1 مرفق
اقلام واراء عربي 24/05/2014
في هــــــــــــــــــــــذا الملف:
مسيحنا الفلسطيني الأنطاكي
عقل العويط – النهار اللبنانية
الإسرائيليون وميزانية جيشهم
برهوم جرايسي – الغد الأردنية
«الإخوان المسلمين» في فوهة البندقية
أسعد حيدر – المستقبل اللبنانية
قصة صعود «الجماعة» وهبوطها
عريب الرنتاوي – الدستور الأردنية
المنعطف المصري: الأولوية لإنقاذ الوطن والدولة
د. خطار أبو دياب – العرب اللندنية
لبنان بلا رئيس وحكومة وبرلمان
د .عصام نعمان – الخليج الإماراتية
عون ودعوته إلى "ثلاثيّة الأقوياء": عرض يستقي من الواقع ويستشرف المستقبل
ابراهيم بيرم – النهار اللبنانية
عراق ما بعد الانتخابات
يونس السيد – الخليج الإماراتية
ليبيا الجرح النازف في الضمير العربي
د . حسين حافظ– الخليج الإماراتية
مسيحنا الفلسطيني الأنطاكي
عقل العويط – النهار اللبنانية
من بين جميع الصور المحفوظة لفلسطين في ذاكرتنا الروحية والثقافية، وحدها صورة المسيح، الحرّ الثائر، تجسّد معادلة المكان المغتصَب، وتختصرها. هي هي صورته مسيحاً فلسطينياً مصلوباً وقتيلاً على يد قَتَلَته، لكنْ... منتفضاً عليهم؛ ومنتصراً، لا محالة، بسلطان الحرية. كلّ استعادةٍ لهذه الصورة، كلّ تعاطٍ سابقٍ أو راهنٍ مع وقائعها ومعطياتها، يرتبطان ارتباطاً عضوياً عندنا بالحقيقة الفلسطينية المطلقة؛ وهي أن فلسطين المغتصَبة ليست حقاً مكتسباً لمغتصبيها، بل هي لفلسطينييها، ويجب استدراج كل الوقائع والمعطيات القسرية الأخرى، إلى طاولة هذه الحقيقة - المعادلة. قد ترضخ السياسات للظروف الموضوعية، أما الصورة الرمزية هذه فلا تنال منها سياساتٌ ولا ظروفٌ موضوعية. انطلاقاً من هذا المعطى، نخاطب أسقف روما الذاهب إلى أرض المسيح المغتصَبة، حيث يلاقيه في أبرشيته، "شوقاً" و"واقعاً"، المتقدّم بين الأساقفة الموارنة على كرسيّ أنطاكيا.
ها أنتما تزوران؛ أيها السيّدان الأسقفان؛ أرض فلسطين المحتلة، وما يُطلَق على هذه الأرض، في لغة الاغتصاب، من تسميةٍ تَعَارَفت عليها "عدالة" العالم بأنها "دولة إسرائيل"؛ وذلك في غمرة ما يواجهه مسيحيو المنطقة العربية، والعرب جميعاً، من مآسٍ ومحنٍ وظلمات، وما يعتري مستقبلهم من قلقٍ جمٍّ على الوجود والمصير.
لا نجدنا في حاجةٍ إلى تذكير الزائرَين، بل فقط مَن يُستحسَن تذكيره، بأن ليس للصهيونية إرثٌ في فلسطين. نعتقد أن هذه المسألة يجب أن تكون واضحة، تاريخياً وسياسياً وواقعياً و... فلسفياً، وضوح الأيدي التي دقّت المسامير في جسد فلسطين. وهي جسد المسيح رمزاً.
لا نخفي القرّاء أننا نشعر بـ"ضعف" حيال أسقف روما. حتى لنرانا نخاطبه لا كرأسٍ للكنيسة الكاثوليكية في العالم؛ إنما كصديق. بل أكثر: كصديقٍ عتيق، يستحضر نموذجُه عندنا، أكثر ما يستحضر، صديقنا الأحبّ والأعزّ والأغلى والأعتق، الذي تعود علاقتنا به إلى ألفين وأربعة عشر عاماً، بالتمام والكمال.
لأسقف روما أن يرى ما يراه، في شأن هذه الزيارة؛ آخذاً في الاعتبار جملةً من الحقائق الدينية، والوقائع والمعطيات التاريخية والوطنية، ومعها جملةٌ من القضايا والاعتبارات اللاهوتية والعقائدية، ليس أقلّها أنه خليفة بطرس، وأنه وارث تاريخٍ طويلٍ وشائك، من صدامات الإيمان والحضارة والقيم والثقافة والعقل، بين اليهودية والمسيحية؛ فضلاً عما يستدعيه وجود المسيحية في الشرق خصوصاً، وفي العالم كله، معاً وفي آنٍ واحد، من دفاعٍ حتى الشهادة عن قيم الحقّ والعدل والحرية، وما يتطلّبه من خبرة التآخي والسماح ورحابة التلاقي بين المسيحية والإسلام.
لأسقف الكرسي الأنطاكي الماروني الذي يزور مرامي كرسيّه، شوقاً وواقعاً، في فلسطين المسيح، أن يرى ما يراه؛ لكنْ أيضاً بعيون أسلافه على السدّة الأنطاكية؛ وله أن يتكلّم بلغته؛ لكنْ أيضاً بلغة عقولهم وقلوبهم وألسنتهم وأيديهم وهواجس منعتهم؛ وله أن يتطلّع إلى ما يرتئيه من مخاطبات؛ لكنْ خصوصاً ما تفرضه مهابة السدّة من معايير الاقتصاد في التعبير والتحفّظ في إبداء المشاعر والانفعالات؛ فيستخلص خطابه من بلاغة الصامتين وعبقرية المتكلمين، ويجسّد التوق في عيون الأحرار؛ فيتوق إلى ما يتوقونه، ويفكّر في ما تفكّر فيه عقولهم، ويهجس بما تهجس به قلوبهم، مرتقياً إلى شجون العرب الأحرار، ومسيحيي لبنان والشرق؛ وهو المؤتمَن روحياً على أرضٍ أنطاكيةٍ، كانت ولا تزال، ويجب أن تبقى، أرضاً للمسيح، وأرضاً لفلسطين هذا المسيح الحرّ الثائر، مغسولةً من كلّ عارٍ صهيوني، ومن كلّ استسلامٍ عربي. هل نذكّره، بأنه مؤتمَنٌ روحياً على شعبٍ، اصطفى لنفسه خياراً واحداً وحيداً، يتمثّل، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، بحرية الانعتاق من كلّ ربقةٍ استبدادية؛ شقيقةً أكانت أم صديقةً أم حليفةً؛ فكيف بربقة "دولة إسرائيل" وبريقها العنصري الصهيوني المقيت؟!
ليس لنا، أن نُملي على السيّدين، الأسقف الروماني والأسقف الأنطاكي، ما نستسيغه وما لا نستسيغه في هذه الزيارة، التي، شخصياً، يُمِضّنا شقّها الأنطاكي الماروني، بصفتنا مواطنين، لبنانيين، عرباً، وأصدقاء معتّقين بالوجدان القلبي، لمسيح فلسطين الأنطاكية، الحرّ الثائر أبداً.
وإذا كنا لا نستسيغ الزيارة، فبسبب المستنقع الصهيوني – العربي؛ الاستبدادي الظلامي؛ الذي نحن فيه، لا لعلّةٍ فيها.
وإننا لا نخطّئها، ولا نتّهمها، البتّة، بأنها تطبّع مع الكيان الصهيوني، وتساهم في ترسيخه.
هذا الاتهام، وكلّ اتهامٍ مماثل، يقع في صفاقة الاعتداء على وجدان المسيح الفلسطيني الأنطاكي الحرّ الثائر؛ مثلما يقع في صفاقة الاعتداء على الكفاح المسيحي الروحي، الفكري، الثقافي، الحضاري، المعنوي؛ مثلما يقع، في الآن نفسه، في صفاقة السياسة؛ وهذه كلها دون طبائع الوجدان المسيحي الأنطاكي السرياني الماروني، ودون نزاهة الكفاح، ودون ثقافة السياسة؛ في حين أن مسألة فلسطين المسيح هي قبل السياسة، وبعدها؛ أي أنها في الجوهر الفلسفي للمعنى.
