المقاومة المسلحة (القرار الذي يحمل الرقم 3314 بتاريخ 14 فبراير/شباط 1974). غريب أمر الرئيس الفلسطيني فهو يطلق على مقاومة شعبه لفعل الاحتلال الإسرائيلي لأراضي وطنه (إرهاباً)!
لقد أشار عباس في ذات المقابلة إلى أنه يرفض مطالب العديد من الجهات الفلسطينية بإعلان انضمام السلطة الفلسطينية إلى هيئات الأمم المتحدة، أو اللجوء إلى المحكمة الدولية وأضاف انه يريد استنفاد عملية التفاوض مع إسرائيل قبل اتخاذ أي خطوة من هذا النوع. نسأل الرئيس: وماذا ينتظر بعد مضي ما ينوف على ثلثي مدة التفاوض (المقدرة بتسعة أشهر) من دون اعتراف إسرائيلي بأي حقوق فلسطينية، إضافة إلى أن الاستيطان تتسارع وتائره، وهدم البيوت والاعتقالات والاغتيالات من قبل إسرائيل للفلسطينيين بلغت مستويات عالية، ونتنياهو يطالب بالمزيد من الاشتراطات على الفلسطينيين والعرب ومنها، بقاء قوات الاحتلال في منطقة الغور على الحدود مع الأردن، والاعتراف بيهودية إسرائيل.
نذّكر الرئيس الفلسطيني أيضاً، بأنه من قبل جرى تجريب أسلوب التفاوض مع إسرائيل، ولم ينتج عن ذلك أي إيجابية تُذكر، بل العكس من ذلك فان إسرائيل تزداد تعنتاً في رفض الحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلاً، فما الذي ينتظره أبو مازن ليقوم بالمزيد من التأخير في طلبات انضمام السلطة الفلسطينية إلى هيئات الأمم المتحدة، خاصة إلى المحكمة الدولية؟ ليسمح لنا الرئيس الفلسطيني القول بأن انضمام دولة فلسطين (المراقب في الجمعية العامة) لهذه الجمعيات وللمحكمة الدولية هو وسيلة ضغط على إسرائيل من أجل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية وليس العكس. لقد لمح أبو مازن أيضاً الى أنه سيوافق على تمديد الفترة الزمنية المحددة للمفاوضات إذا حصل في نهايتها على شيء واعد، على حد تعبيره! الذي نود قوله للرئيس الفلسطيني، لو أن إسرائيل تعترف بأيٍّ من الحقوق الفلسطينية لاعترفت بها منذ زمن طويل. لكن استراتيجية إسرائيل قائمة على رفض هذه الحقوق رفضاً قاطعاً، ولذلك فإنه رغم مضي ما ينوف على العقدين، وبدل أن تعترف بالحقوق الفلسطينية فإنها تزداد اشتراطاتٍ على الفلسطينيين، وتجاهر علناً بأنها ترفض هذه الحقوق. ستة أشهر من جولات كيري العديدة لم تحل دون تعنت إسرائيل. أطراف الائتلاف الإسرائيلي الحاكم في معظمهم لا يعترفون بوجود شعب فلسطيني من الأساس، فكيف بالقبول لإعطاء الفلسطينيين دولةً؟ على صعيد آخر فقد ثبت بالملموس أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري هو وسيط غير محايد وغير نزيه، إنه الناقل لوجهات النظر الإسرائيلية، هو يسعى لاتفاق إطار وليس لاعتراف إسرائيلي بالحقوق الفلسطينية، ورغم ذلك تجري مهاجمة كيري من قبل وزراء وقادة سياسيين وعسكريين كثيرين، إنها الوسيلة الصهيونية من قبل والإسرائيلية في ما بعد لابتزاز المسؤولين في دول العالم من أجل إثبات المزيد من الولاء لإسرائيل ولطروحاتها للتسوية. لا فائدة من إطالة أمد المفاوضات. إنه هروب إلى الأمام ليس إلا، وهو عدم إعطاء القضية الفلسطينية استحقاقاتها المفروضة بفعل حقائق التسوية الإسرائيلية الواضحة والمكشوفة تماماً، التي يعلنها الإسرائيليون صباح مساء.
أبو مازن في نفس المقابلة اعلن مرة أخرى أنه لن يوافق أبداً على العودة إلى الكفاح المسلح! الرئيس محمود عباس يحرّم على شعبه اتباع الوسيلة الأساسية في مقاومة المحتلين، وهذه هي الوسيلة التي أعلنت صحتها وكفاءتها في كل تجارب حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، باستعمالها وصلت كافة حركات التحرر إلى أهدافها في انتزاع حرية شعوبها وحقوق هذه الشعوب. ومثلما قلنا فإن هذا الحق أجازته الأمم المتحدة للشعوب المحتلة أراضيها. الشعب الفلسطيني ليس استثناء بين هذه الشعوب، وما انطبق على نضالها هو مشروع أيضاً للشعب الفلسطيني وينطبق على قضيته وعلى نضاله المشروع من أجل انتزاع حقوقه الوطنية ‘فما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة’ هذه مقولة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وهي من الثوابت في نضالات الشعوب. رفض الكفاح المسلح وانتهاج أسلوب المفاوضات لمدة طويلة لم تفعل شيئاً للفلسطينيين سوى العودة إلى الوراء بقضيتهم وبمشروعهم الوطني التحرري. الرئيس عباس يريد مقاومة شعبية فقط غير مسلحة حتى بالحجارة، بالتالي فما هو الضاغط على إسرائيل والحالة هذه للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ إسرائيل التي أطالت المفاوضات مع الفلسطينيين عقوداً طويلة قادرة على إطالة أمد هذه المفاوضات عقوداُ طويلة أخرى.
لا يريد الرئيس الفلسطيني إدراك هذه الحقيقة، فرغم عقم المفاوضات ما زال متمسكاً بها. الظروف لم تنضج بعد بالاستراتيجية الفلسطينية المتبعة للحصول على دولة ولا بد من تغيير هذه الاستراتيجية.
زفـة المصالحة الجديدة وما وراءها
بقلم: ياسر الزعاترة عن الدستور الأردنية
بينما كان نبيل شعث من فتح وغازي حمد من حماس يوزعان حبوب التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق المصالحة وقرب تنفيذه على الأرض، فيما كنت أرى غير ذلك في الحوار التلفزيوني الدائر حول زيارة وفد اللجنة المركزية لحركة فتح إلى قطاع غزة، لم يكن من المذيع غير أن اتهمني بتخريب العرس، فكان ردي أننا شهدنا عشرين عرسا (ليس العدد دقيقا بالطبع) قبل ذلك وانتهت إلى لا شيء، فلماذا ينبغي علينا أن نتفاءل بهذا العرس على وجه التحديد؟!
طوال أسابيع قبل زيارة وفد مركزية فتح إلى قطاع غزة، كان خطاب مسؤولي فتح حيال حماس استعلائيا بشكل لافت، مع سيل من الاتهامات للحركة بالتدخل في الشأن المصري، بل وتحريض سافر عليها حتى في الفضائيات المصرية، فما الذي تغير حتى سافر الوفد الرفيع سريعا إلى قطاع غزة؟
ثمة حدثان بارزان؛ الأول ما سرّبته صحيفة معاريف حول حوارات جرت بين مبعوث نتنياهو (المحامي إسحق مولخو) مع محمد دحلان في دبي، مع توضيح من نتنياهو بأنه يفضل دحلان كخليفة لعباس، والحدث الثاني هو تسرّب معلومات عن اتصالات بين دحلان وبين حركة حماس، يبدو أنها تمت من خلال بعض رجاله المعروفين.
وفيما يعيش عباس مأزق الضغوط الأمريكية المتعلقة باتفاق الإطار، فإن الموقف بدا ضاغطا إلى حد كبير، وإن لم يكن وضع حماس مرتاحا تبعا للضغوط المصرية المشددة، لكن سبب البعثة العباسية إنما يتمثل فيما ذكرنا آنفا؛ أعني مخاوف الرئيس من تكرار تجربة البديل التي رتبها الصهاينة ببطولته إلى جانب دحلان وفياض مع عرفات، وإن يكن ذلك مستبعدا تماما لجهة التخلص منه، لكن عادة من يمسكون بالسلطة في أي مكان، فضلا عن ثلاث سلطات (فتح والسلطة والمنظمة) أن يروا حبة التهديد قـبّـة.
المشكلة أن عباس لا يرى في المصالحة مع حماس غير شيء واحد هو الانتخابات، ومن أجل تمريرها يمكنه أن يقدم بعض التنازلات، لاسيما أنه يعتقد بقدرته وحلفائه من اليسار على كسبها، وإن بنسبة محدودة في ظل نظام القائمة النسبية ووضع حماس المتعب، بل المستباح في الضفة الغربية، وبالتالي ستعود له الشرعية التي فقدها عام 2006.
ثمة شياطين لا تحصى في تفاصيل المصالحة، ولا أحد يملك إجابات مقنعة عن الكيفية التي يمكن أن تحل من خلالها، وهنا نقول إنه لا أحد ضد المصالحة، بل نتمناها من كل قلوبنا، ولكن بشرط أن تصبَّ في خدمة قضية الشعب الفلسطيني، لا أن تفعل العكس، فتضم قطاع غزة إلى الضفة الغربية في لعبة التنسيق الأمني والسلطة المصممة لخدمة الاحتلال.
قضية الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات أكبر من فتح ومن حماس، ولا بد أن تكون مصلحتها هي العنوان الذي تتم على قاعدته المصالحة، وهنا يُطرح السؤال الجوهري، وهو هل يصبُّ المسار الذي يمضي فيه محمود عباس في خدمة القضية، أم يكتفي بتكريس مكاسب لحفنة من الناس ترفض المقاومة وترتاح لبطاقات “الفي آي بي” ولعبة الاستثمار والمال للأهل والأحباب.
يقولون إنهم لن يتنازلوا عن الثوابت، بما فيها حق العودة، لكن وثائق التفاوض تخبرنا بأن ما عرضوه على ليفني وأولمرت واعترفوا به يبدو كارثيا، وفيه شطب لحق العودة أصلا (عباس اعتبر أن كندا ستساهم في حل المشكلة!!)، ولا تسأل عن “أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي” التي عرضها عريقات على ليفني, بينما رفضت حتى مناقشة عرضه لأن القدس غير قابلة للنقاش.
ولنفرض أنهم لم ولن يتنازلوا عما تبقى من ثوابت لم يتنازلوا عنها في مفاوضاتهم مع أولمرت وليفني. ألا يعني ذلك أن التسوية مستبعدة، وأن المفاوضات عبثية؟ ما الحل إذا؟ هل هو استمرار التنسيق الأمني وتكريس السلطة التي تخدم الاحتلال، مع ما يقال عن تعويل على الضغط الدولي لم يسفر عن نتيجة طوال عقود؟!
لا إجابة على ذلك كله، والانتفاضة الثالثة لن تندلع ما بقي عباس حيا كما قال بنفسه لنيويورك تايمز، فعلى أية قاعدة ستتم المصالحة سوى ضم الضفة إلى القطاع في هذه اللعبة البائسة؟!
مع ذلك، فنحن نقبل مثلا أن تكون المصالحة على قاعدة انتخاب قيادة فلسطينية للداخل والخارج تقرر مصير الشعب الفلسطيني ومساره، بينما تدار السلطة في الضفة والقطاع بالتوافق (ما الحاجة إلى هذه الديمقراطية البائسة في سلطة تحت الاحتلال؟!)، لكن ذلك يبدو مستبعدا أيضا، لأن ما يريدونه هو انتخابات سلطة تتحول قيادتها إلى ممثل لكل الشعب.
مع ذلك، دعوكم من تشاؤمنا، ودعونا ننتظر تفاؤل المتفائلين، ولتكن المصالحة، إذ سنعوّل بعدها على انتفاضة شعب لن يرضى بتغييب قضيته، إن بتسوية مشوّهة، أم باتفاق إطار أو تسوية مؤقتة تعني تصفيتها أيضا، أم ببقاء الوضع على حاله، ما يعني تجميدها أيضا.
العرب: ثورات وعنف وحركات تغيير
بقلم: شفيق ناظم الغبرا عن الحياة اللندنية
رغم مرور ثلاثة أعوام ونيف على الثورات العربية يتساءل الكثيرون عن طبيعة النتائج وما آل اليه الوضع منذ العام ٢٠١١ حتى الآن. فقد إحتل شبان عرب من دول عربية عدة سلسلة من الميادين العربية إمتدت من تونس ومصر الى البحرين واليمن وسورية وليبيا والمغرب. كانت تلك بداية إعلان جيل جديد دخوله على خط السياسة والتغيير. لكن نظراً لفقر الممارسة السياسية بسبب الموانع والقوانين والإحتكار الرسمي على مدى عقود جاءت المشاركة على شكل ثورات وإنتفاضات ذات طابع عفوي مفاجئ، وهذا كشف بدوره عن الممارسات القمعية ضد المتظاهرين وأوضح أمام المواطن العربي مدى عمق الفساد والإستئثار في النظام العربي. لقد فتحت الثورات الباب أمام الأجيال الجديدة والمهمشة وأوضحت مدى توق العرب للتغيير بعد طول جمود. وبينما يشعر الكثير من العرب، وخصوصاً في صفوف نخب متنوعة، بخيبات أمل من جراء ثورات العالم العربي، إلا أن الثورات لم تكن سوى بداية شائكة في طريق طويل ومتعرج الهدف منه السعي لبناء عالم عربي أكثر حرية وحرصاً على تنمية نفسه بنفسه في ظل قيم للعدالة والتعامل الإنساني تجاه كل مواطن. وعبر الثورات وميادينها إتضح مدى عمق الألم العربي، وإتضحت دموية أنظمة كالسوري والليبي مما دفع بالثورة السورية والليبية الى العنف المسلح. واتضح في الوقت نفسه أن لدى الشعوب حلماً (مهما بدا بعيداً) يحركها ويمدها بالطاقة والقدرة على التحمل.
لكن الشعوب الثائرة والأجيال الشابة لم تكن في وضع يؤهلها لإستلام سلطة بعد ثورة، فقد تفجرت الثورات عندما وصلت الشعوب الى لحظة غضب لا تؤجل ممزوجة بلحظة تفاؤل وحلم بمستقبل أفضل. لهذا شكلت الثورات بداية لوضع جديد. هذا الدخول المفاجئ والسريع الى عالم الممارسة السياسية لجماعات وأجيال وقوى وفئات من كل أطراف المجتمع مثل أكبر ثورة في الواقع العربي، وهو بطبيعة الحال أرعب الكثير من النخب المسيطرة وأخاف العديد من الأقليات، كما أنه فتح الباب واسعاً لأخطاء وسلوكيات وممارسات على أيدي القوى الجديدة سيمثل نقدها جزءاً من حالة إنضاج الممارسة السياسية لفئات شعبية لم يسبق لها ان شاركت في عمل سياسي. لقد مثلت الثورات أجرأ محاولة شعبية عربية للتعبير عن الحاجات والمطالب الشعبية والفردية التي لم تنجح الأنظمة العربية، المنشغلة بتعظيم نفوذها وسلطتها، في التعامل معها.
وفي كل ما وقع وحلّ بمنطقتنا لن نعود إلى النظام العربي القديم. لقد سقط هذا النظام في أماكن واهتز في أماكن وتناقض في أماكن أخرى بفعل ثورات الشعوب. كما أن فهمنا كعرب لدور الدولة ودور النظام السياسي ومكانة الحرية هو الآخر يتغير كل يوم، فمن الخضوع لدولة منحازة غير مساءلة تميز بين مواطنيها إلى البحث عن نظام سياسي عادل ودولة مؤسسات تقع المسافة بين الثورات والمستقبل. فلا سورية ولا مصر ولا أي من الدول العربية الأخرى ستستطيع العودة إلى واقع ما قبل 2011. فكل محاولة بهذا الإتجاه لن تعدو أكثر من أن تكون سعياً للتأجيل وشراء الوقت.