هي تُمِضّنا؛ لكننا نرى أن ليس من حقّ أحد أن يكون ضدّها، لأنه يكون يعطّل آنذاك جوهرها، ويكون جزءاً من آلةٍ تُخضِع المعنى للترويج والاستعراض، وتُفقده فلسفته.
كلّ ترويجٍ، كلّ استعراضٍ، ها هنا، ينقلان مسألة فلسطين المسيح، من كونها مسألة حقٍّ مطلق إلى كونها عملاً يقع في المستنقع؛ مستنقع الاعتداء على وجدان المسيح الأنطاكي، وهو نفسه مستنقع السياسة التعبوية الصهيونية، والسياسة التعبوية الممانِعة المضادّة، الفارغة من كلّ مضمون.
هذا النوع من العمل السياسي التعبوي الاستنقاعي، يجعلنا، بقوة التجاذب، على طرفٍ موازٍ للمغتصِب؛ ونحن لا نطيق هذا المغتصِب، مطلقاً، فكيف نطيق أن نكون معترفين به، ومُوازين له؟
إذا كنا لا نستسيغ مثل هذه الزيارات، غير الخاضعة عندنا للاتهام، فهل يمكننا أن نستسيغ الخطاب الترويجي الاستعراضي ضدّها، الذي ينزع عنها جوهرها، ويجعلها سلعةً في هياكل الصيارفة والتجّار؟!
لسنا عنصريين. لكننا لا نتحمّل عنصرية المغتصِب. هل نضطر أن نتحمّل، تحت وطأة هذا الابتزاز العنصري الصفيق، أن "يُباع" موقفنا المبدئي هذا، في عملية الاستغلال الصهيوني من جهة، والتسويق المضادّ من جهة ثانية، التي يمارسها طرفان، لا نقبل أن نكون أحدهما؟
هذان الطرفان، الأول الصهيوني من جهة، والثاني الترويجي الاستعراضي الممانِع، من جهة ثانية؛ لا نتحمّل أن نكون أحدهما.
نحن قَبْلهُما. ونحن بَعدَهُما. نحن فلسطين الفلسطينية العربية الأنطاكية المصلوبة الثائرة، ويجب أن أنزل عن الصليب، وأن أُحرَّر، وأُستعاد، بقوة الجوهر الخلاّق الحرّ الثائر؛ بقوة شروطه ومعاييره، لا بمداهنات السياسة الدولية الغاشمة، ولا بالتسويات المهينة، ولا أيضاً بخطاب الترويج والاستعراض الممانِع.
أيها السيّدان الأسقفان؛
تعاني دول الشرق، وفي مقدّمها فلسطين؛ لبنان؛ سوريا؛ العراق، مصر...؛ ما تعانيه من فنون الاحتلال والاستبداد والاستعباد والعنصرية والتخلف.
تعرفان تماماً أنه لم يعد ثمة مسيحيون في فلسطين، إلاّ القليل النادر منهم، بسبب الكيان الصهيوني الذي احتلّ الأرض، واغتصبها، وطرد أهلها، وهو الآن "يهوّدها" بطريقة عنصرية فاقعة، على مرأى من "العدالة" الدولية، والصمت العربي المتواطئ (ومحور الممانعة!)، وعلى مسمعٍ منها.
يحصل هذا، في وقتٍ لا يكاد يبقى مسيحيٌّ في العراق؛ وفي وقتٍ يواصل مسيحيو سوريا، ولبنان، والأردن، ومعهم مسيحيو مصر، الهجرة النازفة؛ الطوعية ظاهراً، لكن القلقة الهاربة ضمناً.
حتى ليتصوّر المرء، مستقبلاً افتراضياً، أبوكاليبتياً، يخلو فيه هذا الشرق، قريباً جداً، من مسيحييه.
فأيّ افتراضٍ أدهى من هذا الافتراض، يُرى فيه هذا الشرق، الذي هو أرض المسيح، والمسيحية الأولى، وقد أصبح أرضاً لا تطيق أن ترحب صدراً ومكاناً بالمسيحيين؟!
تتعدّد الأسباب؛ في مقدّمها اليد الصهيونية الغاصبة، تواكبها وتؤازرها يد الاستبداد السياسي والأمني والعائلي الديكتاتوري، ويد الاستبداد الظلامي الديني. وهما يدان توأمان.
أما النتيجة فواحدة: تفريغ الأرض من مسيحييها.
هذه ليست إهانةً لوجدان المسيح، وللمسيحية فحسب؛ بل هي عارٌ، كيف يتحمّله أهل الممانعات الفارغة، لكن الملأى باستعراضات الترهيب الفكري والمادي، والابتزاز الديني، والرياء السياسي، والتجارة الرخيصة، والصفاقة العارية؟
الصهيونية ومريدوها، سيكونان في العيد العظيم، عندما "يتحرّر" الشرق من المسيح الفلسطيني الأنطاكي، ومن مسيحييه.
أيبتغي السادة الممانِعون أن يعيّدوا مع الصهيونية عيد "التحرير" هذا؟!
ليس عندنا ما نضيفه في هذا الصدد، لا إلى الأسقفَين الزائرَين، ولا إلى أهل الممانعة.
فليذهب صديقنا فرنسيس إلى حيث يريد. نرجو له أن تظلّ تعصمه جروح مسيح فلسطين، وهو يمشي في الأرض التي تغمرها الآن ظلاميات الصهيونية الغادرة.
أما الزائر الأنطاكي فله نواحي أنطاكياه المارونية، شوقاً وواقعاً. فليزدها منعةً ورسوخاً وحرية؛ وليهجس بما كان يهجس به "ملفان" الكنيسة الأنطاكية، العلاّمة اللاهوتي الشاعر الخوري ميشال الحايك في قوله: "أنـــا آرامــــي ســــريـــانـــي مــــارونــي أنــطـــــاكــي بــيــــزنــطـــي رومـــــانـــي لــبـــــنــانـــي عــــربـــي إنــســـــانـــي".
بمثل هذا الهجس الزائر، لا بدّ أن يجد أنطاكيو فلسطين عزاءً وبلسماً وحضّاً على الرسوخ في الأرض. هذه هي رسالتهم الفلسطينية الأنطاكية. وهذه هي حقيقة مسيحهم الفلسطيني الأنطاكي.
ألا يجب أن نقول: بهذا الرسوخ وحده يُنزِل الراسخون في الأرض الفلسطينية، مسيحهم الفلسطيني الأنطاكي من عن صليبه؛ في فلسطين، وفي سواها من أمم العرب الموجوعة؛ ليعود حرّاً، كما يليق بالحرية أن تستقبل مسيحها!
الإسرائيليون وميزانية جيشهم
برهوم جرايسي – الغد الأردنية
مرّة أخرى، يقف الرأي العام الإسرائيلي أمام مسرحية سنوية مكرورة: "الجدل الحاد" حول ميزانية الحرب. إذ يطالب الجيش الآن، كعادته، بزيادة الميزانية، بينما غالبية الحكومة تبدي اعتراضا. والنتيجة منذ الآن معروفة ومؤكدة: سيحصل الجيش على كل ما يطلب وزيادة، والجمهور الإسرائيلي الذي يدفع ثمن ميزانيات الحرب والاحتلال والاستيطان، على قناعة تامة بأن هذا هو صمّام الأمان الوحيد لوجوده ووجود كيانه. وهذا انطباع تبثه الحركة الصهيونية منذ عشرات السنين، ويبتلعه الجمهور من دون اعتراض.
تبلغ ميزانية جيش الاحتلال المباشرة ما بين 16 مليارا إلى 17 مليار دولار سنويا، يضاف إليها الدعم الأميركي السنوي بنحو 3 مليارات دولار. وعادة، فإن الميزانية المباشرة التي يقرّها الكنيست تقل عن هذا بأكثر من مليار دولار، إلا أنه بعد إقرار الميزانية، يتلقى الجيش سنويا زيادات دورية من الاحتياطي الذي يتكدّس في الموازنة العامة.
وتقتطع ميزانية الجيش المباشرة نحو 19 % من الموازنة العامة. لكن سلسلة من الأبحاث الإسرائيلية التي صدرت على مر السنين، بيّنت أن فاتورة الحرب والاحتلال والاستيطان، بما يشمل كل مصاريف "الأمن" التي تدفعها عدة وزارات بأشكال مختلفة، تقتطع نحو ثلث الموازنة العامة، علما أن ثلثا آخر يذهب لتسديد الديون والفوائد، التي منها ما صُرف أيضا على الجيش والاحتلال، وهذا ما يُقرّب نسبة الصرف العسكري والاحتلال العام إلى 45 %.
وكانت الموازنة العامة للعامين الماضي والحالي (2013 و2014)، قد نصت على تقليص ميزانية الجيش بالإجمال، بنحو 1.6 مليار دولار. لكن قبل أن ينتهي العام الماضي، كانت الحكومة قد ألغت كل التقليصات، ورفعت ميزانية الجيش قليلا. ويطالب الجيش اليوم بزيادة إضافية تفوق 600 مليون دولار. ويأتي هذا المطلب قبل أن تبدأ الحكومة بالتداول بميزانية العام المقبل 2015. ولهذا الغرض، تبدأ قيادة الجيش مدعومة من وزيرها موشيه يعلون، بإطلاق التهديدات، مثل وقف التدريبات العسكرية، وإلغاء صفقات تسلح، وما إلى ذلك؛ الأمر الذي يُحرّض الجمهور الغارق في "الخوف من الغير"، بموجب الدعاية الصهيونية، على تأييد الجيش في مطلبه.
واللافت في الجدل الدائر في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن لا أحد يتطرق إلى حجم صفقات التسلح الضخمة التي تصل سنويا إلى مليارات الدولارات، ولا إلى كلفة الجيش جراء الاحتلال؛ بل تركّز الصحافة، ومعها عدد من الساسة، على بند الرواتب والتقاعد والامتيازات المالية للجنود، ولكن بالأساس للضباط وقيادة الجيش العليا. وهذا أيضا لا يجد تعاطفا لدى الرأي العام، ففي نهاية المطاف هؤلاء الجنود والضباط هم مواطنون. وعلى الرغم من أن إسرائيل توقفت منذ سنوات عن إصدار معطيات حول عدد الجيش النظامي، إلا أنه حسب التقديرات، يتراوح ما بين 220 ألفا إلى 250 ألف جندي وعامل في جيش الاحتلال، يشكلون 8 % تقريبا من القوى العاملة في إسرائيل.
وكما في كل جولة من هذا الجدل المتكرر، نشهد "عنتريات" من عدد من الوزراء، وخاصة من وزير المالية. إلا أن السيناريو المعروف والمتوقع في الفترة القصيرة المقبلة يقول، إننا سنقرأ عن "تقارير عسكرية خطيرة" حول تهديدات وشيكة على إسرائيل، واجتماعات طارئة لقادة الحكومة، تخرج بالقرار المعروف: يجب ضمان جاهزية الجيش لمواجهة التحديات. وبذلك يتم تسديد كامل الفاتورة التي يطلبها الجيش.
كما سبق القول، فإن الجمهور في إسرائيل يدفع ثمن هذه الفاتورة. وصحيح أن سياسة التمييز العنصري الموجهة ضد فلسطينيي 48، تخفف من الضربات الاقتصادية التي يتلقاها الجمهور اليهودي في إسرائيل، إلا أن هذه السياسة باتت قريبة من القاع، بشكل يستوجب الوصول إلى جيب المواطن اليهودي أيضا. ولكن هناك شك كبير في أن يستنفر اليهود في إسرائيل ضد هذه السياسة الاقتصادية، بسبب القناعات المترسخة لديهم، بأن الجيش هو ضمان وجودهم، وضمان كيانهم. لكن يبقى السؤال: إلى متى؟
«الإخوان المسلمين» في فوهة البندقية
أسعد حيدر – المستقبل اللبنانية
الحرب ضدّ «الاخوان المسلمين» مفتوحة، والمصالحة إن لم تكن ممنوعة، فإنّها مستحيلة. سيدفع «الاخوان» الثمن غالياً، على جميع المستويات، بعد أن كانوا على «قاب قوسين»، من الإمساك بالسلطة بأبرز المراكز ومفاتيح القرار ورسم المسارات في العالم العربي.
مصر هي مركز التجربة «الاخوانية». فشل هذه التجربة لم يتم بقرار. لأوّل مرّة لا يمكن للاخوان اتهام «الشيطان الأكبر»، أي الولايات المتحدة الأميركية، بالعكس. حتى الآن تبدو الإدارة الأميركية وكأنّها تلقّت «صفعة» كبيرة ومؤلمة بسبب فشل المشروع «الاخواني« في مصر التي ترسم حوادثها وتطوّراتها مسارات المنطقة حتى وهي معزولة. انتقال «الاخوان« من «ظلام» العمل تحت الأرض، إلى أضواء السلطة المبهرة، أصابهم بعمى الألوان، فأسرعوا في «القبض» على السلطة من دون الأخذ بالاعتبار أنّهم يشكّلون أقل من ربع المجتمع المصري حتى بتحالفهم مع «السلفيين» الذين يقفون مع السلطة. يوجد فرق كبير لم يأخذ به «الاخوان«، بين حجاب المرأة، و»تحجّب الدولة»، تنتج تجربة إيرانية يكون مرشد «الاخوان« فيها «الولي الفقيه».
يبقى الأسوأ وهو ما برز أكثر فأكثر بعد ثورة 30 يونيو في مصر، وفي ليبيا. تحوّل «الاخوان» إلى «عباءة» و»ملجأ» لكل التنظيمات المتطرّفة التي بعضها جزء لا يتجزأ من «القاعدة» وفروعها. هذه العلاقة المنطلقة من قاعدة فكرية واحدة وإن تفرّعت وتدحرجت عميقاً في مجاهل التطرّف الدموي، جعلت «الاخوان» كما هم اليوم في «فوهة البندقية».
الجنرال خليفة حفتر، يتقدّم مع قوّاته بسرعة باتجاه طرابلس لحسم الأوضاع والإمساك بالسلطة. ما يقوم به ليس وليد اليوم، وإنّما نتيجة إعداد مبرمج ومنفّذ منذ عامين كما يؤكّد بنفسه. «كمّاشة» حركته، تقوم على «فكّين»:
[ الداخلي، وهو أنّ «الثورة وصلت إلى طريق مسدود»، وأنّ «الضالين« بقيادة «الاخوان المسلمين« هم السبب بالوصول بليبيا إلى حافة الانهيار.
[ الخارجي وهو متداخل مع الداخلي، إذ «إنّ الجيران وهم مصر والجزائر وتونس شكوا ويشكون من الوضع»، حيث «الخصم فيه واحد وهم الاخوان»، لذلك «كي نعيش ويعيش جيراننا بأمن واستقرار، نقوم بعملية التطهير الحالية».
هذه «الشراكة» في الخصومة تنتج «الشراكة» في المواجهة. مصر التي تعيش خطراً قائماً ومؤلماً، والجزائر التي تعيش على وقع خطر دائم مثله مثل «البركان« الذي يخبو ليعود وينفجر، وتونس التي تحوّلت رغم عقلانية «النهضة» وبراغماتية راشد الغنوشي تعيش على وقع مواجهات واغتيالات خطيرة على أمنها واستقرارها.
وحده الهدف في ضرب «الاخوان المسلمين» وما تحت «عباءتهم»، أزالت التنافس والخصام بين مصر والجزائر. لا شك أنّ مصر معنية أكثر بكثير من الجزائر، ليبيا همّ مصري داخلي.