إن التحدي الأكبر أمام العرب يمكث في المستقبل وحساباته ومصاعبه في ظل التعامل مع قوى جديدة نشأت من رحم الواقع العربي. يجب ان يكون الهدف الأساسي والشغل الشاغل للأنظمة وللنخب إشراك هذه القوى والتشارك معها على قاعدة سياسية أكثر انفتاحا وإستيعابا في ظل عدالة واضحة وحرية مضمونة. إن النخبوية العربية والنظام الفردي الديكتاتوري بدأ يسقط مع الثورات، وهو حتماً مصاب بشيخوخة مزمنة، لهذا يسقط على مراحل عبر الإصلاح الطوعي (كما بدأ يقع في المغرب عبر إصلاحات الملك وحركة المجتمع) أو عبر الثورات في كل اطراف وأجزاء الوطن العربي.
إن الوعي يتغير والمعرفة تتغير، وما عدم قراءة هذا الواقع بدقة إلا تمهيد لانهيارات في أماكن لم تصلها الثورات. نحن فعلا نعيش خيارا قاسيا بين خوف النخب القديمة من جهة وبين إستحقاقات الإصلاح التدريجي من جهة اخرى، لكننا نعيش ايضا في ظل تناقض اصعب منه: فشل الإصلاح او السير في طريقه لن يؤدي إلا الى مزيد من الإنهيارات السياسية العربية.
لقد أراد عربي الميادين من الأجيال الشابة أن يكون وطنه العربي مكاناً للبقاء ومكاناً للبناء لا مكاناً للهجرة، ففي الكثير من البلدان العربية يتحول كل شاب وشابة وكل مواطن الى مشروع هجرة هرباً من التمييز الرسمي والقانوني الذي يعشش في الواقع العربي، وهرباً من سيطرة نخب مغلقة تحتكر الإقتصاد والسياسة وتمنع تكافؤ الفرص ولا تتواصل إلا مع من يشبهها.
لكن العربي الجديد اراد لنفسه الحرية ليكون مثل كل مواطن في مجتمعات العالم، أراد أن يعبر عن رأيه بحرية من دون أن يؤدي تعبيره إلى التعسف والفصل والتعذيب. ولو حصل وتظاهر وأثر على مجرى الحياة في بلاده، أراد من بلاده ومؤسسات الدولة أن تراجع نفسها وتعيد النظر في سياساتها قبل أن تنزل به العقوبات التي تعمق الجروح. أراد المواطن الذي إحتل الميادين أن تنحاز بلاده الى الحرية وإلى حقه في تغيير حكومته بصفتها حقاً طبيعياً وطريقة في إيصال الأفكار ونقد الأخطاء ومواجهة الظلم. أليست الحرية الضمان الأهم لمنع الظلم وللحد من التطرف؟
لقد نجح العربي الجديد في هز النظام العربي الذي همشه، وهذا ساهم في بناء الأرضية لمواجهة بين مبادئ الحرية ومبادئ الديكتاتورية، كما ساهم في بدء صراع مكشوف بين الماضي والمستقبل نرى صوره في سورية وفي مصر وفي أرجاء المنطقة العربية. صراع الإصلاح أو الثورة، وصراع الجيش أو الحكم المدني، والصراع على مكانة مدنية الدولة نسبة لإسلاميتها (تونس وغيرها) وصراع الحرية والعدالة والحقوق وحق تغيير النظام السياسي والإحتجاج مقابل الإستعباد والمصادرة أصبحت قضايا يناقشها الشعب ويتحرك من خلالها جيل الشباب.
لهذا يقوم العاهل الأردني بهذا الدور ويقف الأردن هذا الموقف!
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
الزيارة التي كان بدأها الملك عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة قبل أيام قليلة، يمكن اعتبارها زيارة مصرية بالدرجة الأولى، هذا بالإضافة إلى أنها زيارة فلسطينية وسورية؛ فالعاهل الأردني، الذي كان أول قائد عربي يصل إلى القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي، بقي يشعر بأن الموقف الأميركي من النظام المصري الجديد، ومن المشير عبد الفتاح السيسي تحديدا، فيه الكثير من الضبابية وفيه الكثير مما هو غير مفهوم ولا يتناسب مع العلاقات التاريخية بين دولتين توطدت علاقاتهما وأصبحتا بمثابة حليفين على مدى الأعوام الماضية منذ أن قطع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات علاقات بلده بـ«الاتحاد السوفياتي» السابق في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي.
صحيح أن الخارجية الأميركية تراجعت عن مواقف سابقة كانت قد اتخذتها بعد ثورة الثلاثين من يونيو الماضي، واعتبرت فيها أن ما جرى انقلاب عسكري ضد الديمقراطية، وصحيح أنها أعلنت أن الإخوان المسلمين «سرقوا» ثورة قام بها غيرهم، لكن، وبصورة عامة، فإن موقف الولايات المتحدة إزاء نظام مصر الجديد بقي تحيط به ضبابية غير مبررة وغير مفهومة، وبقيت واشنطن، وبطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، توجه انتقادات لاذعة إلى هذا النظام، وتتهمه بالاعتداء على الحريات العامة وحقوق الإنسان وبالتدخل بطرق وأساليب غير ديمقراطية في الإعلام وفي الحياة الحزبية المصرية.
وكذلك، فإنه صحيح أن الولايات المتحدة استأنفت، بعد انقطاع قصير، بعض مساعداتها الدورية السنوية إلى مصر، لكن بتردد ملاحظ وواضح وبعيدا عن فرضية أن الصديق من المفترض ألا يتخلى، بسبب بعض التعارضات وسوء الفهم، عن صديقه وخاصة عندما يواجه هذا الصديق تحديات جديدة، فالمثل يقول: «الصديق وقت الضيق». وحقيقة، إن من حق المصريين على أميركا ألا تبخل عليهم بالمساعدة التي يستحقونها وبلدهم يواجه هذه الظروف الصعبة التي يواجهها، وتحديدا على صعيد الجوانب الاقتصادية.
ولعل ما لا يدركه صانعو القرار - إنْ في البيت الأبيض وإنْ في الكونغرس الأميركي - أنه لو تأخرت ثورة الثلاثين من يونيو، وأنه لو أن القوات المسلحة المصرية توانت في الاستجابة لرغبة ومناشدات غالبية الشعب المصري وترددت في دعم هذه الثورة، التي لا يلْصق بها تهمة الانقلاب العسكري إلا متجنٍّ أو صاحب ارتباطات تنظيمية بالإخوان المسلمين - لكانت مصر الآن ترزح تحت حكم حزب استبدادي، لا يؤمن لا بالديمقراطية ولا بتداول السلطة، وكان قبل أيام من هذه الحركة الإنقاذية والتصحيحية، المباركة فعلا، قد اتخذ قرارات سرية بالسيطرة على السلك الدبلوماسي كله حتى بما في ذلك وزارة الخارجية، واستكمال السيطرة على الإعلام والحياة السياسية، وإزاحة كل جنرالات الجيش المصري الكبار وكل قادة الأجهزة الأمنية، والبدء بتشكيل نواة، أشرف على تشكيلها خيرت الشاطر، قوامها خمسون ألف عنصر من «شباب» الحركة الإسلامية لإحلالهم رويدا رويدا محل القوات المصرية، التي كانت بداياتها خلال ثورة عرابي باشا في عام 1882 واستمرت على مدى كل هذه العقود الطويلة إلى أن أصبحت بمستوى أهم وأكبر الجيوش العالمية.
والواضح أن أصحاب القرار في الكونغرس الأميركي وفي الإدارة لا يعرفون أن انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 في سوريا الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة واستمر بالهيمنة عليها حتى الآن، كان من صنع ثلاثة ضباط من العلويين، هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، بمساندة أربعمائة بعثي مدني فقط، وأن هؤلاء الضباط الثلاثة، بقوا يتصارعون فيما بينهم إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في عام 1970 وأنهم واصلوا تصفية الأحزاب السياسية التي كانت قد رسخت تجربة برلمانية حقيقية منذ عام 1946، وبعد ذلك رغم الانقلابات العسكرية، التي ابتلي بها هذا البلد الذي كان طليعيا وواعدا في المنطقة، والتي بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وانتهت بانقلاب أديب الشيشكلي الذي تبعه انقلاب «تقدمي» جر «القطر العربي السوري» إلى وحدة مع مصر في عام 1958، ما لبثت أن انهارت بعد نحو ثلاثة أعوام وثبت أنها غير مدروسة بما فيه الكفاية كما كان يطالب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان شديد الحذر في الذهاب إلى هذه الوحدة التي انتهت نهاية مأساوية.
والمؤكد أن العاهل الأردني في الأيام التي أمضاها بواشنطن، قبل الانتقال إلى كاليفورنيا للقاء الرئيس باراك أوباما، الذي من المفترض أن يلتقيه غدا، قد أجرى حوارات مطولة مع وزير الخارجية جون كيري ومع الكثير من الأعضاء القياديين والنافذين ورؤساء اللجان في الكونغرس الأميركي، تركزت أساسا على العلاقات المصرية - الأميركية وتطرقت بالطبع إلى الأزمة السورية وإلى المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالملك عبد الله الثاني يعتبر أن مصر، بموقعها وبعدد سكانها وبتاريخها الحضاري وبإمكانات شعبها وبدورها الإقليمي والدولي المستمر منذ آلاف السنين، تشكل ركيزة رئيسية وأساسية في هذه المنطقة التي تواجه الآن تحديات فعلية كبيرة وخطيرة.
ثم، وإن المؤكد أيضا أن العاهل الأردني نقل قناعاته هذه إلى كيري وإلى أعضاء الكونغرس ورؤساء لجانه الذين التقاهم، وأنه سينقلها حتما إلى الرئيس باراك أوباما عندما يلتقيه غدا الخميس، وأنه حذر وسيحذر هؤلاء جميعا من أنه إذا خسرت الولايات المتحدة علاقاتها السابقة المتينة بمصر فإنها ستخسر وجودها الفاعل في الشرق الأوسط، وخاصة أن هناك دولا تنتظر على أحر من الجمر لتتحرك بسرعة وتملأ الفراغ الذي سيترتب على استنكاف الأميركيين وعدم مساندتهم هذا البلد العربي المحوري، الذي أدى انشغاله بنفسه في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى كل هذه الفوضى وإلى كل هذا الارتباك الحالي في المنطقة العربية.
لقد كان العاهل الأردني يدرك تمام الإدراك، عندما بادر وبسرعة وقام بزيارته التاريخية آنفة الذكر بعد ثورة الثلاثين من يونيو مباشرة، التي كانت أول زيارة يقوم بها قائد عربي إلى أرض الكنانة بعد هذه الثورة المباركة الميمونة، أن ترك مصر وحدها ستكون عواقبه وخيمة وأنه غير جائز أن يترك هذا البلد ليواجه المؤامرات والمتآمرين وحده. ومن هنا، فإنه على العرب.. العرب كلهم، أن يبادروا إلى ما بادرت إليه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وأيضا دولة الكويت، وأن يعززوا صمود هذه الدولة العربية، التي إن هي كُبَّتْ - لا سمح الله، فإنه لن تقوم لهذه الأمة، وإلى سنوات مقبلة طويلة، قائمة.
وحقيقة، إن الأردن بقي يعتبر مصر الشقيقة الكبرى، حتى في تلك الحقبة المظلمة عندما كان هناك صراع معسكرات وكانت هناك المهاترات الإذاعية التي سممت العلاقات بين الأخ وأخيه، وإنه بقي يحرص كل الحرص على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تحاول التطاول على الدور الطليعي لهذا البلد العربي، وإنه من الواجب والضروري ألا يترك الشعب المصري العظيم ليقلع شوكه بنفسه إذا تعرض لوعكة سياسية أو اقتصادية أو داهمته زعزعة داخلية.
وأيضا وللحقيقة، وهذا الكلام يجب أن يقال، إن الأردن شعر في عام العسرة الذي حكم فيه الإخوان المسلمون بأن مصر أصبحت مستهدفة برسالتها وبدورها وبمكانتها العربية والدولية، وأنه - أي الأردن - بات مستهدفا أيضا عندما رفع «إخوان» الإخوان المسلمين في المملكة الأردنية الهاشمية شعار «إننا قادمون»، وذلك بعدما أصبح محمد مرسي رئيسا وغدا الشيخ يوسف القرضاوي يتصرف كتصرف الولي الفقيه وآية الله العظمى في إيران وحيث بدأت القيادة الإخوانية المصرية تستغل إمدادات الغاز المصري إلى الأردن لدفع «الإخوان» الأردنيين لعدم التردد في استغلال الفرصة التي غدت سانحة والتهيئة للانقضاض على الحكم الأردني وفعل ما فعله «الإخوان» في مصر وفي تونس وما كادوا أن يفعلوه في دول عربية أخرى، من بينها ليبيا، ومن بينها أيضا هذه الدويلة الإخوانية البائسة في قطاع غزة.
لقد شعر الأردن، بعد وصول «إخوان» مصر إلى الحكم، بأنه غدا مستهدفا في نظام حكمه وفي كيانه أيضا، ولقد شعر بأن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة استبداد حزبي أسوأ من الاستبداد الذي مارسه الحزب الأوحد - إن في العراق، وإن في سوريا، وإن في «جماهيرية» القذافي. ولذلك، فإنه - أي الأردن - قد بادر، وعلى عجل، وبسرعة، إلى الاعتراف بثورة الثلاثين من يونيو، على اعتبار أنها انتشلت أرض الكنانة من مستنقع آسن بدأت تغرق فيه، وأنها أنقذت المنطقة العربية بمعظم دولها من استبداد ديني، لا مثيل له إلا الاستبداد الديني الذي ضرب أوروبا في العصور الوسطى واستمر حتى اندلاع «الثورة الرأسمالية» التنويرية التي أوصلت الأوروبيين إلى أن ينعموا بهذه الديمقراطية الراقية التي ينعمون بها الآن بعد نجاح الثورة الفرنسية العظيمة.
الكون يحارب «داعش»... ولا يهزمها
بقلم: رومان كاييه عن الأخبار اللبنانية
في 3 كانون الثاني ٢٠١٤، قامت مجموعتان من الجيش الحر، دُعمتا لاحقاً بتحالف من المتمردين «المعتدلين» وسلفيي الجبهة الإسلامية، بتنفيذ هجوم على الدولة الإسلامية في العراق والشام.
باء هذا الهجوم بالفشل، رغم التفوق العددي للمهاجمين. بدت الدولة الإسلامية بعد أكثر من شهر قادرة على المحافظة على عدد من مواقعها.
رغم التبعية المعلنة لجبهة النصرة لتنظيم القاعدة، فإنّ مختلف مكوّنات حركة التمرد العلمانية منها كما القومية _ الإسلامية أو حتى السلفية ركّزت انتقاداتها على الدولة الإسلامية في العراق والشام [1].
تتلخص هذه الاحتجاجات في ثلاث نقاط أساسية:
ــ الدولة الإسلامية في العراق والشام تقاتل الثوار حتى الساعة.
ــ الدولة الإسلامية في العراق والشام لا تواجه النظام السوري.
ــ النظام السوري يتجنب مواقع الدولة الإسلامية.
يجدر أن نفرّق بين معارك الجنود على الحواجز، والتي يمكن أن تتطور إلى الأسوأ، وبين تصفية الألوية «العلمانية» الموالية للغرب، وهي الاستراتيجية التي أصبح من الواضح أن الدولة الإسلامية في العراق والشام تتبناها.
وفي هذا السياق، قاتلت الدولة الإسلامية لواء «عاصفة الشمال» المنتمي الى الجيش السوري الحر والمتمركز في مدينة «أعزاز» في الشمال الغربي من حلب، وطردته من المدينة منذ مطلع شهر تشرين الأول ٢٠١٣ [2].