الحرب ضدّ الإرهاب في مصر يومية. ليبيا «خزّان» سلاح ومقاتلين بهويّات مختلفة. لكن أيضاً في ليبيا حوالى مليون مصري. أمنهم وسلامتهم ليست الجسدية فيها فقط، وإنّما أيضاً الفكرية والسياسية. ليبيا تحوّلت إلى «مصنع» للفكر الظلامي الذي لا يعرف إلاّ التكفير والسلاح لغة للتعامل اليومي.
الدواء يلزمه أحياناً دواءً مضاداً لدى «المريض«. في حالة المواجهة مع «الاخوان»، يوجد خطر قائم وهو عودة العسكر إلى السلطة. ما نجح الربيع العربي في إسقاطه، وهو حكم «العسكر»، تعيد التجربة القصيرة لـ»الاخوان» في السلطة إنتاجه من جديد.
«الاخوان» استثمروا الربيع العربي وصناديق الاقتراع للاستيلاء على السلطة وفرض «سلطتهم»، التي لا تسمح بالشراكة مع أحد، فأصبحوا في فوهة البندقية. الخوف الآن أن يعيد العسكر الماضي فيفرضون فاشية جديدة. رغم هذا الخطر ما زال بصيص أمل لدى الشباب منطلقاً من دروس التاريخ. بعد الثورة الفرنسية استولى نابليون على السلطة، ثم زال، لتدخل فرنسا مساراً طويلاً غنياً بالحوادث وصولاً إلى الديموقراطية.
كل شيء ممكن، في العالم ومنه الشرق الأوسط حيث السرعة في الحوادث تختصر المراحل.
قصة صعود «الجماعة» وهبوطها
عريب الرنتاوي – الدستور الأردنية
بدت السنوات العشر الفائتة، “عشرية ذهبية” لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي والإقليم، سجلت خلالها الجماعة صعوداً غير مسبوق، لا في حجم نفوذها وشعبيتها في العديد من دول المنطقة ومجتمعاتها، بل وأمكن لها أن تصل للسلطة في عدد من الدول الكبيرة والصغيرة، ما جعل منها، قوة لا رادّ لها، أو هكذا كان يُظن، ولهذه الظاهرة جملة أسباب، لا يتسع “المقام” حتى لمجرد ذكرها أو المرور عليها.
بدأت القصة من تركيا، بتسجيل نجاح لافت لحزب العدالة والتنمية في الوصول إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع ... وشهدت عدة دول عربية انتخابات برلمانية، سجّل فيها الإخوان نتائج مهمة ... في غزة 2006، أوصلت الصناديق حماس إلى السلطة، وحقق العدالة والتنمية في المغرب، نتائج في انتخابات تشريعية “مضبوطة” على إيقاع المؤسسة الملكية النافذة هناك ... وفي العراق، كان الحزب الإسلامي شريكاً ومكوناً رئيساً في سلسلة الحكم، منه جاء نائب الرئيس ومنه أيضاً جاء رئيس البرلمان، والحكاية ذاتها، تكررت بكثير من التشابه في عدة دول أخرى.
إلى أن جاء الربيع العربي، وحمل على “بساطه الطائر” الجماعة إلى سدة الحكم في أكبر وأهم بلد عربي، وقبلها كان إخوان تونس، يتولون مقاليد الحكم بالشراكة مع مكونين ضعيفين نسبياً ... أما ليبيا، فقد حققت الجماعة اختراقاً ملموساً، وهي وإن لم تحل أولى في نتائج الانتخابات، إلا أن مآلات الأزمة الليبية وتطوراتها، جعلت منهم فريقاً لا يشق له في حسابات السياسة الليبية، وفي المغرب، تحوّل “التقدم” الذي حققه حزب العدالة في انتخابات سابقة، إلى “اختراق” مكّنه من تشكيل الحكومة بالشراكة مع “الاستقلال” قبل أن انسحاب الأخير، واستئناف الإسلاميين الحكم بالشراكة مع “الشيوعيين”، ممثلين في “التقدم والاشتراكية”.
قرأنا كغيرنا، هذه الموجة الصاعدة للجماعة الإسلامية، وقدّرنا أن المنطقة ستدخل “عشرية الإخوان المسلمين” ... يومها اعترض علينا بعض السياسيين قائلين: إنه “عصر الإخوان”، فهيهات أن يخرج هؤلاء من السلطة، وقد وصولوا إليها بعد طول انتظار ... لكن رمال هذه المنطقة المتحركة بسرعة قصوى، تأبى أن تُبقي شيئاً على حاله، وتصرُّ على أن تدهشنا صبيحة كل يوم، بمفاجأة تكاد تأتي على جميع تدرجات مقياس “ريختر” لقياس الزلال والهزات الأرضية.
قوى كثيرة، بعضها عواصم نافذة، لم يرقها وضعاً كهذا، نظراً لإدراكها العميق، بأنها لن تكون الاستثناء، أو الخروج عن قاعدة “العشرية الإخوانية”، فالإخوان بين ظهرانيهم كذلك، ... فكان أن اشتعلت الأضواء الحمراء في مختلف العواصم التي لم تلفحها رياح الربيع العربي ... وقد وفرت الجماعة، وفي وقت قياسي لم نكن نتوقعه، كل الذرائع والأسباب، التي مكنت خصومها من تسريع الانقلاب عليها ومطاردتها، وانتزاع رايات النصر من بين أيدي قادتها، بل وإعادة الكثيرين منهم إلى سجونها، التي خبرها هؤلاء، لسنوات وأحياناً لعقود طوال.
وخلال فترة قصيرة نسبياً، لا تزيد على عام واحد إلا قليلا، كان إخوان مصر يغادرون السلطة، تحت ضغط الشارع والجيش في 30 يونيو والثالث من يوليو ... وكان إخوان تونس، يستلحقون أنفسهم بمغادرة السلطة “توافقياً” قبل أن يضطروا إلى مغادرتها تحت الضغط نفسه ... وكانت ليبيا تتحضر لحملة شاملة ومنظمة لمطاردة الإخوان، توّجها اللواء خليفة حفتر بتحركه العسكري السريع ... وكانت حماس تستعجل المصالحة، وتسليم مقاليد السلطة حتى لحكومة يرأسها رامي الحمد الله، مبدية الاستعداد للعودة إلى “قواعد” قوتها التقليدية وأدوات نفوذها الفصائلية، لا الحكومية ... أما تركيا، فلا أحسب أن رئيس حكومة في العالم، يكابد “الشقاء” كما يفعل أردوغان، الذي ما أن يخرج من أزمة، حتى يدخل في غيرها، لكأن سنوات صعوده قد انتهت، وحانت لحظة هبوطه الاضطراري على مدارج الأزمات والفضائح والفشل.
أما المغرب، فلا ندري كيف ستؤول التطورات فيها، فللتجربة سياقاتها المغايرة ... إسلاميون يتولون الحكم تحت ظلال مؤسسة ملكية قوية ونافذة ورؤيوية ... قوى سياسية وحزبية ومدنية، وازنة، قادرة على توفير “المعادل الموضوعي” للإسلاميين ... ونظام انتخابي يحرم أي حزب سياسي من الحصول على الأغلبية المطلقة للمقاعد، تؤهله الحكم منفرداً ... لكن خسائر الإخوان المتتالية في عواصم المنطقة والإقليم، لا شك ستنعكس بصورة سلبية على نظرائهم المغاربة.
لا ينبغي على الإخوان، الاكتفاء بتعليق سبب تراجعهم وخسارتهم لـ “ملكهم” إلى نظرية المؤامرة ... المؤامرة موجودة، وبعض الأنظمة والحكومات لا تريد الإخوان، لا لأنهم جماعة متطرفة أو إرهابية، بل لأنهم جماعة منظمة ونافذة وقادرة، ربما وحدها دون سواها، على المنافسة ... على الإخوان الاعتراف بداية بأنهم ماهرون في الوصول إلى السلطة وقادرون على ذلك، بيد أنهم عاجزون عن الاحتفاظ بها، والعمل وفقاً لمنطقها وآلياتها وحساباتها.