بالمقابل، ولغاية إطلاق الهجوم على الدولة الإسلامية في العراق والشام، أول كانون الثاني، لم يكن بادياً أنّ هناك إرادة باستهداف قادة التنظيمات المتمردة الأخرى، على العكس كشف عديد الروايات أن العلاقات بين مختلف الفصائل كانت طيبة [3].
أغلب عمليات جبهة النصرة، قبل الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية في نيسان ٢٠١٣، كانت موجهة من قبل قادة دولة العراق الإسلامية والذين التحقوا في ما بعد بجناحها في الشام. وبذلك يكون الدفاع عن الأحياء المتمردة في حلب، «تحرير» مطار تفتناز العسكري قرب إدلب ومدينة الرقة يحسب في قسم كبير منه لصالح الدولة الإسلامية في العراق والشام.
كذلك قام أغلب المقاتلين الأجانب في كتيبة المهاجرين الذين احتلوا اللواء ١١١ في محافظة حلب بإعلان بيعتهم للدولة الإسلامية في العراق والشام.
ويمكن إحصاء سيطرة جنود الدولة الإسلامية في العراق والشام على مطار مينغ العسكري قرب أعزاز في آب ٢٠١٣ وعلى اللواء ٦٦ في محافظة حماه في أيلول من العام ذاته، بالإضافة إلى قتال الدولة الإسلامية لقوات النظام في مقاطعة حلب، على جبهات شيخ سعيد، نبل والزهراء، كويرس، عين عرب، نقارين الحرارية، خان طومان، معارة الأرتيق، وعفرين وفي محافظة دير الزور حول اللواء ١٣٧ ومخازن الأسلحة في مقاطعة عياش.
تلاقي مصالح كل من النظام و«الدولة»
تبيّن مراجعة بسيطة لبرقيات وكالات الأخبار لشهر كانون الثاني ٢٠١٤ أنّ سلاح الجو قصف عديد المقار التابعة للفصيل «الجهادي»، ما تسبب بمقتل عشرات المقاتلين في ١٩ كانون الثاني في الرقة [4] ومقتل قيادي سعودي مطلوب لدى الأنتربول في ٢٤ كانون الثاني في مدينة الباب شمالي حلب. بالرغم من ذلك، فإن هناك تلاقياً حقيقياً للمصالح بين النظام وهذا التنظيم، حيث تعطي سيطرة الدولة الإسلامية على العديد من «المناطق المحررة» ورؤيتها حول التطبيق الصارم للشريعة، بالإضافة إلى استقرار آلاف الجهاديين القادمين من العالم أجمع (مع عائلاتهم أحياناً) حجة ذات وزن للنظام في مفاوضاته مع الغربيين الذين يخشون هذه الظاهرة. وبذلك لا يكون استئصال الجهاديين أولوية استراتيجية لدى النظام.
أما بالنسبة إلى أبي بكر البغدادي، أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي تتمثل أولوياته في تأمين استمرارية «دولته» المؤقتة التي هي في طور البناء، فإنه واع تمام الوعي بأن انهيار نظام دمشق سيقود إلى تكوين حلف ضده بصفة فورية يضم أغلب المتمردين السنّة وبقايا النظام العلوي، وحتى تدخل الطائرات من دون طيار الأميركية.
هذا السيناريو يستند في جزء منه إلى تاريخ دولة العراق الإسلامية، التي حاربت منذ مطلع ٢٠٠٧ كلّاً من الجيش الأميركي والقوات الحكومية العراقية والميليشيات السنية المعروفة باسم «الصحوات».
نموذج «الصحوات» العراقي
سبّب إعلان قيام دولة العراق الإسلامية والبيعة السياسية التي أرادت أن تفرضها هذه الأخيرة على مقاتلي الاحتلال الأميركي رفضاً «للدولة»، حتى داخل الإسلاميين أنفسهم. وكنتيجة لذلك ظهرت «الصحوات» التي طورها ودعمها الأميركيون بقوة عام ٢٠٠٧.
بالرغم من أنّ عديد الثوار السوريين يرفضون أن يتم نعتهم بالصحوات الجديدة، فإن الشبه كبير بين الوضع السوري والعراقي.
العناصر التي أدت إلى ظهور الصحوات في العراق موجودة في سوريا: مقاومة قوية من «الثوار السوريين» للسياسة المتسلطة للدولة الإسلامية في العراق والشام؛ وجود لاعبين خارجيين يوفرون مصادر تمويل وترسانة لكل من يقاتل الدولة الإسلامية. في سوريا، كانت المملكة العربية السعودية وتركيا المساهمتين بصفة مباشرة في نشوء هذه الصحوات، حيث تقوم الرياض بتمويل وتأطير الجبهة الإسلامية، بينما تدعم تركيا على وجه الخصوص جبهة ثوار سوريا التابعة لجمال معروف.
وفي ٢٢ كانون الثاني الماضي، وخلال مؤتمر «جنيف ٢» في مونترو، أكد رئيس «الائتلاف» أحمد الجربا أنّ الجيش الحر، وبالتنسيق مع بلدان صديقة عدة، قام بملاحقة إرهابيي الدولة الإسلامية في العراق والشام في محافظات: إدلب، حلب وحماه.
هذه الحرب تجد شرعيتها لدى الرأي العام السوري بسبب مقتل القائد في الجبهة الإسلامية أبي ريان، وذلك على يد عضو في الدولة الإسلامية أراد الانتقام لسقوط عديد المقاتلين الذين تمت تصفيتهم من قبل كتيبة أبي ريان في مسكنة [5]. ورغم ذلك، فإنّ تصريحات الجربا عن الانتصار في هذه الحملة على الدولة الإسلامية تبيّن أنها لا تعدو أن تكون إلا فشلاً.
انتصارات «الدولة»: انسجام أيديولوجي وتحالفات مع القبائل
بعد إعلان بدء هجوم «الثوار» مطلع كانون الثاني، قامت الدولة الإسلامية بهجوم معاكس ناجح، رغم التفوق العددي للمهاجمين ورغم دعم قوى المنطقة لهم. علاوة على ميزات مقاتليها وكفاءة قادتها العسكريين [6]، فإن الانسجام الأيديولوجي الداخلي للدولة الإسلامية يفسّر قدرتها على المقاومة. إذ تمثل الدولة الإسلامية فعلياً إلى جانب حزب الله القوة العسكرية الوحيدة الموجودة في سوريا، والتي رغم الاختلافات الثقافية واللغوية بين مقاتليها فإنهم ينتسبون إلى أيديولوجية واحدة وإلى البرنامج السياسي نفسه. هذه الوحدة تؤمن تنظيماً وانضباطاً على الأرض حاسمين عند المواجهة مع الجيش السوري الحر الذي يضم عسكريين منشقين وعصابات مافيوية وحتى عند مواجهة كتائب الجبهة الإسلامية التي يتقاسمها الإسلاميون المعتدلون والسلفيون [7]، حتى جبهة النصرة نفسها، لا تتمتع بهكذا تجانس أيديولوجي.
إن تغلغل التنظيم الجهادي في القبائل السورية يفسّر أيضاً قدرته على المقاومة، ولا سيما في معاقله في الرقة وجرابلس:
ــ في الرقة، بعض العشائر الطامحة إلى الاستقرار والمقتنعة باستحالة عودة نظام بشار الأسد لجأت إلى الدولة الإسلامية. وهذا أحياناً دون أي اعتبار أيديولوجي. حيث قامت عشيرة العفادلة، والتي كانت تتبع النظام، ببيعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، بينما اختارت عشائر أخرى وضع أبنائها في كل الفصائل؛ من ضمنهم الدولة الإسلامية من أجل المحافظة على مصالحها. وعندما بدأ القتال في الرقة بين الدولة الإسلامية ومناهضيها، سحبت العشائر أبناءها من كلا الفريقين لتجنب الاقتتال في ما بينهم، وهو ما أجبر أعداء الدولة الإسلامية على الاستعانة بمقاتلين سلفيين من الجبهة الإسلامية من إدلب وحلب لدعم لواء ثوار الرقة المتحالف مع جبهة النصرة، التي لم تشارك بشكل مباشر في القتال ضد الدولة الإسلامية، رغم إعلان تصفية أميرها المحلي أبو سعد الحضرمي [8]. وقد استبق خسارة مواقع الجبهة الإسلامية انتصار الدولة الإسلامية في العراق والشام منذ التاسع من كانون الثاني والذي أصبح نهائياً بعد الرابع عشر من كانون الثاني بعد سقوط الرميلة آخر منطقة يسيطر عليها لواء ثوار الرقة.
ـــ في جرابلس، المدينة الواقعة الى الشمال الشرقي من حلب، استلزم الأمر أكثر من ١٠ أيام للقتال حتى تسترجع الدولة الإسلامية في العراق والشام نفوذها الكامل على معقلها، معتمدة في ذلك على عداوات قديمة بين عشيرتي المدينة: الجيس والطيء. حيث كانت عشيرة الجيس _ المرتبطة قديماً بالنظام، ثم من بعده مع الجيش الحر والمعروف عنها بأنها قليلة الالتزام الديني _ تهيمن على عشيرة الطيء المشاع عنها بكونها محافظة والتي التحق أغلب أبنائها بجبهة النصرة، ثم بالدولة الإسلامية في العراق والشام [9]. وفي تموز ٢٠١٢، عندما غادرت قوات دمشق جرابلس، أضحت كل من العشيرتين تتمتع بمشروعية ثورية حيث تعتمد عشيرة الجيس على عائلة يوسف جادر الضابط المنشق، والذي التحق بالجيش السوري الحر، قبل أن يموت كـ«بطل» في معركة الأكاديمية العسكرية في حلب، بينما كان للشيخ أحمد مصطفى المنتمي إلى عشيرة الطيء، وأحد أكثر الأئمة شعبية في جرابلس، ٣ إخوة سقطوا «شهداء».
لم يبايع الشيخ أحمد مصطفى رسمياً الدولة الإسلامية، إلا أن العديد من أبناء عائلته ومن بينهم أخوان له التحقا بالتنظيم مدعمين بذلك أحقية الطيء بتسيير مدينة جرابلس. انتهى الأمر باندلاع القتال بين العشيرتين بعد مقتل مجاهد أجنبي من قبل رجل من عائلة جادر من عشيرة الجيس. وقام أبناء عشيرة الطيء الموالون للدولة الإسلامية بطرد أعدائهم من جرابلس، وانتهى الأمر بهم إلى السيطرة على المدينة بالكامل في نهاية صيف ٢٠١٣.
وعلى ضوء هذه الأحداث، يجب مقاربة معارك كانون الثاني ٢٠١٤، التي كانت بين مقاتلي الدولة الإسلامية، التي تجمع كلاً من المتطوعين الأجانب وأبناء عشيرة الطيء من جهة، وبين عائلة الجادر الراغبة في الانتقام والمدعومة بجزء من عشيرة الجيس، بالإضافة إلى الأكراد من جهة ثانية.
وبعدما فوجئوا بهجوم 5 يناير/ كانون الثاني الذي ترسخ في مركز جرابلس الثقافي، تمكّن مقاتلو الدولة الإسلامية من كسر الحصار الذي فرضه الثوار بفضل وصول التعزيزات من حلب واسترجع المقاتلون السيطرة على المدينة بالكامل.
وفي جرابلس، كما الرقة وعلى الأرجح في مدن أخرى، أضحى السكان الراغبون في عودة الاستقرار والنظام إلى مدنهم يتكيّفون بطريقة أو بأخرى مع وجود مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والشام.
«في البداية، كان أبواي ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن اليوم هما يحبذان مواقفها المتسلطة على الفوضى التي تهيمن على المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، صحيح أنه مع الجيش الحر كنا أحراراً في فعل ما نريد، لكن المدينة لم تكن مؤمنة ويمكن أن نختطف من العصابات بين عشية وضحاها» [10])
كما حصلت الدولة الإسلامية في العراق والشام أخيراً على بيعة عشيرة الحديدين الموجودة في شرق حلب وفي البادية (صحراء سوريا) وعشيرة بوعز الدين ذات الصلة بقبيلة العقيدات.
في محافظة دير الزور، ليس بعيداً عن الحدود العراقية، مكّنت السيطرة على هذه المحافظة الدولة الإسلامية من تأمين استمرارية ترابية تمتد من الفلوجة حتى ريف شمال حلب.
تجدر الإشارة إلى أنّ من المرجح أن يكون لتلك الولاءات القبلية أبعاد نفعية مادية، حيث تسبب استيلاء الدولة الإسلامية على حقل الغاز الطبيعي كونيكو في محافظة دير الزور بغضب قادة جبهة النصرة واندلاع المعارك بين الدولة الإسلامية وجبهة النصرة بصفة مباشرة لأول مرة.
بعد أكثر من شهر على بدء الهجوم ضدها، بدت الدولة الإسلامية قادرة على المحافظة على مواقعها في الرقة، في وادي الفرات وربما كامل شمال محافظة حلب في حال تمكن الجهاديين من كسر حصار أعزاز. وقد دحضت القيادة العامة لتنظيم القاعدة في بيان نشر في ٣ شباط ٢٠١٤ كل علاقة لتنظيمه مع الدولة الإسلامية، مؤكداً أن جبهة النصرة هي الذراع الوحيدة للقاعدة في كل من سوريا ولبنان حيث قامت بعديد العمليات.
السلفية الوهابية صناعة مخابراتية؟
بقلم: عدة فلاحي عن الشروق الجزائرية
يبدو أن الأجهزة المخابراتية هي صانعة التاريخ السياسي للأمم منذ أقدم العصور سواء في الدول المتخلفة أو العالم المتطور والمتمدن ولا ضير في ذلك مادام يحقق نتائج إيجابية، ودون ان نذهب بعيدا، يمكن القول أن المستعمرات الفرنسية والبريطانية ما كانت لتتوسع لدرجة أن بريطانيا سميت "بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" لولا خدمات المخبرين الذين توفرت لديهم عدة مهارات وقدرات عسكرية أمنية وثقافية ولغوية متعددة، ومن مجموعة المخبرين التسعة الذين أوفدتهم بريطانيا إلى الشرق الأوسط الجاسوس همفر الذي بعث سنة 1710 إلى كل من مصر والعراق وطهران والحجاز والأستانة ليجمع المعلومات الكافية التي تساعد في القضاء على الإمبراطورية العثمانية وتمزيق وحدة المسلمين وتشتيت شملهم وزرع الفرقة والخلاف بينهم، وقد حمل هذا الجاسوس اسم "محمد" وتعلم الفارسية والعربية التي أصبح يتحدث بها بطلاقة حتى لا يكتشف أمره، وهو يتردد على محل أحد المقيمين بالبصرة (نجار) وكان اسمه عبد الرضا وقد كان شيعيا فارسيا من أهالي خراسان كما يخبرنا بذلك الجاسوس همفر في مذكراته، صادف كما يقول وأن التقى بشاب طموح اسمه محمد بن عبد الوهاب وما يجمع بينه وبين عبد الرضا الشيعي هو كرههما وعداوتهما للباب العالي (الخلافة العثمانية)..
ومما اكتشفه همفر في شخصية محمد بن عبد الوهاب السني هو استعداده بنفسه لدرجة أنه رأى بأنه قد وصل لرتبة المجتهد الذي لا يتقيد بآراء الخلفاء الراشدين أو يرجع إليها وتجاوزه كذلك لمذاهب الأئمة الأربعة وفقهاء المسلمين ومحدثيهم والاكتفاء بفهمه الخاص للقرآن والسنة وهنا يمكن القول أن الجاسوس همفر قد وجد ضالته التي كان يبحث عنها، وهي كيف يمكن تحويل هذه الشخصية المغرورة التي تحمل بذور الانشقاق والانفصال مع الفهم السطحي والبدائي للدين لصالح بريطانيا الاستعمارية ومن هنا بدأت القصة الدرامية لمؤسس السلفية الوهابية التي كان ضررها على الأمة أكبر من نفعها ولازالت للأسف الشديد هذه المرجعية تستخدم من طرف الغرب وأعداء الإسلام بما يتعارض والإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لقد استغل الجاسوس همفر كما دون هو ذلك في مذكراته غرور محمد بن عبد الوهاب ووطد صلته به وراح يثني عليه باستمرار ويعدد مواهبه الخارقة التي جعلها تفوق مواهب الخلفاء الراشدين ومن أنه لو عاصر الرسول (ص) لأوصى بأن يكون خليفة من بعده وبأنه اليوم هو المنقذ والمخلص للإسلام والمسلمين من الضياع وهذا لما يتمتع به من تحرر وشجاعة؛ ومن خلال هذا المدح والغزل الخبيث يقول همفر استطاع أن يقنع محمد بن عبد الوهاب الأعزب بمشروعية زواج المتعة وبأن تحريم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لها لا يلزمه وبالتالي عقد قرانه لمدة أسبوع مع مسيحية كانت في الأصل مجندة لإفساد قيم وأخلاق الشباب المسلم عرفه بها همفر الذي كان يريد من وراء ذلك دفع محمد بن عبد الوهاب إلى مخالفة ما استقر في فقه السنة والجرأة على كسر الطابوهات وبذلك يسهل السيطرة على محمد بن عبد الوهاب وتوجيهه الوجهة التي تحقق الأجندة والمخطط السياسي الذي تسعى إليه بريطانيا الاستعمارية.
يقول الجاسوس البريطاني عن محمد بن عبد الوهاب بأنه شديد الانفعال وعصبي المزاج وهذه من المميزات التي تجعل الشخص سهل الانقياد وبالخصوص إذا كان يحمل مشروعا يريد له أن يتحقق في واقع الحال وهنا عرض همفر وبتوجيهات من المخابرات والخارجية البريطانية على ابن عبد الوهاب الدعم المالي والحماية من المضايقات التي قد يتعرض لها من الحكومات والعلماء حتى يستطيع نشر آرائه وأفكاره وإذا اقتضى الأمر حتى تزويده بالسلاح للدفاع عن نفسه حتى ولو اضطر الأمر إلى تأسيس إمارة صغيرة خاصة به في أطراف بلاد نجد، ولكن ذلك يتوقف على تحقيق جملة من الشروط التي نصحه بها همفر وهي أولا أن يكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب كل المسلمين واستباحة دمائهم ما لم يفقهوا التوحيد على مذهبه وثانيا الدعوة لهدم الكعبة باسم أنها من آثار الوثنية، وثالثا الخروج على طاعة الخليفة والمطالبة بمحاربته وبعزله ومحاربة أشراف الحجاز والتمرد عليهم، ورابعا هدم القباب والأضرحة بما فيها قبر النبي والصحابة، وهذا الذي كان من الشيخ بن عبد الوهاب الذي طبق خارطة الطريق البريطانية التي لم يسقط منها سوى الدعوة لهدم الكعبة، أما الباقي فقد نفذه بكل قوة فسادت الفوضى والإرهاب والفتنة ربوع الحجاز والشام وبذلك فرح الكافرون بنصر خبرائهم الذين جلبوا محمد بن سعود ليعقد حلفا أو تحالفا مع محمد بن عبد الوهاب والتأسيس للبذور الأولى لقيام المملكة العربية السعودية ذات المرجعية الوهابية السلفية وهذا الذي تحقق وهذا الذي نعاني من ويلاته اليوم وما ضاعت فلسطين وما ضاع القدس الشريف وأولى القبلتين إلا بسبب هؤلاء القوم الذين حولوا نساءهم وأموالهم إلى قبلة لهم، ولكن كل ذلك الملك هو بين أصابع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت بنفوذها وسطوتها لاحقا لتقلب الكفة لصالح عزة وجبروت وسلطان المسيحية والمسيحيين، وإن أفصح همفر في عدة مرات عن إعجابه بتعاليم الإسلام التي أساء إليها حسب تحليله للأوضاع التي اطلع عليها في عين المكان آنذاك تتمثل في غرور الحكام وفسادهم وجهل العلماء بالحياة وجمودهم وعدم اهتمامهم بما يجري حولهم في العالم، وتفشي الفوضى والأمية والفقر والجريمة والقذارة والأوساخ المتفشية في المجتمعات الإسلامية!
كان الجاسوس همفر يتحدث كمسيحي في تدوين مذكراته وإن أظهر الإسلام أثناء أداء مهمته، كما أنه ورغم إعجابه بإعجاز القرآن لم يقتنع بنبوة محمد الذي كان يرى فيه الشخص القريب من النوبة في أخلاقه وعبقريته وفي ذكائه وفي علاقاته مع الناس وفي نفس الوقت يستغرب همفر من بقاء مبرر النزاع والخلاف بين السنة والشيعة رغم مرور كل هذه القرون التي غيبت المعنيين بالمسألة ولكن من التوصيات التي تلقاها همفر من مرؤوسيه هي التفكير والعمل على توسيع الشقة بين المسلمين وتفجير النزاعات وتوظيفها وليس جمع كلمتهم وبذلك يستطيع البريطانيون العيش في الرفاه الذي توفره لهم المستعمرات التي من بينها المستعمرات الإسلامية التي تحققت لهم بعدما حددوا نقاط ضعف المسلمين والتي كما سردها همفر في مذكراته نقلا عن تقرير الخارجة البريطانية وفي مقدمتها بتصرف واختصار؛ "الاختلاف بين السنة والشيعة وبين الحاكم والمحكوم وبين العشائر والقوميات، وتفشي الجهل والأمية وانعدام النظافة وخمول الروح وذبول المعرفة وفقدان الوعي والتعلق بالآخرة وترك سنن تعمير الحياة الدنيا واستبداد الحكام وعدم أمن الطرقات وانقطاع المواصلات إلا ما ندر وتدهور الصحة العامة وانسداد الأنهار رغم كثرتها وقلة المزارع، الفوضى في تسيير الشؤون الإدارية وعدم الانضباط وانتشار الفقر وعدم وجود جيوش نظامية مدربة ومسلحة واحتقار المرأة وهضم حقها والوساخة والقذارة في الأسواق والشوارع والأجسام وفي كل مكان..."، وهذه السلبيات التي حواها التقرير البريطاني في كتاب ضخم بعنوان "كيف نحطم الإسلام" درسه بكل تمعن الجاسوس همفر وغيره من الجواسيس المنتشرة في البقاع الإسلامية، أوصى بتوفير كل الوسائل المادية والمعنوية والبشرية لتكريسها وتعميقها، ومع ذلك يعترف همفر بأن هذه المساوئ التي سبق ذكرها كلها مناقضة ومعاكسة لما حذر منه القرآن وبالتالي السؤال المحير ونحن نقرأ هذا الجرد المخزي: ألم يعد يصدق علينا وفينا اليوم كذلك، وما الذي تغير خاصة وأن الخوف كل الخوف أن تصدق قاعدة أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، وإذا كان هذا هو حالنا، ألا يحق للغرب ولأهل الكتاب وأهل الأهواء والملل تحقيرنا والانتقاص من كرامتنا وتشويه ديننا وسمعة نبينا والطعن في قرآننا وأحاديث رسولنا؟
إن الاستعمار الغربي المسيحي استخدم خطة القضاء على الإسلام من الداخل ليسهل عليه استعباد أتباعه واستغلال أراضيه وخيراته، والغريب أن السكرتير البريطاني يقول بأن الأتراك كانوا أذكى وأفطن منهم حينما أشاعوا المحرمات والفوضى والشقاق والخلاف بين العرب ليسوسوهم وهذا هو الطريق السليم الذي يصل بنا إلى هدفنا الذي فشلت في الوصول إليه الحروب الصليبية، فهل بعد هذا الكلام الخطير نصدق دعاوى السلفيين من أن مذكرات الجاسوس البريطاني مفتعلة وباطلة ومن نسج الخيال ومن أن صاحبها مرة يقولون عنه بأنه شخصية مزيفة وصنيعة إعلامية وسياسية ومرة أخرى بأنه شيعي رافضي أراد أن يسيء للشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته والإيحاء بأن المملكة السعودية هي صنيعة بريطانية؛ ولكن أين الحقيقة التي يجب أن يفصل فيها المؤرخون والباحثون بكل موضوعية واحترافية، وهنا أطالب أن يكونوا جزائريين معروفي الهوية، وإذا كان السلفيون بأمرائهم وعلمائهم ينكرون هذه الأقوال التي تهز عرشهم، فهل من حقهم التشكيك في الآخرين والقول مثلا بأن مؤسس الشيعة هو من أصل يهودي، ومن ان الإخوان هم كذلك صناعة بريطانية بعدما وصلوا إلى سدة الحكم بمصر؟ الأمر خطير وجلل ويحتاج إلى متابعة ونقاش واسع يسوده الإخلاص والتجرد والحكمة.
مصر نحو عصر رئاسي جديد
بقلم: أحمد الجارالله عن السياسة الكويتية
لا شك ان مصر اليوم على ابواب مرحلة جديدة, والانتخابات الرئاسية في جوهرها هي اختيار زعامة اكثر منها انتخابات عادية, وهناك غالبية شعبية عرفت مسبقا من تريد, لكن ذلك لا يمنع من ان تعبر عن تنوعها وخياراتها الديمقراطية التي سعت اليها من خلال ثورتي 25 يناير و30 يونيو, وتكرست في النتائج التي انتهت اليها الثورة الثانية.
من هنا يكون تعدد المرشحين للرئاسة دليل عافية في الحراك السياسي المصري, ومؤشرا على مدى قدرة هذا الشعب العظيم على اجتراح المعجزات, وإحباط مخططات التخريب التي تسعى اليها جماعات لم تعد خافية على أحد, وذلك من خلال جعل الصراع ديمقراطيا بامتياز, وليس صراع دم وتفجيرات وقنابل.
صحيح ان الدلائل كافة تشير الى ان المشير عبدالفتاح السيسي هو الاوفر حظا اذا اعلن خوضه الانتخابات, وهو لا شك سيعلن ذلك في الوقت المناسب, لكن هذا لا يعني ان تقتصر الانتخابات على مرشح وحيد, فالشعب الذي خرج بالملايين الى الشوارع, ولا سيما في 30 يونيو, كان مطلبه الاول منع السيطرة الاحادية على المشهد السياسي, وعدم احتكار جماعة "الاخوان" السلطة, خصوصا ان هذه العصابة وصلت الى الحكم بالسطو والتدليس, ما اثار مخاوف ملايين المصريين من انتكاسة تصيب الثورة وتوظف نتائجها لتحول مصر الى ديكتاتورية متخفية بالدين.
استنادا الى هذه الحقائق فان اعلان حمدين صباحي ترشحه للانتخابات الرئاسية خطوة جيدة, بل ان تعدد المرشحين تعبير عن موقف وطني يعزز فرص الحوار, ويمنع تزوير ارادة الناس من خلال الاكاذيب التي عمد "الاخوان" الى ترويجها حين اسقطتهم الملايين, ولا سيما كذبتهم عن ان ما جرى هو"انقلاب".
ان يكون هناك تنافس على الرئاسة, ذلك لا يمنع من الاعتراف ان المشير السيسي, وقد خبره شعبه, قبل ان تعرفه الدول العربية, وبخاصة دول"مجلس التعاون", هو الاوفر حظا, وهو الذي كشف في العديد من المحطات عن برنامج عمله, وبخاصة أنه جعل مصر كلها ورشة عمل من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها.
ورشة العمل هذه تحتاج الى الانضباط في العمل والسعي الى الانجاز, فالجنرال الذي قال في احد التصريحات:" اذا ارادني الشعب المصري ان اكون رئيسه فعلى الجميع الاستيقاظ الساعة الخامسة فجرا من اجل العمل, وان يرضى ايضا بأكل رغيف واحد في سبيل انهاض مصر" لن يكون مجرد رئيس بروتوكولي, بل هذا النوع من الرجال لا يشغله البروتوكول, فما تعلمه من المدرسة العسكرية هو ان يتفانى في البذل والعطاء والعمل, وعند ذاك لن يحتاج الى تسويق افكاره بين اهله وناسه, انما الشعب الذي منحه الثقة قبل ان يصبح رئيسا له سيتقبل اوامره الرئاسية بكل رحابة صدر, فالذي يعمل بإمرة الشعب, وينحاز اليه لن يخيب امله ابدا.
على ابواب الانتخابات الرئاسية الجديدة ليكن هناك العديد من المرشحين ولتكن المنافسة بين البرامج وليس عبر استغلال العواطف والحماسة, فهذه البرامج اذا اجتمعت تشكل افضل خريطة طريق للمرحلة المقبلة, وبالمناسبة نذكر ان المصريين ذاتهم طالبوا في العام 2011 ان تكون برامج المتنافسين الانتخابية يومذاك خريطة عمل ينفذها الرئيس الفائز, واليوم وفي ظل هذه الثقة الشعبية الكبيرة التي يحوزها المشير السيسي, لاشك أن خريطة الطريق تلك ستنقل مصر ليس الى مرحلة جديدة انما الى عصر جديد, لان مصر حجر الزاوية في العالم العربي, وما يجري فيها يؤثر في المنطقة ككل, لذلك فعندما اندحر فيها حكم "الاخوان" سقط مشروع هيمنتهم على الحكم في العالم العربي كله, وكذلك منها ايضا يمكن ان يبدأ عصر النهضة العربية الجديد.
13/2/2014
في هذا الملف:
نقاش مفتوح مع الرئيس الفلسطيني
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
زفـة المصالحة الجديدة وما وراءها
بقلم: ياسر الزعاترة عن الدستور الأردنية
العرب: ثورات وعنف وحركات تغيير
بقلم: شفيق ناظم الغبرا عن الحياة اللندنية
لهذا يقوم العاهل الأردني بهذا الدور ويقف الأردن هذا الموقف!
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
الكون يحارب «داعش»... ولا يهزمها
بقلم: رومان كاييه عن الأخبار اللبنانية
السلفية الوهابية صناعة مخابراتية؟
بقلم: عدة فلاحي عن الشروق الجزائرية
مصر نحو عصر رئاسي جديد
بقلم: أحمد الجارالله عن السياسة الكويتية
نقاش مفتوح مع الرئيس الفلسطيني
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
المقابلة الصحافية التي أجرتها صحيفة ‘نيويورك تايمز′ مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونشرتها (الاثنين 3 فبراير/شباط الحالي) تضمنت سلسلة مقترحات له حول التسوية. المقترحات هي رسالة موجهة إلى وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، وهي أيضاً رسالة إلى إسرائيل. في المقابلة يقترح عباس نشر قوة من حلف شمال الأطلسي بقيادة أمريكية في أراضي الدولة الفلسطينية. من وجهة نظره، فإن هذه القوة من حلف الناتو سيكون بإمكانها الانتشار في مختلف أراضي الدولة الفلسطينية، وعلى جميع المعابر الحدودية وكذلك داخل القدس. حول هذا الاقتراح الذي يتقدم به عباس يمكن القول، ان قوات حلف الناتو هي عملياً بإمرة أمريكية وكلا الجهتين، الولايات المتحدة ودول حلف الناتو حليفان لإسرائيل! قد يتصور الرئيس الفلسطيني ان هذه القوات تقف محايدة في الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني، كلا فلا يمكن لهذه القوات أن تكون محايدة تماماً مثل مواقف بلادها من عملية الصراع في الشرق الأوسط، فهي تصطف إلى جانب إسرائيل. من زاوية ثانية فقد جرى اختبار الحراسة البريطانية والإشراف الأمريكي لسجن أريحا. لا الاتفاق ولا الدولتان منعتا إسرائيل من الهجوم على سجن أريحا واختطاف المناضلين أحمد سعدات وفؤاد الشوبكي ورفاقهما من سجن أريحا في 14 مارس/اذار 2006. رغم كل اقتراحات عباس فإن إسرائيل ترفض وجود اي قوات سوى قواتها، فما الداعي لمثل هذا الاقتراح الذي أيضاً لم ولن يشفع للفلسطينيين لا أمام الولايات المتحدة ولا أمام دول حلف الناتو؟
في المقابلة أضاف الرئيس الفلسطيني، ان القوات الإسرائيلية سيمكنها البقاء في الضفة الغربية لمدة أقصاها خمس سنوات وليس ثلاث سنوات، كما اقترح في الماضي، على أن تتم إزالة المستوطنات خلال فترة مماثلة. وحول هذا الاقتراح نقول ونتساءل، أين هو استقلال دولة فلسطين إذا كانت القوات الإسرائيلية ستوجد مدة خمس سنوات؟ ثم ما هي الضمانات لعدم بقاء هذه القوات لخمس سنوات أخرى وأخرى غيرها، فيما لو ارتأت تحت مبرر حماية الأمن الإسرئيلي؟ ومن ذا الذي سيجبرها على الرحيل وفقاً للاتفاق؟ أهي القوات الفلسطينية؟ وعباس يقترح دولة فلسطينية منزوعة السلاح إلا من قوة شرطية، حيث تتولى القــوة الدولية حسب اقتراحه مهمة منع تهريب الأسلحة ومواجهـــــة (الأعمال الإرهابية). هنا فإن الرئيس الفلسطيني يعترف بأن عمليات المقاومة التي قامت بها الفصائل الفلسطينية ليست اكثر من عمليات’إرهابية’! هذا في الوقت الذي أتاحت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة للشعوب المحتلة أراضيها والمغتصبة إرادتها، الحــــق في مقاومة الاحتلال (القرار الذي يحمل الرقم 3034 بتاريخ 18 ديسمبر/كانون الاول 1972) بما في ذلك الحق في المقاومة المسلحة (القرار الذي يحمل الرقم 3314 بتاريخ 14 فبراير/شباط 1974). غريب أمر الرئيس الفلسطيني فهو يطلق على مقاومة شعبه لفعل الاحتلال الإسرائيلي لأراضي وطنه (إرهاباً)!