إن لم تكن قصص الفشل المتلاحق والهزائم المتتالية، سبباً كافياً لإجراء المراجعة، فلن تتوافر لجماعة الإخوان فرصة مماثلة في المدى المنظور لفعل ذلك ... إن لم يكن مسلسل الأخطاء والخطايا التي قارفوها في الحكم، وفي أوقات قياسية، سبباً وجيهاً للتقييم والتقويم، فلن تكون هناك سانحة أخرى لفعل ذلك على ما نظن ... حديث المؤامرة يمكن أن يستمر لمائة عام قادمة، لكن ما ينفع الناس ويبقى في الأرض، هو أن “تجرؤ” الجماعة على إجراء المراجعات المطلوبة، وهذا أفيد لها ولمجتمعاتها وللدول والأوطان التي تحمل هويتها، فهل تفعل؟
المنعطف المصري: الأولوية لإنقاذ الوطن والدولة
د. خطار أبو دياب – العرب اللندنية
في مصر «أم الدنيا» وقلب العالم العربي والبلد المركزي فيه، لا تتوقف حركة التاريخ الهادرة ويستمر «الهرج والمرج» والعنف والمخاض الثوري في مسار ستكون نتائجه حاسمة بالنسبة إلى مستقبل مصر كيانا ودولة، وكذلك بالنسبة إلى مجمل العالم العربي والشرق الأوسط.
من دون مواربة قال المشير عبد الفتاح السيسي، إنه ليس مقتنعا بأن البلاد جاهزة بعد للديمقراطية، مشيرا أمام رؤساء تحرير صحف مصرية إلى أنه ربما سيكون على مصر أن تنتظر من “20 إلى 25 سنة لتحقيق ديمقراطية كاملة”. هكذا في مواجهة المعارض التاريخي حمدين صباحي الذي يقول إنه الممثل الشرعي لثورة 25 يناير 2011، يظهر السيسي بدور “المنقذ” الملبي لإرادة جماهير يونيو 2013 في وضع حد لحكم “الإخوان المسلمين” بتحالف بين الجيش- غير المنخرط في أي حرب أهلية- وبين مصريين عاديين ونخبة مدنية علمانية ليبرالية موجودة في الحياة السياسية.
في صراع الإرادات الدائر في مصر يتبيّن صعوبة الخروج من الدائرة المغلقة من الصراع بين الأنظمة المستندة إلى المؤسسات العسكرية والأمنية من جهة، والتيار الإسلامي من جهة أخرى. بالإضافة إلى الأثر على الاستقرار وتطور النظام السياسي المصري، ربما ستكون التجربة الراهنة معيارا لإعادة تركيب النظام الإقليمي العربي الذي تهاوى ما بعد حرب العراق عام 2003، بعدما سبق له تلقي ضربة في الصميم عند خروج مصر من جامعة الدول العربية إثر توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل.
يجدر التنويه بأن مصر في عهد حسني مبارك كانت محط اهتمام وقلق عند الكثير من الدوائر الأوروبية المختصة التي كانت تعرب عن خشيتها من الجمود وغياب العمل والحلم عند الشباب، وكانت تعتقد بأن الأزمة البنيوية لنظام مبارك من جهة، ناهيك عن بروز طبقة متوسطة مع بدء الانخفاض الديمغرافي والنجاح في محو الأمية من جهة أخرى، ستعجلان بالتغيير.
بالإضافة إلى ذلك كان غياب الدور الخارجي المستقل والمناسب لحجم مصر من نقاط الضعف التي تعيق أيضا بلورة سياسات تنمية بعيدة عن التبعية. والمشكلة أن هذا البلد الذي يمتلك الكثير من عناصر القوة في العالمين العربي والإسلامي وفي حوض البحر الأبيض المتوسط وفي أفريقيا، بقي مفتقدا لإستراتيجية تجعله محرك النظام الإقليمي، وليس فقط ممرا للسلام كما تصوره هنري كيسنجر بل الضامن للأمن القومي العربي والخلفية الحصينة للدول العربية في الخليج. بعد البدايات المبشرة للحراك الثوري عملت عدة قوى على استيعابه أو تحوير مساره. بيد أن المبالغة في التجاذب بين التيارين الإسلامي والمدني، كانت أفضل وصفة لضرب المرحلة الانتقالية.
بالرغم من الانتظار الطويل لمدة 80 سنة، اتضح عدم “جهوزية” جماعة الإخوان المسلمين لممارسة الحكم وفهم آلياته. هكذا حسب مناهضي الإخوان المسلمين، لم تكن حركة الثالث من يوليو 2013 لتحصل لولا إسراع الجماعة في محاولتها للسيطرة على جميع مقاليد الدولة. وهكذا اصطفت في هذه اللحظة المعارضة الليبرالية الخائفة من الإلغاء، والكنيسة القبطية والأزهر الشريف والسلفيين تحت راية الجيش والسيسي.
بعد انهاء اعتصام رابعة في أغسطس 2013، بدا واضحا أن الجيش صمم على حسم المواجهة مع جماعة الإخوان المسلمين، وتبين أن كل دول الخليج باستثناء قطر، وكذلك الأردن ودول عربية أخرى كانت تخشى تصدير ثورة الإخوان المسلمين إلى أراضيها. ولهذا السبب راهنت على العودة إلى الوضع الكلاسيكي لسلطة قوية في مصر، الدولة المحورية في العالم العربي.
على أبواب استحقاق انتخابي مصيري يدور بين السيسي وصباحي دون غياب ظل الإخوان، من المبكر استخلاص الدروس النهائية من تطور الوضع في مصر.
إن إقرار دستور جديد توافقي وضامن لحرية المعتقد وتمكين المرأة والحفاظ على دولة تعددية جذرها الأساسي الإسلام، وارتداء المشير عبدالفتاح السيسي الثوب المدني، يعني أن مصر دخلت مرحلة جديدة رغم المخاطر المحدودة لعدم الاستقرار وانعكاساته الاقتصادية. في مقابل مقاطعة الإخوان المسلمين ومداخلات المرشح صباحي اليسارية والقومية، يصارح السيسي الناس بالقول، “إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم عقد اجتماعي، وأنه يعلم أن دوره هو العمل، لكن هل الشعب قادر على أن يستيقظ من الخامسة صباحا للعمل، كما يفعل الجيش من أجل النهوض بمصر؟”. إنه إذن رهان على النهوض والبناء.
في ورقة بحثية له في مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» تعود لأكتوبر 2012 يقول، روبرت مالي (مستشار أوباما حاليا)، “إن جماعة الإخوان المسلمين التي خلفت مبارك طرحت على الغرب صفقة أفضل لأنها أكثر استدامة وبثمن أقل لأن مبارك أصبح مستبدا عاريا. وبالمقارنة، فإن الإخوان المسلمين لديهم برنامج أوسع أخلاقي ثقافي واجتماعي، يمكن الاعتماد عليه وهكذا تكون الولايات المتحدة قد نجحت في ما سعت إليه منذ عقود أي بناء أنظمة عربية لا تتحدى مصالح الغرب، ولم يعد غريبا أن يعتقد الكثيرون في المنطقة أن أميركا كانت متورطة في صعود الإسلاميين، وشريكا صامتا في كل ما كان يحصل”.
وبناء على ذلك استنتج أنصار السيسي، أن الدولة المصرية العميقة والمتجذرة، نجحت في إحباط مسعى تدمير وإنهاك الدولة المصرية الذي “رعته واشنطن بشكل غير مباشر”، بيد أن هذا النجاح لا يعني صكا على بياض من الشعب أو نهاية مرحلة المتاعب.
من أبرز المهام التي ستنتظر المشير السيسي، إنجاح مسار المصالحة الوطنية والاستقرار. بالطبع يمكن أن يكون التنظيم الدولي للإخوان المسلمين قد أصيب بنكسة كبيرة، أو تلقى ضربة قاتلة، لكن الإسلام السياسي على نطاق أوسع سيبقى لاعبا رئيسيا.