لقد أشار عباس في ذات المقابلة إلى أنه يرفض مطالب العديد من الجهات الفلسطينية بإعلان انضمام السلطة الفلسطينية إلى هيئات الأمم المتحدة، أو اللجوء إلى المحكمة الدولية وأضاف انه يريد استنفاد عملية التفاوض مع إسرائيل قبل اتخاذ أي خطوة من هذا النوع. نسأل الرئيس: وماذا ينتظر بعد مضي ما ينوف على ثلثي مدة التفاوض (المقدرة بتسعة أشهر) من دون اعتراف إسرائيلي بأي حقوق فلسطينية، إضافة إلى أن الاستيطان تتسارع وتائره، وهدم البيوت والاعتقالات والاغتيالات من قبل إسرائيل للفلسطينيين بلغت مستويات عالية، ونتنياهو يطالب بالمزيد من الاشتراطات على الفلسطينيين والعرب ومنها، بقاء قوات الاحتلال في منطقة الغور على الحدود مع الأردن، والاعتراف بيهودية إسرائيل.
نذّكر الرئيس الفلسطيني أيضاً، بأنه من قبل جرى تجريب أسلوب التفاوض مع إسرائيل، ولم ينتج عن ذلك أي إيجابية تُذكر، بل العكس من ذلك فان إسرائيل تزداد تعنتاً في رفض الحقوق الفلسطينية جملة وتفصيلاً، فما الذي ينتظره أبو مازن ليقوم بالمزيد من التأخير في طلبات انضمام السلطة الفلسطينية إلى هيئات الأمم المتحدة، خاصة إلى المحكمة الدولية؟ ليسمح لنا الرئيس الفلسطيني القول بأن انضمام دولة فلسطين (المراقب في الجمعية العامة) لهذه الجمعيات وللمحكمة الدولية هو وسيلة ضغط على إسرائيل من أجل الاعتراف بالحقوق الفلسطينية وليس العكس. لقد لمح أبو مازن أيضاً الى أنه سيوافق على تمديد الفترة الزمنية المحددة للمفاوضات إذا حصل في نهايتها على شيء واعد، على حد تعبيره! الذي نود قوله للرئيس الفلسطيني، لو أن إسرائيل تعترف بأيٍّ من الحقوق الفلسطينية لاعترفت بها منذ زمن طويل. لكن استراتيجية إسرائيل قائمة على رفض هذه الحقوق رفضاً قاطعاً، ولذلك فإنه رغم مضي ما ينوف على العقدين، وبدل أن تعترف بالحقوق الفلسطينية فإنها تزداد اشتراطاتٍ على الفلسطينيين، وتجاهر علناً بأنها ترفض هذه الحقوق. ستة أشهر من جولات كيري العديدة لم تحل دون تعنت إسرائيل. أطراف الائتلاف الإسرائيلي الحاكم في معظمهم لا يعترفون بوجود شعب فلسطيني من الأساس، فكيف بالقبول لإعطاء الفلسطينيين دولةً؟ على صعيد آخر فقد ثبت بالملموس أن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري هو وسيط غير محايد وغير نزيه، إنه الناقل لوجهات النظر الإسرائيلية، هو يسعى لاتفاق إطار وليس لاعتراف إسرائيلي بالحقوق الفلسطينية، ورغم ذلك تجري مهاجمة كيري من قبل وزراء وقادة سياسيين وعسكريين كثيرين، إنها الوسيلة الصهيونية من قبل والإسرائيلية في ما بعد لابتزاز المسؤولين في دول العالم من أجل إثبات المزيد من الولاء لإسرائيل ولطروحاتها للتسوية. لا فائدة من إطالة أمد المفاوضات. إنه هروب إلى الأمام ليس إلا، وهو عدم إعطاء القضية الفلسطينية استحقاقاتها المفروضة بفعل حقائق التسوية الإسرائيلية الواضحة والمكشوفة تماماً، التي يعلنها الإسرائيليون صباح مساء.
أبو مازن في نفس المقابلة اعلن مرة أخرى أنه لن يوافق أبداً على العودة إلى الكفاح المسلح! الرئيس محمود عباس يحرّم على شعبه اتباع الوسيلة الأساسية في مقاومة المحتلين، وهذه هي الوسيلة التي أعلنت صحتها وكفاءتها في كل تجارب حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، باستعمالها وصلت كافة حركات التحرر إلى أهدافها في انتزاع حرية شعوبها وحقوق هذه الشعوب. ومثلما قلنا فإن هذا الحق أجازته الأمم المتحدة للشعوب المحتلة أراضيها. الشعب الفلسطيني ليس استثناء بين هذه الشعوب، وما انطبق على نضالها هو مشروع أيضاً للشعب الفلسطيني وينطبق على قضيته وعلى نضاله المشروع من أجل انتزاع حقوقه الوطنية ‘فما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة’ هذه مقولة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر، وهي من الثوابت في نضالات الشعوب. رفض الكفاح المسلح وانتهاج أسلوب المفاوضات لمدة طويلة لم تفعل شيئاً للفلسطينيين سوى العودة إلى الوراء بقضيتهم وبمشروعهم الوطني التحرري. الرئيس عباس يريد مقاومة شعبية فقط غير مسلحة حتى بالحجارة، بالتالي فما هو الضاغط على إسرائيل والحالة هذه للانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967؟ إسرائيل التي أطالت المفاوضات مع الفلسطينيين عقوداً طويلة قادرة على إطالة أمد هذه المفاوضات عقوداُ طويلة أخرى.
لا يريد الرئيس الفلسطيني إدراك هذه الحقيقة، فرغم عقم المفاوضات ما زال متمسكاً بها. الظروف لم تنضج بعد بالاستراتيجية الفلسطينية المتبعة للحصول على دولة ولا بد من تغيير هذه الاستراتيجية.
زفـة المصالحة الجديدة وما وراءها
بقلم: ياسر الزعاترة عن الدستور الأردنية
بينما كان نبيل شعث من فتح وغازي حمد من حماس يوزعان حبوب التفاؤل بقرب التوصل إلى اتفاق المصالحة وقرب تنفيذه على الأرض، فيما كنت أرى غير ذلك في الحوار التلفزيوني الدائر حول زيارة وفد اللجنة المركزية لحركة فتح إلى قطاع غزة، لم يكن من المذيع غير أن اتهمني بتخريب العرس، فكان ردي أننا شهدنا عشرين عرسا (ليس العدد دقيقا بالطبع) قبل ذلك وانتهت إلى لا شيء، فلماذا ينبغي علينا أن نتفاءل بهذا العرس على وجه التحديد؟!
طوال أسابيع قبل زيارة وفد مركزية فتح إلى قطاع غزة، كان خطاب مسؤولي فتح حيال حماس استعلائيا بشكل لافت، مع سيل من الاتهامات للحركة بالتدخل في الشأن المصري، بل وتحريض سافر عليها حتى في الفضائيات المصرية، فما الذي تغير حتى سافر الوفد الرفيع سريعا إلى قطاع غزة؟
ثمة حدثان بارزان؛ الأول ما سرّبته صحيفة معاريف حول حوارات جرت بين مبعوث نتنياهو (المحامي إسحق مولخو) مع محمد دحلان في دبي، مع توضيح من نتنياهو بأنه يفضل دحلان كخليفة لعباس، والحدث الثاني هو تسرّب معلومات عن اتصالات بين دحلان وبين حركة حماس، يبدو أنها تمت من خلال بعض رجاله المعروفين.
وفيما يعيش عباس مأزق الضغوط الأمريكية المتعلقة باتفاق الإطار، فإن الموقف بدا ضاغطا إلى حد كبير، وإن لم يكن وضع حماس مرتاحا تبعا للضغوط المصرية المشددة، لكن سبب البعثة العباسية إنما يتمثل فيما ذكرنا آنفا؛ أعني مخاوف الرئيس من تكرار تجربة البديل التي رتبها الصهاينة ببطولته إلى جانب دحلان وفياض مع عرفات، وإن يكن ذلك مستبعدا تماما لجهة التخلص منه، لكن عادة من يمسكون بالسلطة في أي مكان، فضلا عن ثلاث سلطات (فتح والسلطة والمنظمة) أن يروا حبة التهديد قـبّـة.
المشكلة أن عباس لا يرى في المصالحة مع حماس غير شيء واحد هو الانتخابات، ومن أجل تمريرها يمكنه أن يقدم بعض التنازلات، لاسيما أنه يعتقد بقدرته وحلفائه من اليسار على كسبها، وإن بنسبة محدودة في ظل نظام القائمة النسبية ووضع حماس المتعب، بل المستباح في الضفة الغربية، وبالتالي ستعود له الشرعية التي فقدها عام 2006.
ثمة شياطين لا تحصى في تفاصيل المصالحة، ولا أحد يملك إجابات مقنعة عن الكيفية التي يمكن أن تحل من خلالها، وهنا نقول إنه لا أحد ضد المصالحة، بل نتمناها من كل قلوبنا، ولكن بشرط أن تصبَّ في خدمة قضية الشعب الفلسطيني، لا أن تفعل العكس، فتضم قطاع غزة إلى الضفة الغربية في لعبة التنسيق الأمني والسلطة المصممة لخدمة الاحتلال.
قضية الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الشتات أكبر من فتح ومن حماس، ولا بد أن تكون مصلحتها هي العنوان الذي تتم على قاعدته المصالحة، وهنا يُطرح السؤال الجوهري، وهو هل يصبُّ المسار الذي يمضي فيه محمود عباس في خدمة القضية، أم يكتفي بتكريس مكاسب لحفنة من الناس ترفض المقاومة وترتاح لبطاقات “الفي آي بي” ولعبة الاستثمار والمال للأهل والأحباب.
يقولون إنهم لن يتنازلوا عن الثوابت، بما فيها حق العودة، لكن وثائق التفاوض تخبرنا بأن ما عرضوه على ليفني وأولمرت واعترفوا به يبدو كارثيا، وفيه شطب لحق العودة أصلا (عباس اعتبر أن كندا ستساهم في حل المشكلة!!)، ولا تسأل عن “أكبر أورشليم في التاريخ اليهودي” التي عرضها عريقات على ليفني, بينما رفضت حتى مناقشة عرضه لأن القدس غير قابلة للنقاش.
ولنفرض أنهم لم ولن يتنازلوا عما تبقى من ثوابت لم يتنازلوا عنها في مفاوضاتهم مع أولمرت وليفني. ألا يعني ذلك أن التسوية مستبعدة، وأن المفاوضات عبثية؟ ما الحل إذا؟ هل هو استمرار التنسيق الأمني وتكريس السلطة التي تخدم الاحتلال، مع ما يقال عن تعويل على الضغط الدولي لم يسفر عن نتيجة طوال عقود؟!
لا إجابة على ذلك كله، والانتفاضة الثالثة لن تندلع ما بقي عباس حيا كما قال بنفسه لنيويورك تايمز، فعلى أية قاعدة ستتم المصالحة سوى ضم الضفة إلى القطاع في هذه اللعبة البائسة؟!
مع ذلك، فنحن نقبل مثلا أن تكون المصالحة على قاعدة انتخاب قيادة فلسطينية للداخل والخارج تقرر مصير الشعب الفلسطيني ومساره، بينما تدار السلطة في الضفة والقطاع بالتوافق (ما الحاجة إلى هذه الديمقراطية البائسة في سلطة تحت الاحتلال؟!)، لكن ذلك يبدو مستبعدا أيضا، لأن ما يريدونه هو انتخابات سلطة تتحول قيادتها إلى ممثل لكل الشعب.
مع ذلك، دعوكم من تشاؤمنا، ودعونا ننتظر تفاؤل المتفائلين، ولتكن المصالحة، إذ سنعوّل بعدها على انتفاضة شعب لن يرضى بتغييب قضيته، إن بتسوية مشوّهة، أم باتفاق إطار أو تسوية مؤقتة تعني تصفيتها أيضا، أم ببقاء الوضع على حاله، ما يعني تجميدها أيضا.
العرب: ثورات وعنف وحركات تغيير
بقلم: شفيق ناظم الغبرا عن الحياة اللندنية
رغم مرور ثلاثة أعوام ونيف على الثورات العربية يتساءل الكثيرون عن طبيعة النتائج وما آل اليه الوضع منذ العام ٢٠١١ حتى الآن. فقد إحتل شبان عرب من دول عربية عدة سلسلة من الميادين العربية إمتدت من تونس ومصر الى البحرين واليمن وسورية وليبيا والمغرب. كانت تلك بداية إعلان جيل جديد دخوله على خط السياسة والتغيير. لكن نظراً لفقر الممارسة السياسية بسبب الموانع والقوانين والإحتكار الرسمي على مدى عقود جاءت المشاركة على شكل ثورات وإنتفاضات ذات طابع عفوي مفاجئ، وهذا كشف بدوره عن الممارسات القمعية ضد المتظاهرين وأوضح أمام المواطن العربي مدى عمق الفساد والإستئثار في النظام العربي. لقد فتحت الثورات الباب أمام الأجيال الجديدة والمهمشة وأوضحت مدى توق العرب للتغيير بعد طول جمود. وبينما يشعر الكثير من العرب، وخصوصاً في صفوف نخب متنوعة، بخيبات أمل من جراء ثورات العالم العربي، إلا أن الثورات لم تكن سوى بداية شائكة في طريق طويل ومتعرج الهدف منه السعي لبناء عالم عربي أكثر حرية وحرصاً على تنمية نفسه بنفسه في ظل قيم للعدالة والتعامل الإنساني تجاه كل مواطن. وعبر الثورات وميادينها إتضح مدى عمق الألم العربي، وإتضحت دموية أنظمة كالسوري والليبي مما دفع بالثورة السورية والليبية الى العنف المسلح. واتضح في الوقت نفسه أن لدى الشعوب حلماً (مهما بدا بعيداً) يحركها ويمدها بالطاقة والقدرة على التحمل.