إذن ليس عزل قواعد الإسلام السياسي من قبل الحكم أو ممارسة الإرهاب عبر سيناريو جزائري مصغر (خاصة في سيناء وبعض المدن) هما المخرج. لابد للنظام من إعطاء الأولوية للحوار السياسي مع الشباب والمعارضين وعدم المغالاة في اعتماد الأسلوب الأمني. في المقابل، ستزداد حيوية المشهد السياسي مع استكمال عقد أحزاب جديدة صاعدة مثل حزب الدستور، وربما أقدمت جماعة الإخوان على مراجعة نقدية لسياساتها السابقة كما فعل رجب طيب أردوغان بعد نكسة سلفه نجم الدين أربكان نهاية التسعينات في تركيا. لكن مع وجود محمد مرسي وكثير من قيادات الإخوان المسلمين في السجن، إضافة إلى آلاف آخرين اعتقلوا خلال الحملة ضد الإخوان، فإن الآمال في الوصول إلى تسوية أو حل وسط، تبدو بعيدة المنال الآن.
مع عودة مصر إلى الأنماط التقليدية، تبدو الأولوية للحفاظ على الدولة وإنقاذ الاقتصاد، أما الإجازة المعطاة للتفاعل الديمقراطي الحقيقي، فيؤمل ألا تمتد طويلا.
لبنان بلا رئيس وحكومة وبرلمان
د .عصام نعمان – الخليج الإماراتية
ثمة احتمال ماثل: أن تخلو سدة الرئاسة صبيحة 25 الشهر الجاري . خلو سدة الرئاسة يمكن أن يؤدي إلى تعطيل عمل الحكومة . تعطيلُ الحكومة يمكن أن يقترن بتعطيل عمل مجلس النواب . في هذه الحال يصبح لبنان بلا سلطة تنفيذية ولا سلطة تشريعية . كيف؟ ولماذا؟
بحسب المادة 62 من الدستور: "في حال خلو سدة الرئاسة لأي علّة كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء" . لكن ثمة فريقاً من اللبنانيين يتحفظ بشأن هذا الانتقال شبه الميكانيكي للسلطة من مركز دستوري إلى آخر . يقول بطريرك المسيحيين الموارنة مار بشارة بطرس الراعي: "الرئاسة الأولى هي بمثابة الرأس من الجسد، تعطي الشرعية للمجلس النيابي والحكومة وسائر المؤسسات، وتضمن الاستقرار في البلاد، وتعطيها شرعيتها الدولية . فلا أحد أعلى من الرئاسة، ولا أحد يحلّ محلها . وأمام استحقاقها تسقط كل الاعتبارات الشخصية والفئوية والحزبية والسياسية" .
تأسيساً على هذا الفهم والتوصيف للرئاسة الأولى، يعلن البطريرك الراعي بصراحة: "لا يمكن أن نرضى بالفراغ في سدة الرئاسة ولو ليوم واحد لأنه انتهاك صارخ ومدان للميثاق الوطني وإقصاء للمكوّن الأساسي في الحكم الميثاقي في لبنان، وهو المكوّن المسيحي، ولأنه انتهاك صارخ ومدان للدستور الذي يأمر المجلس النيابي في مادته 73 و74 بانتخاب رئيس على الفور" .
بإمكان معارضي البطريرك الراعي تفنيد تفسيره الخاص للميثاق والدستور، لكن ذلك لا يطفئ نار الأزمة السياسية والدستورية التي اندلعت . فقد باشر قادة سياسيون مسيحيون بالضغط لمنع الفراغ في سدة الرئاسة الأولى من خلال التلويح بأن لا جلسات تشريعية محتملة في ظل الفراغ، وبحصر عمل الحكومة بالإطار الضيق لتصريف الأعمال عند إناطة صلاحيات رئيس الجمهورية بها .
لماذا اللجوء إلى مقاطعة المجلس النيابي وتضييق عمل الحكومة؟
يجيب دعاة هذا الموقف بأن ثمة حساسية متنامية إزاء عدم اكتراث البعض من احتمال غياب أو تغييب مكوّن أساسي في هرم المؤسسات الدستورية، ما يؤدي إلى تطبيع حال الفراغ الرئاسي وتمديد أجله .
هل تخدم الدعوة إلى مقاطعة المجلس النيابي وتضييق عمل الحكومة فريقَ الداعين إليها؟
في المسألة قولان . بعض السياسيين يقول إن مقاطعة البرلمان وشل الحكومة يفاقمان الأزمة ويحملان، تالياً، أصحاب القرار، محلياً وخارجياً، على تطويق انعكاساتها على استقرار البلاد بالتوافق على ترئيس الأقوى بين القادة الموارنة الناهدين إلى المركز الأرفع . وبعضهم الآخر يقول إن معرقلي انتخاب رئيس جديد ضمن المهلة الدستورية جلّهم من المسيحيين، فكيف يفيدون من أزمةٍ تعطّل مرافق البلاد وتثير مشاعر القادة غير المسيحيين؟ وهل يعقل أن يتمادى النواب في تعطيل التشريع، فلا يسنّون قانوناً ديمقراطياً للانتخابات، ولا يشرّعون لتمديد ولايتهم؟
أياً يكن النهج المعتمد لمعالجة الأزمة وملء الفراغ الرئاسي، فإن جميع الدلائل تشير إلى أنه ليس في جعبة اللاعبين (والمتلاعبين) المحليين والخارجيين، إلا المزيد من الشيء نفسه . فموازين القوى الراهنة، والعصبيات الطائفية والمذهبية، وثقافة الفساد المتجذرة لا تتيح للقوى الوطنية والاجتماعية الحية، من خلال آليات النظام التقليدية، إنتاج حل ديمقراطي لأزمة النظام المزمنة من حيث هي اختلال بنيوي في إدارة التنوع اللبناني .
ما العمل؟ كيف يمكن الخروج من حمأة هذا النظام الذي بات في حال موت سريري إلى نظام آخر ديمقراطي مبني على أسس حكم القانون والعدالة والتنمية؟
في لبنان، لا فرصة ولا قبول بفكرة انقلاب عسكري . جلّ ما يستطيعه الجيش الامتناع عن التحوّل سوطاً في يد الشبكة الحاكمة . ذلك بحد ذاته إنجاز وازن إذ يمكّن القوى الوطنية الإصلاحية من تشديد ضغوطها على أهل النظام لإكراههم على ولوج باب الإصلاح السياسي الأساس باعتماد قانون ديمقراطي عادل للانتخابات .
في هذا المجال، يجب الاستفادة من تجربة "هيئة التنسيق النقابية" لتكوين مناخ شعبي رافض للنظام السياسي المحتضر وتطويره إلى هيئة تنسيق وطنية للقوى السياسية الإصلاحية العابرة للطوائف بقصد اغتنام الظروف الاستثنائية السائدة لشن عصيان مدني سياسي على الحكومة بكل الوسائل المشروعة بغية حملها على اتخاذ قرارات استثنائية، لعل أهمها:
* أولاً، وضع قانون ديمقراطي للانتخابات باعتماد البلاد دائرة انتخابية واحدة، على أساس نظام التمثيل النسبي أو نظام التمثيل الأكثري وفق قاعدة "لكل ناخب صوت واحد"، وإحالته بصيغة مشروع قانون معجل على مجلس النواب وفق أحكام المادة 58 من الدستور ليصار إلى إصداره بمرسوم إذا تعذّر البت به خلال مدة الأربعين يوماً المنصوص عليها في المادة المذكورة، أو إصداره بمرسوم إذا تعذّر على مجلس النواب الانعقاد، عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية وأحكام الضرورة .
* ثانياً، تقوم الحكومة، خلال المدة التي حددها قانون الانتخابات الجديد، بإجرائها تحت إشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة، ووسائل الإعلام اللبنانية والعربية والأجنبية، وحتى بإشراف الأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر .
* ثالثاً، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً جديداً للجمهورية، فيقوم لاحقاً بإجراء الاستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة .
* رابعاً، يقوم المجلس النيابي الجديد، وقد أضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الأولويات الوطنية، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويتولى تحويلها إلى تشريعات بالتعاون مع الحكومة .