لكن الشعوب الثائرة والأجيال الشابة لم تكن في وضع يؤهلها لإستلام سلطة بعد ثورة، فقد تفجرت الثورات عندما وصلت الشعوب الى لحظة غضب لا تؤجل ممزوجة بلحظة تفاؤل وحلم بمستقبل أفضل. لهذا شكلت الثورات بداية لوضع جديد. هذا الدخول المفاجئ والسريع الى عالم الممارسة السياسية لجماعات وأجيال وقوى وفئات من كل أطراف المجتمع مثل أكبر ثورة في الواقع العربي، وهو بطبيعة الحال أرعب الكثير من النخب المسيطرة وأخاف العديد من الأقليات، كما أنه فتح الباب واسعاً لأخطاء وسلوكيات وممارسات على أيدي القوى الجديدة سيمثل نقدها جزءاً من حالة إنضاج الممارسة السياسية لفئات شعبية لم يسبق لها ان شاركت في عمل سياسي. لقد مثلت الثورات أجرأ محاولة شعبية عربية للتعبير عن الحاجات والمطالب الشعبية والفردية التي لم تنجح الأنظمة العربية، المنشغلة بتعظيم نفوذها وسلطتها، في التعامل معها.
وفي كل ما وقع وحلّ بمنطقتنا لن نعود إلى النظام العربي القديم. لقد سقط هذا النظام في أماكن واهتز في أماكن وتناقض في أماكن أخرى بفعل ثورات الشعوب. كما أن فهمنا كعرب لدور الدولة ودور النظام السياسي ومكانة الحرية هو الآخر يتغير كل يوم، فمن الخضوع لدولة منحازة غير مساءلة تميز بين مواطنيها إلى البحث عن نظام سياسي عادل ودولة مؤسسات تقع المسافة بين الثورات والمستقبل. فلا سورية ولا مصر ولا أي من الدول العربية الأخرى ستستطيع العودة إلى واقع ما قبل 2011. فكل محاولة بهذا الإتجاه لن تعدو أكثر من أن تكون سعياً للتأجيل وشراء الوقت.
إن التحدي الأكبر أمام العرب يمكث في المستقبل وحساباته ومصاعبه في ظل التعامل مع قوى جديدة نشأت من رحم الواقع العربي. يجب ان يكون الهدف الأساسي والشغل الشاغل للأنظمة وللنخب إشراك هذه القوى والتشارك معها على قاعدة سياسية أكثر انفتاحا وإستيعابا في ظل عدالة واضحة وحرية مضمونة. إن النخبوية العربية والنظام الفردي الديكتاتوري بدأ يسقط مع الثورات، وهو حتماً مصاب بشيخوخة مزمنة، لهذا يسقط على مراحل عبر الإصلاح الطوعي (كما بدأ يقع في المغرب عبر إصلاحات الملك وحركة المجتمع) أو عبر الثورات في كل اطراف وأجزاء الوطن العربي.
إن الوعي يتغير والمعرفة تتغير، وما عدم قراءة هذا الواقع بدقة إلا تمهيد لانهيارات في أماكن لم تصلها الثورات. نحن فعلا نعيش خيارا قاسيا بين خوف النخب القديمة من جهة وبين إستحقاقات الإصلاح التدريجي من جهة اخرى، لكننا نعيش ايضا في ظل تناقض اصعب منه: فشل الإصلاح او السير في طريقه لن يؤدي إلا الى مزيد من الإنهيارات السياسية العربية.
لقد أراد عربي الميادين من الأجيال الشابة أن يكون وطنه العربي مكاناً للبقاء ومكاناً للبناء لا مكاناً للهجرة، ففي الكثير من البلدان العربية يتحول كل شاب وشابة وكل مواطن الى مشروع هجرة هرباً من التمييز الرسمي والقانوني الذي يعشش في الواقع العربي، وهرباً من سيطرة نخب مغلقة تحتكر الإقتصاد والسياسة وتمنع تكافؤ الفرص ولا تتواصل إلا مع من يشبهها.
لكن العربي الجديد اراد لنفسه الحرية ليكون مثل كل مواطن في مجتمعات العالم، أراد أن يعبر عن رأيه بحرية من دون أن يؤدي تعبيره إلى التعسف والفصل والتعذيب. ولو حصل وتظاهر وأثر على مجرى الحياة في بلاده، أراد من بلاده ومؤسسات الدولة أن تراجع نفسها وتعيد النظر في سياساتها قبل أن تنزل به العقوبات التي تعمق الجروح. أراد المواطن الذي إحتل الميادين أن تنحاز بلاده الى الحرية وإلى حقه في تغيير حكومته بصفتها حقاً طبيعياً وطريقة في إيصال الأفكار ونقد الأخطاء ومواجهة الظلم. أليست الحرية الضمان الأهم لمنع الظلم وللحد من التطرف؟
لقد نجح العربي الجديد في هز النظام العربي الذي همشه، وهذا ساهم في بناء الأرضية لمواجهة بين مبادئ الحرية ومبادئ الديكتاتورية، كما ساهم في بدء صراع مكشوف بين الماضي والمستقبل نرى صوره في سورية وفي مصر وفي أرجاء المنطقة العربية. صراع الإصلاح أو الثورة، وصراع الجيش أو الحكم المدني، والصراع على مكانة مدنية الدولة نسبة لإسلاميتها (تونس وغيرها) وصراع الحرية والعدالة والحقوق وحق تغيير النظام السياسي والإحتجاج مقابل الإستعباد والمصادرة أصبحت قضايا يناقشها الشعب ويتحرك من خلالها جيل الشباب.
لهذا يقوم العاهل الأردني بهذا الدور ويقف الأردن هذا الموقف!
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
الزيارة التي كان بدأها الملك عبد الله الثاني إلى الولايات المتحدة قبل أيام قليلة، يمكن اعتبارها زيارة مصرية بالدرجة الأولى، هذا بالإضافة إلى أنها زيارة فلسطينية وسورية؛ فالعاهل الأردني، الذي كان أول قائد عربي يصل إلى القاهرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو (حزيران) الماضي، بقي يشعر بأن الموقف الأميركي من النظام المصري الجديد، ومن المشير عبد الفتاح السيسي تحديدا، فيه الكثير من الضبابية وفيه الكثير مما هو غير مفهوم ولا يتناسب مع العلاقات التاريخية بين دولتين توطدت علاقاتهما وأصبحتا بمثابة حليفين على مدى الأعوام الماضية منذ أن قطع الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات علاقات بلده بـ«الاتحاد السوفياتي» السابق في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي.
صحيح أن الخارجية الأميركية تراجعت عن مواقف سابقة كانت قد اتخذتها بعد ثورة الثلاثين من يونيو الماضي، واعتبرت فيها أن ما جرى انقلاب عسكري ضد الديمقراطية، وصحيح أنها أعلنت أن الإخوان المسلمين «سرقوا» ثورة قام بها غيرهم، لكن، وبصورة عامة، فإن موقف الولايات المتحدة إزاء نظام مصر الجديد بقي تحيط به ضبابية غير مبررة وغير مفهومة، وبقيت واشنطن، وبطرق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، توجه انتقادات لاذعة إلى هذا النظام، وتتهمه بالاعتداء على الحريات العامة وحقوق الإنسان وبالتدخل بطرق وأساليب غير ديمقراطية في الإعلام وفي الحياة الحزبية المصرية.
وكذلك، فإنه صحيح أن الولايات المتحدة استأنفت، بعد انقطاع قصير، بعض مساعداتها الدورية السنوية إلى مصر، لكن بتردد ملاحظ وواضح وبعيدا عن فرضية أن الصديق من المفترض ألا يتخلى، بسبب بعض التعارضات وسوء الفهم، عن صديقه وخاصة عندما يواجه هذا الصديق تحديات جديدة، فالمثل يقول: «الصديق وقت الضيق». وحقيقة، إن من حق المصريين على أميركا ألا تبخل عليهم بالمساعدة التي يستحقونها وبلدهم يواجه هذه الظروف الصعبة التي يواجهها، وتحديدا على صعيد الجوانب الاقتصادية.
ولعل ما لا يدركه صانعو القرار - إنْ في البيت الأبيض وإنْ في الكونغرس الأميركي - أنه لو تأخرت ثورة الثلاثين من يونيو، وأنه لو أن القوات المسلحة المصرية توانت في الاستجابة لرغبة ومناشدات غالبية الشعب المصري وترددت في دعم هذه الثورة، التي لا يلْصق بها تهمة الانقلاب العسكري إلا متجنٍّ أو صاحب ارتباطات تنظيمية بالإخوان المسلمين - لكانت مصر الآن ترزح تحت حكم حزب استبدادي، لا يؤمن لا بالديمقراطية ولا بتداول السلطة، وكان قبل أيام من هذه الحركة الإنقاذية والتصحيحية، المباركة فعلا، قد اتخذ قرارات سرية بالسيطرة على السلك الدبلوماسي كله حتى بما في ذلك وزارة الخارجية، واستكمال السيطرة على الإعلام والحياة السياسية، وإزاحة كل جنرالات الجيش المصري الكبار وكل قادة الأجهزة الأمنية، والبدء بتشكيل نواة، أشرف على تشكيلها خيرت الشاطر، قوامها خمسون ألف عنصر من «شباب» الحركة الإسلامية لإحلالهم رويدا رويدا محل القوات المصرية، التي كانت بداياتها خلال ثورة عرابي باشا في عام 1882 واستمرت على مدى كل هذه العقود الطويلة إلى أن أصبحت بمستوى أهم وأكبر الجيوش العالمية.
والواضح أن أصحاب القرار في الكونغرس الأميركي وفي الإدارة لا يعرفون أن انقلاب الثامن من مارس (آذار) عام 1963 في سوريا الذي جاء بحزب البعث إلى السلطة واستمر بالهيمنة عليها حتى الآن، كان من صنع ثلاثة ضباط من العلويين، هم محمد عمران وصلاح جديد وحافظ الأسد، بمساندة أربعمائة بعثي مدني فقط، وأن هؤلاء الضباط الثلاثة، بقوا يتصارعون فيما بينهم إلى أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه في عام 1970 وأنهم واصلوا تصفية الأحزاب السياسية التي كانت قد رسخت تجربة برلمانية حقيقية منذ عام 1946، وبعد ذلك رغم الانقلابات العسكرية، التي ابتلي بها هذا البلد الذي كان طليعيا وواعدا في المنطقة، والتي بدأت بانقلاب حسني الزعيم في عام 1949 وانتهت بانقلاب أديب الشيشكلي الذي تبعه انقلاب «تقدمي» جر «القطر العربي السوري» إلى وحدة مع مصر في عام 1958، ما لبثت أن انهارت بعد نحو ثلاثة أعوام وثبت أنها غير مدروسة بما فيه الكفاية كما كان يطالب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الذي كان شديد الحذر في الذهاب إلى هذه الوحدة التي انتهت نهاية مأساوية.
والمؤكد أن العاهل الأردني في الأيام التي أمضاها بواشنطن، قبل الانتقال إلى كاليفورنيا للقاء الرئيس باراك أوباما، الذي من المفترض أن يلتقيه غدا، قد أجرى حوارات مطولة مع وزير الخارجية جون كيري ومع الكثير من الأعضاء القياديين والنافذين ورؤساء اللجان في الكونغرس الأميركي، تركزت أساسا على العلاقات المصرية - الأميركية وتطرقت بالطبع إلى الأزمة السورية وإلى المفاوضات الجارية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، فالملك عبد الله الثاني يعتبر أن مصر، بموقعها وبعدد سكانها وبتاريخها الحضاري وبإمكانات شعبها وبدورها الإقليمي والدولي المستمر منذ آلاف السنين، تشكل ركيزة رئيسية وأساسية في هذه المنطقة التي تواجه الآن تحديات فعلية كبيرة وخطيرة.
ثم، وإن المؤكد أيضا أن العاهل الأردني نقل قناعاته هذه إلى كيري وإلى أعضاء الكونغرس ورؤساء لجانه الذين التقاهم، وأنه سينقلها حتما إلى الرئيس باراك أوباما عندما يلتقيه غدا الخميس، وأنه حذر وسيحذر هؤلاء جميعا من أنه إذا خسرت الولايات المتحدة علاقاتها السابقة المتينة بمصر فإنها ستخسر وجودها الفاعل في الشرق الأوسط، وخاصة أن هناك دولا تنتظر على أحر من الجمر لتتحرك بسرعة وتملأ الفراغ الذي سيترتب على استنكاف الأميركيين وعدم مساندتهم هذا البلد العربي المحوري، الذي أدى انشغاله بنفسه في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى كل هذه الفوضى وإلى كل هذا الارتباك الحالي في المنطقة العربية.
لقد كان العاهل الأردني يدرك تمام الإدراك، عندما بادر وبسرعة وقام بزيارته التاريخية آنفة الذكر بعد ثورة الثلاثين من يونيو مباشرة، التي كانت أول زيارة يقوم بها قائد عربي إلى أرض الكنانة بعد هذه الثورة المباركة الميمونة، أن ترك مصر وحدها ستكون عواقبه وخيمة وأنه غير جائز أن يترك هذا البلد ليواجه المؤامرات والمتآمرين وحده. ومن هنا، فإنه على العرب.. العرب كلهم، أن يبادروا إلى ما بادرت إليه المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وأيضا دولة الكويت، وأن يعززوا صمود هذه الدولة العربية، التي إن هي كُبَّتْ - لا سمح الله، فإنه لن تقوم لهذه الأمة، وإلى سنوات مقبلة طويلة، قائمة.
وحقيقة، إن الأردن بقي يعتبر مصر الشقيقة الكبرى، حتى في تلك الحقبة المظلمة عندما كان هناك صراع معسكرات وكانت هناك المهاترات الإذاعية التي سممت العلاقات بين الأخ وأخيه، وإنه بقي يحرص كل الحرص على أنه لا يجوز لأي دولة عربية أن تحاول التطاول على الدور الطليعي لهذا البلد العربي، وإنه من الواجب والضروري ألا يترك الشعب المصري العظيم ليقلع شوكه بنفسه إذا تعرض لوعكة سياسية أو اقتصادية أو داهمته زعزعة داخلية.
وأيضا وللحقيقة، وهذا الكلام يجب أن يقال، إن الأردن شعر في عام العسرة الذي حكم فيه الإخوان المسلمون بأن مصر أصبحت مستهدفة برسالتها وبدورها وبمكانتها العربية والدولية، وأنه - أي الأردن - بات مستهدفا أيضا عندما رفع «إخوان» الإخوان المسلمين في المملكة الأردنية الهاشمية شعار «إننا قادمون»، وذلك بعدما أصبح محمد مرسي رئيسا وغدا الشيخ يوسف القرضاوي يتصرف كتصرف الولي الفقيه وآية الله العظمى في إيران وحيث بدأت القيادة الإخوانية المصرية تستغل إمدادات الغاز المصري إلى الأردن لدفع «الإخوان» الأردنيين لعدم التردد في استغلال الفرصة التي غدت سانحة والتهيئة للانقضاض على الحكم الأردني وفعل ما فعله «الإخوان» في مصر وفي تونس وما كادوا أن يفعلوه في دول عربية أخرى، من بينها ليبيا، ومن بينها أيضا هذه الدويلة الإخوانية البائسة في قطاع غزة.
لقد شعر الأردن، بعد وصول «إخوان» مصر إلى الحكم، بأنه غدا مستهدفا في نظام حكمه وفي كيانه أيضا، ولقد شعر بأن المنطقة العربية مقبلة على مرحلة استبداد حزبي أسوأ من الاستبداد الذي مارسه الحزب الأوحد - إن في العراق، وإن في سوريا، وإن في «جماهيرية» القذافي. ولذلك، فإنه - أي الأردن - قد بادر، وعلى عجل، وبسرعة، إلى الاعتراف بثورة الثلاثين من يونيو، على اعتبار أنها انتشلت أرض الكنانة من مستنقع آسن بدأت تغرق فيه، وأنها أنقذت المنطقة العربية بمعظم دولها من استبداد ديني، لا مثيل له إلا الاستبداد الديني الذي ضرب أوروبا في العصور الوسطى واستمر حتى اندلاع «الثورة الرأسمالية» التنويرية التي أوصلت الأوروبيين إلى أن ينعموا بهذه الديمقراطية الراقية التي ينعمون بها الآن بعد نجاح الثورة الفرنسية العظيمة.
الكون يحارب «داعش»... ولا يهزمها
بقلم: رومان كاييه عن الأخبار اللبنانية
في 3 كانون الثاني ٢٠١٤، قامت مجموعتان من الجيش الحر، دُعمتا لاحقاً بتحالف من المتمردين «المعتدلين» وسلفيي الجبهة الإسلامية، بتنفيذ هجوم على الدولة الإسلامية في العراق والشام.
باء هذا الهجوم بالفشل، رغم التفوق العددي للمهاجمين. بدت الدولة الإسلامية بعد أكثر من شهر قادرة على المحافظة على عدد من مواقعها.
رغم التبعية المعلنة لجبهة النصرة لتنظيم القاعدة، فإنّ مختلف مكوّنات حركة التمرد العلمانية منها كما القومية _ الإسلامية أو حتى السلفية ركّزت انتقاداتها على الدولة الإسلامية في العراق والشام [1].
تتلخص هذه الاحتجاجات في ثلاث نقاط أساسية:
ــ الدولة الإسلامية في العراق والشام تقاتل الثوار حتى الساعة.
ــ الدولة الإسلامية في العراق والشام لا تواجه النظام السوري.
ــ النظام السوري يتجنب مواقع الدولة الإسلامية.
يجدر أن نفرّق بين معارك الجنود على الحواجز، والتي يمكن أن تتطور إلى الأسوأ، وبين تصفية الألوية «العلمانية» الموالية للغرب، وهي الاستراتيجية التي أصبح من الواضح أن الدولة الإسلامية في العراق والشام تتبناها.
وفي هذا السياق، قاتلت الدولة الإسلامية لواء «عاصفة الشمال» المنتمي الى الجيش السوري الحر والمتمركز في مدينة «أعزاز» في الشمال الغربي من حلب، وطردته من المدينة منذ مطلع شهر تشرين الأول ٢٠١٣ [2].
بالمقابل، ولغاية إطلاق الهجوم على الدولة الإسلامية في العراق والشام، أول كانون الثاني، لم يكن بادياً أنّ هناك إرادة باستهداف قادة التنظيمات المتمردة الأخرى، على العكس كشف عديد الروايات أن العلاقات بين مختلف الفصائل كانت طيبة [3].
أغلب عمليات جبهة النصرة، قبل الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية في نيسان ٢٠١٣، كانت موجهة من قبل قادة دولة العراق الإسلامية والذين التحقوا في ما بعد بجناحها في الشام. وبذلك يكون الدفاع عن الأحياء المتمردة في حلب، «تحرير» مطار تفتناز العسكري قرب إدلب ومدينة الرقة يحسب في قسم كبير منه لصالح الدولة الإسلامية في العراق والشام.
كذلك قام أغلب المقاتلين الأجانب في كتيبة المهاجرين الذين احتلوا اللواء ١١١ في محافظة حلب بإعلان بيعتهم للدولة الإسلامية في العراق والشام.
ويمكن إحصاء سيطرة جنود الدولة الإسلامية في العراق والشام على مطار مينغ العسكري قرب أعزاز في آب ٢٠١٣ وعلى اللواء ٦٦ في محافظة حماه في أيلول من العام ذاته، بالإضافة إلى قتال الدولة الإسلامية لقوات النظام في مقاطعة حلب، على جبهات شيخ سعيد، نبل والزهراء، كويرس، عين عرب، نقارين الحرارية، خان طومان، معارة الأرتيق، وعفرين وفي محافظة دير الزور حول اللواء ١٣٧ ومخازن الأسلحة في مقاطعة عياش.
تلاقي مصالح كل من النظام و«الدولة»
تبيّن مراجعة بسيطة لبرقيات وكالات الأخبار لشهر كانون الثاني ٢٠١٤ أنّ سلاح الجو قصف عديد المقار التابعة للفصيل «الجهادي»، ما تسبب بمقتل عشرات المقاتلين في ١٩ كانون الثاني في الرقة [4] ومقتل قيادي سعودي مطلوب لدى الأنتربول في ٢٤ كانون الثاني في مدينة الباب شمالي حلب. بالرغم من ذلك، فإن هناك تلاقياً حقيقياً للمصالح بين النظام وهذا التنظيم، حيث تعطي سيطرة الدولة الإسلامية على العديد من «المناطق المحررة» ورؤيتها حول التطبيق الصارم للشريعة، بالإضافة إلى استقرار آلاف الجهاديين القادمين من العالم أجمع (مع عائلاتهم أحياناً) حجة ذات وزن للنظام في مفاوضاته مع الغربيين الذين يخشون هذه الظاهرة. وبذلك لا يكون استئصال الجهاديين أولوية استراتيجية لدى النظام.
أما بالنسبة إلى أبي بكر البغدادي، أمير الدولة الإسلامية في العراق والشام، والذي تتمثل أولوياته في تأمين استمرارية «دولته» المؤقتة التي هي في طور البناء، فإنه واع تمام الوعي بأن انهيار نظام دمشق سيقود إلى تكوين حلف ضده بصفة فورية يضم أغلب المتمردين السنّة وبقايا النظام العلوي، وحتى تدخل الطائرات من دون طيار الأميركية.
هذا السيناريو يستند في جزء منه إلى تاريخ دولة العراق الإسلامية، التي حاربت منذ مطلع ٢٠٠٧ كلّاً من الجيش الأميركي والقوات الحكومية العراقية والميليشيات السنية المعروفة باسم «الصحوات».
نموذج «الصحوات» العراقي
سبّب إعلان قيام دولة العراق الإسلامية والبيعة السياسية التي أرادت أن تفرضها هذه الأخيرة على مقاتلي الاحتلال الأميركي رفضاً «للدولة»، حتى داخل الإسلاميين أنفسهم. وكنتيجة لذلك ظهرت «الصحوات» التي طورها ودعمها الأميركيون بقوة عام ٢٠٠٧.
بالرغم من أنّ عديد الثوار السوريين يرفضون أن يتم نعتهم بالصحوات الجديدة، فإن الشبه كبير بين الوضع السوري والعراقي.
العناصر التي أدت إلى ظهور الصحوات في العراق موجودة في سوريا: مقاومة قوية من «الثوار السوريين» للسياسة المتسلطة للدولة الإسلامية في العراق والشام؛ وجود لاعبين خارجيين يوفرون مصادر تمويل وترسانة لكل من يقاتل الدولة الإسلامية. في سوريا، كانت المملكة العربية السعودية وتركيا المساهمتين بصفة مباشرة في نشوء هذه الصحوات، حيث تقوم الرياض بتمويل وتأطير الجبهة الإسلامية، بينما تدعم تركيا على وجه الخصوص جبهة ثوار سوريا التابعة لجمال معروف.
وفي ٢٢ كانون الثاني الماضي، وخلال مؤتمر «جنيف ٢» في مونترو، أكد رئيس «الائتلاف» أحمد الجربا أنّ الجيش الحر، وبالتنسيق مع بلدان صديقة عدة، قام بملاحقة إرهابيي الدولة الإسلامية في العراق والشام في محافظات: إدلب، حلب وحماه.
هذه الحرب تجد شرعيتها لدى الرأي العام السوري بسبب مقتل القائد في الجبهة الإسلامية أبي ريان، وذلك على يد عضو في الدولة الإسلامية أراد الانتقام لسقوط عديد المقاتلين الذين تمت تصفيتهم من قبل كتيبة أبي ريان في مسكنة [5]. ورغم ذلك، فإنّ تصريحات الجربا عن الانتصار في هذه الحملة على الدولة الإسلامية تبيّن أنها لا تعدو أن تكون إلا فشلاً.
انتصارات «الدولة»: انسجام أيديولوجي وتحالفات مع القبائل
بعد إعلان بدء هجوم «الثوار» مطلع كانون الثاني، قامت الدولة الإسلامية بهجوم معاكس ناجح، رغم التفوق العددي للمهاجمين ورغم دعم قوى المنطقة لهم. علاوة على ميزات مقاتليها وكفاءة قادتها العسكريين [6]، فإن الانسجام الأيديولوجي الداخلي للدولة الإسلامية يفسّر قدرتها على المقاومة. إذ تمثل الدولة الإسلامية فعلياً إلى جانب حزب الله القوة العسكرية الوحيدة الموجودة في سوريا، والتي رغم الاختلافات الثقافية واللغوية بين مقاتليها فإنهم ينتسبون إلى أيديولوجية واحدة وإلى البرنامج السياسي نفسه. هذه الوحدة تؤمن تنظيماً وانضباطاً على الأرض حاسمين عند المواجهة مع الجيش السوري الحر الذي يضم عسكريين منشقين وعصابات مافيوية وحتى عند مواجهة كتائب الجبهة الإسلامية التي يتقاسمها الإسلاميون المعتدلون والسلفيون [7]، حتى جبهة النصرة نفسها، لا تتمتع بهكذا تجانس أيديولوجي.
إن تغلغل التنظيم الجهادي في القبائل السورية يفسّر أيضاً قدرته على المقاومة، ولا سيما في معاقله في الرقة وجرابلس:
ــ في الرقة، بعض العشائر الطامحة إلى الاستقرار والمقتنعة باستحالة عودة نظام بشار الأسد لجأت إلى الدولة الإسلامية. وهذا أحياناً دون أي اعتبار أيديولوجي. حيث قامت عشيرة العفادلة، والتي كانت تتبع النظام، ببيعة الدولة الإسلامية في العراق والشام، بينما اختارت عشائر أخرى وضع أبنائها في كل الفصائل؛ من ضمنهم الدولة الإسلامية من أجل المحافظة على مصالحها. وعندما بدأ القتال في الرقة بين الدولة الإسلامية ومناهضيها، سحبت العشائر أبناءها من كلا الفريقين لتجنب الاقتتال في ما بينهم، وهو ما أجبر أعداء الدولة الإسلامية على الاستعانة بمقاتلين سلفيين من الجبهة الإسلامية من إدلب وحلب لدعم لواء ثوار الرقة المتحالف مع جبهة النصرة، التي لم تشارك بشكل مباشر في القتال ضد الدولة الإسلامية، رغم إعلان تصفية أميرها المحلي أبو سعد الحضرمي [8]. وقد استبق خسارة مواقع الجبهة الإسلامية انتصار الدولة الإسلامية في العراق والشام منذ التاسع من كانون الثاني والذي أصبح نهائياً بعد الرابع عشر من كانون الثاني بعد سقوط الرميلة آخر منطقة يسيطر عليها لواء ثوار الرقة.
ـــ في جرابلس، المدينة الواقعة الى الشمال الشرقي من حلب، استلزم الأمر أكثر من ١٠ أيام للقتال حتى تسترجع الدولة الإسلامية في العراق والشام نفوذها الكامل على معقلها، معتمدة في ذلك على عداوات قديمة بين عشيرتي المدينة: الجيس والطيء. حيث كانت عشيرة الجيس _ المرتبطة قديماً بالنظام، ثم من بعده مع الجيش الحر والمعروف عنها بأنها قليلة الالتزام الديني _ تهيمن على عشيرة الطيء المشاع عنها بكونها محافظة والتي التحق أغلب أبنائها بجبهة النصرة، ثم بالدولة الإسلامية في العراق والشام [9]. وفي تموز ٢٠١٢، عندما غادرت قوات دمشق جرابلس، أضحت كل من العشيرتين تتمتع بمشروعية ثورية حيث تعتمد عشيرة الجيس على عائلة يوسف جادر الضابط المنشق، والذي التحق بالجيش السوري الحر، قبل أن يموت كـ«بطل» في معركة الأكاديمية العسكرية في حلب، بينما كان للشيخ أحمد مصطفى المنتمي إلى عشيرة الطيء، وأحد أكثر الأئمة شعبية في جرابلس، ٣ إخوة سقطوا «شهداء».
لم يبايع الشيخ أحمد مصطفى رسمياً الدولة الإسلامية، إلا أن العديد من أبناء عائلته ومن بينهم أخوان له التحقا بالتنظيم مدعمين بذلك أحقية الطيء بتسيير مدينة جرابلس. انتهى الأمر باندلاع القتال بين العشيرتين بعد مقتل مجاهد أجنبي من قبل رجل من عائلة جادر من عشيرة الجيس. وقام أبناء عشيرة الطيء الموالون للدولة الإسلامية بطرد أعدائهم من جرابلس، وانتهى الأمر بهم إلى السيطرة على المدينة بالكامل في نهاية صيف ٢٠١٣.
وعلى ضوء هذه الأحداث، يجب مقاربة معارك كانون الثاني ٢٠١٤، التي كانت بين مقاتلي الدولة الإسلامية، التي تجمع كلاً من المتطوعين الأجانب وأبناء عشيرة الطيء من جهة، وبين عائلة الجادر الراغبة في الانتقام والمدعومة بجزء من عشيرة الجيس، بالإضافة إلى الأكراد من جهة ثانية.
وبعدما فوجئوا بهجوم 5 يناير/ كانون الثاني الذي ترسخ في مركز جرابلس الثقافي، تمكّن مقاتلو الدولة الإسلامية من كسر الحصار الذي فرضه الثوار بفضل وصول التعزيزات من حلب واسترجع المقاتلون السيطرة على المدينة بالكامل.
وفي جرابلس، كما الرقة وعلى الأرجح في مدن أخرى، أضحى السكان الراغبون في عودة الاستقرار والنظام إلى مدنهم يتكيّفون بطريقة أو بأخرى مع وجود مقاتلي الدولة الإسلامية في العراق والشام.
«في البداية، كان أبواي ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام، لكن اليوم هما يحبذان مواقفها المتسلطة على الفوضى التي تهيمن على المناطق التي يسيطر عليها الجيش الحر، صحيح أنه مع الجيش الحر كنا أحراراً في فعل ما نريد، لكن المدينة لم تكن مؤمنة ويمكن أن نختطف من العصابات بين عشية وضحاها» [10])
كما حصلت الدولة الإسلامية في العراق والشام أخيراً على بيعة عشيرة الحديدين الموجودة في شرق حلب وفي البادية (صحراء سوريا) وعشيرة بوعز الدين ذات الصلة بقبيلة العقيدات.
في محافظة دير الزور، ليس بعيداً عن الحدود العراقية، مكّنت السيطرة على هذه المحافظة الدولة الإسلامية من تأمين استمرارية ترابية تمتد من الفلوجة حتى ريف شمال حلب.
تجدر الإشارة إلى أنّ من المرجح أن يكون لتلك الولاءات القبلية أبعاد نفعية مادية، حيث تسبب استيلاء الدولة الإسلامية على حقل الغاز الطبيعي كونيكو في محافظة دير الزور بغضب قادة جبهة النصرة واندلاع المعارك بين الدولة الإسلامية وجبهة النصرة بصفة مباشرة لأول مرة.
بعد أكثر من شهر على بدء الهجوم ضدها، بدت الدولة الإسلامية قادرة على المحافظة على مواقعها في الرقة، في وادي الفرات وربما كامل شمال محافظة حلب في حال تمكن الجهاديين من كسر حصار أعزاز. وقد دحضت القيادة العامة لتنظيم القاعدة في بيان نشر في ٣ شباط ٢٠١٤ كل علاقة لتنظيمه مع الدولة الإسلامية، مؤكداً أن جبهة النصرة هي الذراع الوحيدة للقاعدة في كل من سوريا ولبنان حيث قامت بعديد العمليات.