* خامساً، تتولى لجنة الإدارة والعدل البرلمانية، بمشاركة رئيس المجلس الدستوري، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس مجلس شورى الدولة، ورئيس ديوان المحاسبة، ونقيبي المحامين في بيروت والشمال، مهمةَ إجراء الدراسات واقتراح الصيغ القانونية اللازمة لإعادة النظر بإجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وصلاحياته، وتنفيذ احكام المادة 22 من الدستور (إنشاء مجلس نواب وطني لاطائفي ومجلس شيوخ لتمثيل الطوائف) والمادة 95 من الدستور المتعلقة بإلغاء الطائفية على مراحل .
قد تبدو هذه المبادرات والإجراءات، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة، ثورية وصعبة التطبيق . لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الاستثنائية التي تستوجب قرارات استثنائية وشرعية استثنائية .
هل من سبيل آخر؟
عون ودعوته إلى "ثلاثيّة الأقوياء": عرض يستقي من الواقع ويستشرف المستقبل
ابراهيم بيرم – النهار اللبنانية
اكثر من رسالة الى اكثر من جهة يوجّهها رئيس "تكتل التغيير والاصلاح" العماد ميشال عون من خلال كلامه المثير للجدال والسجال والداعي الى "ثلاثية الأقوياء" التي يفترض ان تجمعه مع الرئيس سعد الحريري اضافة طبعاً الى شريكه في التفاهم الشهير "حزب الله".
ليس كلاماً عابراً ما قاله زعيم الرابية من خلال محطة التلفزة التابعة لـ"حزب الله"، وليس كلاماً ألقي على عواهنه، بل هو ينضح فعلاً برغبات سبق للجنرال البرتقالي ان افصح عنها اكثر من مرة منذ ان عاد الى بيروت عام 2005 آتياً من منفاه الباريسي.
فلم يعد خافياً ان "الفضيلة" الكبرى لعون قياساً بالقادة السياسيين في البلاد انه يذهب بالعادة الى حيث لا يجرؤ الآخرون، فهو ذهب لحظة ان حط رحاله في بيروت بعد غياب استمر اكثر من 15 عاما الى سجن اليرزة ليزور خصمه العنيد رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع الذي كان لا يزال يومذاك خلف القضبان، ثم كانت زيارته الى قصر قريطم، واخيراً وليس آخراً ذهب الى الضاحية الجنوبية ليبرم تفاهماً من خارج كل السياقات والحسابات مع الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله، وعبر هذا التفاهم انجز فتحاً سياسياً مشهوداً قدّر له ان يصمد ويصمد وتتسع آفاقه ويصير نموذجاً يدعو، الآخرين الى الانضواء فيه مفترضاً انه حقق انجازات مميزة في عالم السياسة اللبنانية المتشعبة والدقيقة الحسابات.
وقبل بضعة اشهر ذهب عون الى مكان كان آخر ما يتوقعه البعض. ذهب الى روما ليلتقي الرئيس سعد الحريري متوّجاً بذلك سلسلة اتصالات وحوارات سابقة. صحيح انه ذهب الى هذا المكان تسللاً لكنه كان أعلم شريكه في التفاهم وحلفاءه في التكتل.
ذهب عون عارضاً على خصمه الألد فتح صفحة جديدة مبتدأها وخبرها الوصول الى الرئاسة الأولى، وتحت هذا العنوان العريض تندرج جملة عناوين وبنود وتفاهمات اخرى. لا شك، ان عون لم يكن يتوقع ان يسمع من مضيفه الحريري رأياً سلبياً او ايجابياً فيه كلمة الفصل، لكنه كان يدرك تمام الادراك انه ينجز فتحاً آخر في عالم السدود والحدود السياسية اللبنانية، ويفتح الأبواب امام سجالات عدة واستطراداً امام هواجس ومخاوف لدى مروحة واسعة من الخصوم المستعدين لفعل اي شيء يحول دون عودة العماد عون الى القصر الذي اخرج منه عنوة عام 1990، ولكن هذه المرة بصفته رئيساً منتخباً وليس رئيس حكومة موقتة بأمر واقع هو الفراغ الرئاسي الذي حدث قبل ذلك بنحو عامين.
لم يعد سراً القول ان حلفاء عون وشركاءه أبدوا منذ بداية انفتاحه على الحريري خوفاً مكتوماً من التداعيات السلبية لهذا الحوار البادئ للتو. خافوا على عون أن يقع ضحية توقه المشروع للوصول الى سدة الرئاسة الاولى، واستطراداً خافوا من خسران مزدوج له، أي خسارة مكانته السياسية كمعارض عنيد، وخسارة الموقع المنشود.
لكن عون اقنع الخائفين من نتائج خطوته المفاجئة، بأنه، وهو رجل المغامرات غير المحسوبة، يملك جرأة صارت جزءاً من شخصيته واستتباعاً جزءاً من الصورة النمطية عنه لدى قواعده ولدى صف الخصم.
وفي كل الاحوال وان كانت الدعوة الى "ثلاثية الاقوياء" مقولة مستجدة لها وقعها السجالي، ولكن لها في عرف المقربين منه وظائفها المتعددة ان من حيث المكان الذي قيلت فيه أو من حيث الزمان والظروف.
وبمعنى آخر ثمة ثلاث رسائل يوجهها عون بمقولته تلك الى الذين خافوا عليه والذين خافوا منه على حد السواء وهي:
- ان عون يقول لمن يعنيهم الامر إن ابواب حواره مع الحريري وما يمثل ستظل مفتوحة حتى بعد انتهاء المهلة الدستورية، واستطراداً حتى وان لم يلفظ الحريري الجواب الحاسم والنهائي الذي ينتظره، مؤكداً بذلك وفي شكل عملي انه وان أراد الرئاسة الاولى، لكنه يفتح آفاقه وابوابه على ما يتعدى ذلك وبالتحديد على انجاز سياسي كبير بحجم المصالحة الوطنية والتأسيس لقواعد لعبة سياسية تهدم جدار العزل والفصل المرتفع منذ نحو عشرة اعوام بين الافرقاء، شاطراً الساحة ومقسماَ الرأي العام.
- لأن عون يرد بدعوته تلك بشكل غير مباشر على الهجمات المتتالية التي تعرض لها لا سيما بعد اللقاءات الباريسية، ويؤكد انها ليست أكثر من تمنيات وامانٍ تعتمل في نفوس المروجين لها ومنها ان الحريري يتعاطى باستخفاف وبلا مبالاة مع عرض عون، وان ثمة سلبية تجاهه لدى القيادة السعودية.
ومهما يكن من أمر فالثابت أكثر من مصدر ان "حزب الله" في جو العرض الذي قدمه العماد عون، وهو على قناعة ضمنية بأن عون لا يبادر لكي يحرج الآخرين، بل هو ينطلق في مبادرته من مناخات ايجابية بين الحزب و"تيار المستقبل" سرت منذ انطلاق الحكومة الحالية وعبَّر فيها رموز من الطرفين عن رغبتهم في إنهاء حال القطيعة الطويلة بينهما.
وأولاً وأخيراً يعرف عون ومعه "حزب الله" والآخرون أن ثمة مرحلة من اعادة التموضعات والتفاهمات والحسابات في المنطقة عموماً ولبنان لن يكون بمنأى عنها.
عراق ما بعد الانتخابات
يونس السيد – الخليج الإماراتية
رياح التغيير التي انتظرها كثيرون في الداخل والخارج، يبدو أنها لم تهب بعد على العراق، عقب الانتخابات العامة التي جرت في البلاد مؤخراً، كما كان يأمل العراقيون .
فرئيس الوزراء المنتهية ولايته نوري المالكي، سارع فور الإعلان عن النتائج، التي حصد فيها 93 مقعداً بفارق كبير عن أقرب منافسيه، إلى التأكيد بلغة المنتصر أنه المرشح الوحيد لتشكيل الحكومة الجديدة، في محاولة لقطع الطريق على منافسيه في "التحالف الوطني" من تقديم مرشحين آخرين للمنصب . وأعلن في الوقت نفسه، أنه لن يتخلى عن تشكيل حكومة الأغلبية السياسية التي كان ينادي بها طوال حملته الانتخابية، مشدداً على أنه يمد يده لكل مكونات الشعب العراقي، وأنه لن يقبل ب"تحالف الأقوياء ضد الضعفاء" . وللتأكيد على جديته، فقد بدأ مفاوضات، على الفور، مع الكتل الأخرى للاتفاق على الحكومة الجديدة، معتبراً أن نجاح الانتخابات يعني وجوب الالتزام بنتائجها .
يحسب للمالكي، بالتأكيد، أنه قاد المعركة ضد إرهاب "القاعدة" و"داعش" اللتين تسيطران على أجزاء واسعة من الأنبار في غربي البلاد، وهي معركة استفاد منها المالكي في تحشيد الرأي العام إبان حملته الانتخابية، ولكن يحسب عليه أيضاً، الانتقادات الموجهة له ولحكومته في تسيير أمور البلاد طوال السنوات الماضية، الأمر الذي فاقم من الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية .
معارضو المالكي، الذين شككوا في نزاهة الانتخابات، وقدموا فيها الطعون، وطالبوا بالتحقيق في نزاهتها باعتبارها مزورة وتستدعي إعادة الاستحقاق الانتخابي برمته، لم يسلّموا بفرضية بقاء المالكي في السلطة لولاية ثالثة، حتى إن منافسيه داخل "التحالف الوطني" وأبرزهم التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر، والمجلس الأعلى الإسلامي بزعامة عمار الحكيم، إلى جانب كتل أخرى مثل "القائمة الوطنية" التي يتزعمها اياد علاوي، وائتلاف "متحدون" بزعامة رئيس البرلمان السابق أسامة النجيفي، أكدوا اتفاقهم على عدم عودة المالكي لولاية ثالثة مهما كان الثمن، انطلاقاً مما يعتبرونه مسؤولية المالكي عن مجمل السياسات التي أوصلت البلاد إلى ما آلت اليه، والتي بات معها العراق يحتاج إلى مصالحة وطنية وشراكة حقيقية تقود إلى الإصلاح والتغيير المنشود .
معركة التحالفات في العراق، باتت مفتوحة على مصراعيها، وفي ضوء ما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات سيتحدد مصير ولاية المالكي الثالثة من عدمها، وإذا كان إجراء الانتخابات بحد ذاته مسألة إيجابية في ظل مثل هذه الظروف الصعبة والمعقدة، فهناك من يرى أن رسم ملامح المستقبل يتحدد، خلافا للتصريحات المعلنة، في الكواليس والغرف المغلقة التي ربما تشهد صفقات سرية يجري تداولها تحت الطاولة، قد تعيد المالكي لولاية جديدة، لتبقي القديم على قدمه، وتنتفي معه إمكانية أي تغيير حقيقي في المرحلة الراهنة على الأقل . لكن هل يتمكن المالكي، في حال عودته، من انتزاع العراق من براثن الصراعات والتجاذبات ويقوده إلى دولة القانون والمؤسسات، أم أنه سيكرر أخطاء الماضي، ويبقي البلاد رهينة لمسلسل العنف والإرهاب الذي لا ينتهي؟
ليبيا الجرح النازف في الضمير العربي
د . حسين حافظ– الخليج الإماراتية
ما من موقع جيواستراتيجي رابط بين المشرق العربي ومغربه أفضل من موقع الجمهورية العربية الليبية على الإطلاق، فهي تحتل مساحة تبلغ نحو 1759540 كم2 من شمال القارة الإفريقية، وعدد سكان لا يزيد على 8 ملايين نسمة، وهي تمتد من البحر المتوسط في الشمال حتى حدود جمهوريتي تشاد والنيجر في الجنوب، ومن الحدود المصرية والسودانية في الشرق حتى حدود تونس والجزائر في الغرب، وإنها تمثل حلقة اتصال رئيسية بين أقطار المشرق العربي وأقطار المغرب العربي، خصوصاً أنها دولة أساسية ترتبط بتاريخ وثقافة المنطقة العربية الفكرية والدينية، وان موقعها في الحوض الأوسط للبحر المتوسط يعطيها أهمية استراتيجية كبيرة بالنسبة للبحر نفسه، وما يمكن أن يدور فيه من نشاط بحري، وقد برزت أهمية موقع ليبيا واضحة بالفعل خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية . وإن صح توصيف قلب الوطن العربي فإن هذا الوصف ينطبق على ليبيا تماماً فهي تلامس في حدودها الشرقية دولتي مصر والسودان وهنا تتميز عن سواها من دول المغرب العربي بأنها دولة رابطة بين مشرق الوطن العربي ومغربه، كذلك فإنها ترتبط بحدود برية وبحرية مع ثلاث دول عربية هي تونس والمغرب والجزائر، وبهذه الخاصية لا يشاطر ليبيا أي بلد عربيِ آخر، فهي كالسويداء في قلب الوطن العربي .
وإذا كان للعمق الجغرافي بعد سوقي، فإن مساحة ليبيا هي أكبر بثلاث مرات من مساحة العراق (433000كم2)، وهي أكبر من مساحة مصر (1002000كم2) التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 85 مليون نسمة، وأكثر كثيراً من مساحة تركيا (780580 كم2) وعدد سكانها 73 مليون نسمة، وأكثر كثيراً من مساحة فرنسا (632834 كم2) وعدد سكانها 66 مليون نسمة، فهي دولة شرق أوسطية بالغة الأهمية، وفقاً لمعظم النظريات الجيوبولتيكية في العالم، وإن ميزتها الاستراتيجية الأخرى ليست فقط في العمق الجغرافي، وإنما في قلة عدد السكان مقارنةً بالمساحة الشاسعة التي تتنوع بين الجبال والسهول والوديان وكذلك الصحاري، هذا التنوع في المساحة وفي الجغرافيا أكسب الليبيين مزاجاً ثورياً نوعياً قلّ نظيره في التاريخ، وهنا لابد من استذكار أن ثورة عمر المختار هي أول ثورة عربية بطولية سطرها الليبيون في مقارعة الاحتلال الإيطالي الأجنبي .
ليبيا أعطت المثال الصحراوي بمزاجه الذي يتعالى حتى على الموت في أكثر من واقعة، وهكذا هو شأن الليبيين في معظم مراحلهم التاريخية، وربما لا أبالغ إن قلت إن من أكثر الدول العربية التي احتضنت العرب العراقيين في محنتهم أيام الحصار الأمريكي الأجوف على العراق هي ليبيا العربية بكل ما تتمتع به من أصالة عربية قلّ نظيرها وهم أصدق بما يقصد به القول (يا ضيفنا لو جئتنا . . . لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل) .
ليبيا اليوم تحترق بمخطط "رالف بيترز" بكل وقاحة المشروع الصهيوني، وبغض النظر عمن يمثل وينفذ تلك الأفكار الشيطانية الشرق أوسطية الجديدة في ليبيا، فهو مدرك بدلالة واعية حقائق القوة في الوطن العربي، ليبيا بوصفها الجيوسياسي هي العمق الجيوستراتيجي للمشرق العربي ينبغي ألا تتحطم على صخرة الصهيونية الجديدة، ولعلنا لا ننسى إنها الدولة العربية المغربية السباقة التي اشتركت في مقاتلة العدو الصهيوني في حروبه المتكررة مع العرب، ولا ينبغي لليبيا أن تكون الحجر الأساس لتنفيذ خارطة الشرق الأوسط الجديد، للمغرب الجديد أياً كانت مسميات ونوايا من يقود حركة التغيير التي تعبث بجغرافية ليبيا النموذجية بين أقرانها في الوطن العربي .
النموذج العراقي الذي صنعته الولايات المتحدة وتخلت عنه تاركةً إياه في مواجهة أشد موجة إرهابية في العالم، لا ينبغي أن تكون ليبيا النموذج الآخر، وإذا كان ثمة مسوغ لقبول فكرة ما يحصل في العراق، فإن ذلك سوف لن يكون مقبولاً في ليبيا، بل ستظل جرحاً نازفاً في الضمير العربي إلى أجلِ غير مسمى .