السلفية الوهابية صناعة مخابراتية؟
بقلم: عدة فلاحي عن الشروق الجزائرية
يبدو أن الأجهزة المخابراتية هي صانعة التاريخ السياسي للأمم منذ أقدم العصور سواء في الدول المتخلفة أو العالم المتطور والمتمدن ولا ضير في ذلك مادام يحقق نتائج إيجابية، ودون ان نذهب بعيدا، يمكن القول أن المستعمرات الفرنسية والبريطانية ما كانت لتتوسع لدرجة أن بريطانيا سميت "بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس" لولا خدمات المخبرين الذين توفرت لديهم عدة مهارات وقدرات عسكرية أمنية وثقافية ولغوية متعددة، ومن مجموعة المخبرين التسعة الذين أوفدتهم بريطانيا إلى الشرق الأوسط الجاسوس همفر الذي بعث سنة 1710 إلى كل من مصر والعراق وطهران والحجاز والأستانة ليجمع المعلومات الكافية التي تساعد في القضاء على الإمبراطورية العثمانية وتمزيق وحدة المسلمين وتشتيت شملهم وزرع الفرقة والخلاف بينهم، وقد حمل هذا الجاسوس اسم "محمد" وتعلم الفارسية والعربية التي أصبح يتحدث بها بطلاقة حتى لا يكتشف أمره، وهو يتردد على محل أحد المقيمين بالبصرة (نجار) وكان اسمه عبد الرضا وقد كان شيعيا فارسيا من أهالي خراسان كما يخبرنا بذلك الجاسوس همفر في مذكراته، صادف كما يقول وأن التقى بشاب طموح اسمه محمد بن عبد الوهاب وما يجمع بينه وبين عبد الرضا الشيعي هو كرههما وعداوتهما للباب العالي (الخلافة العثمانية)..
ومما اكتشفه همفر في شخصية محمد بن عبد الوهاب السني هو استعداده بنفسه لدرجة أنه رأى بأنه قد وصل لرتبة المجتهد الذي لا يتقيد بآراء الخلفاء الراشدين أو يرجع إليها وتجاوزه كذلك لمذاهب الأئمة الأربعة وفقهاء المسلمين ومحدثيهم والاكتفاء بفهمه الخاص للقرآن والسنة وهنا يمكن القول أن الجاسوس همفر قد وجد ضالته التي كان يبحث عنها، وهي كيف يمكن تحويل هذه الشخصية المغرورة التي تحمل بذور الانشقاق والانفصال مع الفهم السطحي والبدائي للدين لصالح بريطانيا الاستعمارية ومن هنا بدأت القصة الدرامية لمؤسس السلفية الوهابية التي كان ضررها على الأمة أكبر من نفعها ولازالت للأسف الشديد هذه المرجعية تستخدم من طرف الغرب وأعداء الإسلام بما يتعارض والإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لقد استغل الجاسوس همفر كما دون هو ذلك في مذكراته غرور محمد بن عبد الوهاب ووطد صلته به وراح يثني عليه باستمرار ويعدد مواهبه الخارقة التي جعلها تفوق مواهب الخلفاء الراشدين ومن أنه لو عاصر الرسول (ص) لأوصى بأن يكون خليفة من بعده وبأنه اليوم هو المنقذ والمخلص للإسلام والمسلمين من الضياع وهذا لما يتمتع به من تحرر وشجاعة؛ ومن خلال هذا المدح والغزل الخبيث يقول همفر استطاع أن يقنع محمد بن عبد الوهاب الأعزب بمشروعية زواج المتعة وبأن تحريم عمر بن الخطاب رضي الله عنه لها لا يلزمه وبالتالي عقد قرانه لمدة أسبوع مع مسيحية كانت في الأصل مجندة لإفساد قيم وأخلاق الشباب المسلم عرفه بها همفر الذي كان يريد من وراء ذلك دفع محمد بن عبد الوهاب إلى مخالفة ما استقر في فقه السنة والجرأة على كسر الطابوهات وبذلك يسهل السيطرة على محمد بن عبد الوهاب وتوجيهه الوجهة التي تحقق الأجندة والمخطط السياسي الذي تسعى إليه بريطانيا الاستعمارية.
يقول الجاسوس البريطاني عن محمد بن عبد الوهاب بأنه شديد الانفعال وعصبي المزاج وهذه من المميزات التي تجعل الشخص سهل الانقياد وبالخصوص إذا كان يحمل مشروعا يريد له أن يتحقق في واقع الحال وهنا عرض همفر وبتوجيهات من المخابرات والخارجية البريطانية على ابن عبد الوهاب الدعم المالي والحماية من المضايقات التي قد يتعرض لها من الحكومات والعلماء حتى يستطيع نشر آرائه وأفكاره وإذا اقتضى الأمر حتى تزويده بالسلاح للدفاع عن نفسه حتى ولو اضطر الأمر إلى تأسيس إمارة صغيرة خاصة به في أطراف بلاد نجد، ولكن ذلك يتوقف على تحقيق جملة من الشروط التي نصحه بها همفر وهي أولا أن يكفر الشيخ محمد بن عبد الوهاب كل المسلمين واستباحة دمائهم ما لم يفقهوا التوحيد على مذهبه وثانيا الدعوة لهدم الكعبة باسم أنها من آثار الوثنية، وثالثا الخروج على طاعة الخليفة والمطالبة بمحاربته وبعزله ومحاربة أشراف الحجاز والتمرد عليهم، ورابعا هدم القباب والأضرحة بما فيها قبر النبي والصحابة، وهذا الذي كان من الشيخ بن عبد الوهاب الذي طبق خارطة الطريق البريطانية التي لم يسقط منها سوى الدعوة لهدم الكعبة، أما الباقي فقد نفذه بكل قوة فسادت الفوضى والإرهاب والفتنة ربوع الحجاز والشام وبذلك فرح الكافرون بنصر خبرائهم الذين جلبوا محمد بن سعود ليعقد حلفا أو تحالفا مع محمد بن عبد الوهاب والتأسيس للبذور الأولى لقيام المملكة العربية السعودية ذات المرجعية الوهابية السلفية وهذا الذي تحقق وهذا الذي نعاني من ويلاته اليوم وما ضاعت فلسطين وما ضاع القدس الشريف وأولى القبلتين إلا بسبب هؤلاء القوم الذين حولوا نساءهم وأموالهم إلى قبلة لهم، ولكن كل ذلك الملك هو بين أصابع بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي جاءت بنفوذها وسطوتها لاحقا لتقلب الكفة لصالح عزة وجبروت وسلطان المسيحية والمسيحيين، وإن أفصح همفر في عدة مرات عن إعجابه بتعاليم الإسلام التي أساء إليها حسب تحليله للأوضاع التي اطلع عليها في عين المكان آنذاك تتمثل في غرور الحكام وفسادهم وجهل العلماء بالحياة وجمودهم وعدم اهتمامهم بما يجري حولهم في العالم، وتفشي الفوضى والأمية والفقر والجريمة والقذارة والأوساخ المتفشية في المجتمعات الإسلامية!
كان الجاسوس همفر يتحدث كمسيحي في تدوين مذكراته وإن أظهر الإسلام أثناء أداء مهمته، كما أنه ورغم إعجابه بإعجاز القرآن لم يقتنع بنبوة محمد الذي كان يرى فيه الشخص القريب من النوبة في أخلاقه وعبقريته وفي ذكائه وفي علاقاته مع الناس وفي نفس الوقت يستغرب همفر من بقاء مبرر النزاع والخلاف بين السنة والشيعة رغم مرور كل هذه القرون التي غيبت المعنيين بالمسألة ولكن من التوصيات التي تلقاها همفر من مرؤوسيه هي التفكير والعمل على توسيع الشقة بين المسلمين وتفجير النزاعات وتوظيفها وليس جمع كلمتهم وبذلك يستطيع البريطانيون العيش في الرفاه الذي توفره لهم المستعمرات التي من بينها المستعمرات الإسلامية التي تحققت لهم بعدما حددوا نقاط ضعف المسلمين والتي كما سردها همفر في مذكراته نقلا عن تقرير الخارجة البريطانية وفي مقدمتها بتصرف واختصار؛ "الاختلاف بين السنة والشيعة وبين الحاكم والمحكوم وبين العشائر والقوميات، وتفشي الجهل والأمية وانعدام النظافة وخمول الروح وذبول المعرفة وفقدان الوعي والتعلق بالآخرة وترك سنن تعمير الحياة الدنيا واستبداد الحكام وعدم أمن الطرقات وانقطاع المواصلات إلا ما ندر وتدهور الصحة العامة وانسداد الأنهار رغم كثرتها وقلة المزارع، الفوضى في تسيير الشؤون الإدارية وعدم الانضباط وانتشار الفقر وعدم وجود جيوش نظامية مدربة ومسلحة واحتقار المرأة وهضم حقها والوساخة والقذارة في الأسواق والشوارع والأجسام وفي كل مكان..."، وهذه السلبيات التي حواها التقرير البريطاني في كتاب ضخم بعنوان "كيف نحطم الإسلام" درسه بكل تمعن الجاسوس همفر وغيره من الجواسيس المنتشرة في البقاع الإسلامية، أوصى بتوفير كل الوسائل المادية والمعنوية والبشرية لتكريسها وتعميقها، ومع ذلك يعترف همفر بأن هذه المساوئ التي سبق ذكرها كلها مناقضة ومعاكسة لما حذر منه القرآن وبالتالي السؤال المحير ونحن نقرأ هذا الجرد المخزي: ألم يعد يصدق علينا وفينا اليوم كذلك، وما الذي تغير خاصة وأن الخوف كل الخوف أن تصدق قاعدة أن نفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج، وإذا كان هذا هو حالنا، ألا يحق للغرب ولأهل الكتاب وأهل الأهواء والملل تحقيرنا والانتقاص من كرامتنا وتشويه ديننا وسمعة نبينا والطعن في قرآننا وأحاديث رسولنا؟
إن الاستعمار الغربي المسيحي استخدم خطة القضاء على الإسلام من الداخل ليسهل عليه استعباد أتباعه واستغلال أراضيه وخيراته، والغريب أن السكرتير البريطاني يقول بأن الأتراك كانوا أذكى وأفطن منهم حينما أشاعوا المحرمات والفوضى والشقاق والخلاف بين العرب ليسوسوهم وهذا هو الطريق السليم الذي يصل بنا إلى هدفنا الذي فشلت في الوصول إليه الحروب الصليبية، فهل بعد هذا الكلام الخطير نصدق دعاوى السلفيين من أن مذكرات الجاسوس البريطاني مفتعلة وباطلة ومن نسج الخيال ومن أن صاحبها مرة يقولون عنه بأنه شخصية مزيفة وصنيعة إعلامية وسياسية ومرة أخرى بأنه شيعي رافضي أراد أن يسيء للشيخ محمد بن عبد الوهاب ودعوته والإيحاء بأن المملكة السعودية هي صنيعة بريطانية؛ ولكن أين الحقيقة التي يجب أن يفصل فيها المؤرخون والباحثون بكل موضوعية واحترافية، وهنا أطالب أن يكونوا جزائريين معروفي الهوية، وإذا كان السلفيون بأمرائهم وعلمائهم ينكرون هذه الأقوال التي تهز عرشهم، فهل من حقهم التشكيك في الآخرين والقول مثلا بأن مؤسس الشيعة هو من أصل يهودي، ومن ان الإخوان هم كذلك صناعة بريطانية بعدما وصلوا إلى سدة الحكم بمصر؟ الأمر خطير وجلل ويحتاج إلى متابعة ونقاش واسع يسوده الإخلاص والتجرد والحكمة.
مصر نحو عصر رئاسي جديد
بقلم: أحمد الجارالله عن السياسة الكويتية
لا شك ان مصر اليوم على ابواب مرحلة جديدة, والانتخابات الرئاسية في جوهرها هي اختيار زعامة اكثر منها انتخابات عادية, وهناك غالبية شعبية عرفت مسبقا من تريد, لكن ذلك لا يمنع من ان تعبر عن تنوعها وخياراتها الديمقراطية التي سعت اليها من خلال ثورتي 25 يناير و30 يونيو, وتكرست في النتائج التي انتهت اليها الثورة الثانية.
من هنا يكون تعدد المرشحين للرئاسة دليل عافية في الحراك السياسي المصري, ومؤشرا على مدى قدرة هذا الشعب العظيم على اجتراح المعجزات, وإحباط مخططات التخريب التي تسعى اليها جماعات لم تعد خافية على أحد, وذلك من خلال جعل الصراع ديمقراطيا بامتياز, وليس صراع دم وتفجيرات وقنابل.
صحيح ان الدلائل كافة تشير الى ان المشير عبدالفتاح السيسي هو الاوفر حظا اذا اعلن خوضه الانتخابات, وهو لا شك سيعلن ذلك في الوقت المناسب, لكن هذا لا يعني ان تقتصر الانتخابات على مرشح وحيد, فالشعب الذي خرج بالملايين الى الشوارع, ولا سيما في 30 يونيو, كان مطلبه الاول منع السيطرة الاحادية على المشهد السياسي, وعدم احتكار جماعة "الاخوان" السلطة, خصوصا ان هذه العصابة وصلت الى الحكم بالسطو والتدليس, ما اثار مخاوف ملايين المصريين من انتكاسة تصيب الثورة وتوظف نتائجها لتحول مصر الى ديكتاتورية متخفية بالدين.
استنادا الى هذه الحقائق فان اعلان حمدين صباحي ترشحه للانتخابات الرئاسية خطوة جيدة, بل ان تعدد المرشحين تعبير عن موقف وطني يعزز فرص الحوار, ويمنع تزوير ارادة الناس من خلال الاكاذيب التي عمد "الاخوان" الى ترويجها حين اسقطتهم الملايين, ولا سيما كذبتهم عن ان ما جرى هو"انقلاب".
ان يكون هناك تنافس على الرئاسة, ذلك لا يمنع من الاعتراف ان المشير السيسي, وقد خبره شعبه, قبل ان تعرفه الدول العربية, وبخاصة دول"مجلس التعاون", هو الاوفر حظا, وهو الذي كشف في العديد من المحطات عن برنامج عمله, وبخاصة أنه جعل مصر كلها ورشة عمل من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها.
ورشة العمل هذه تحتاج الى الانضباط في العمل والسعي الى الانجاز, فالجنرال الذي قال في احد التصريحات:" اذا ارادني الشعب المصري ان اكون رئيسه فعلى الجميع الاستيقاظ الساعة الخامسة فجرا من اجل العمل, وان يرضى ايضا بأكل رغيف واحد في سبيل انهاض مصر" لن يكون مجرد رئيس بروتوكولي, بل هذا النوع من الرجال لا يشغله البروتوكول, فما تعلمه من المدرسة العسكرية هو ان يتفانى في البذل والعطاء والعمل, وعند ذاك لن يحتاج الى تسويق افكاره بين اهله وناسه, انما الشعب الذي منحه الثقة قبل ان يصبح رئيسا له سيتقبل اوامره الرئاسية بكل رحابة صدر, فالذي يعمل بإمرة الشعب, وينحاز اليه لن يخيب امله ابدا.
على ابواب الانتخابات الرئاسية الجديدة ليكن هناك العديد من المرشحين ولتكن المنافسة بين البرامج وليس عبر استغلال العواطف والحماسة, فهذه البرامج اذا اجتمعت تشكل افضل خريطة طريق للمرحلة المقبلة, وبالمناسبة نذكر ان المصريين ذاتهم طالبوا في العام 2011 ان تكون برامج المتنافسين الانتخابية يومذاك خريطة عمل ينفذها الرئيس الفائز, واليوم وفي ظل هذه الثقة الشعبية الكبيرة التي يحوزها المشير السيسي, لاشك أن خريطة الطريق تلك ستنقل مصر ليس الى مرحلة جديدة انما الى عصر جديد, لان مصر حجر الزاوية في العالم العربي, وما يجري فيها يؤثر في المنطقة ككل, لذلك فعندما اندحر فيها حكم "الاخوان" سقط مشروع هيمنتهم على الحكم في العالم العربي كله, وكذلك منها ايضا يمكن ان يبدأ عصر النهضة العربية الجديد.