اقلام عربي 05/06/2014
في هــــــــــــــــــــــذا الملف:
مصالحة أم إدارة انقسام؟
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
الحكومة الفلسطينية والتهويل “الإسرائيلي”
بقلم: عوني صادق عن الخليج الاماراتية
حماس والمصالحة.. التكتيك والاستيراتيجيا
بقلم: سعيد الحاج عن رأي اليوم
وُجهة فلسطين في اللحظة العسيرة
بقلم: عدلي صادق عن العربي الجديد
«الإخوان المسلمون» و«النهضة»: حزبان أم حركتان أم الاثنان معاً؟
بقلم: روجر أوين عن الحياة اللندنية
الديمقراطية والإسلام والدوران في الحلقة المفرغة
بقلم: أحمد محمود عجاج عن العرب اللندنية
لا ضرورة لـ«خيبة الأمل» والربيع العربي منتصر لا محالة
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
نسائم ربيع أوروبى
بقلم: جميل مطر عن الشروق المصرية
مصالحة أم إدارة انقسام؟
بقلم: فايز رشيد عن القدس العربي
■ أُعلنت أسماء أعضاء الحكومة التوافقية الفلسطينية الجديدة بين حركتي فتح وحماس، وهي حكومة محاصصة، رغم الخلاف بين الحركتين على تسمية وزير للخارجية ووزارة شؤون الأسرى، فالرئيس عباس يريد أن يبقي رياض المالكي في منصبه، وبالنسبة لوزارة الأسرى الرئيس يريد تحويلها إلى هيئة مستقلة تابعة لمنظمة التحرير، حماس لا تريد المالكي وترغب في الإبقاء على وزارة الأسرى كما هي. الأخيرة تراجعت عن موقفها من المالكي وعباس عن تحويل الوزارة. هذا الخلاف مع صغر حجمه الا أنه يؤشر إلى طبيعة المرحلة القادمة التي من المحتمل أن تشهد قضايا خلاف كثيرة وتبقى من دون حل، فالتراجع عن المواقف ليس مضمونا للقبول به في كل مرّة من كل من الطرفين، بالتالي كيف سيتم حل هذه الخلافات، خاصة أن برنامج الحكومة أبقى على قضايا خلاف كثيرة بين الجانبين مثل، البرنامج السياسي للوزارة، فكل من عباس وحمدالله اعلنا التزام هذه الحكومة ببرنامج رئيس السلطة ومن ضمنه، المفاوضات والتنسيق الأمني مع إسرائيل الذي وصفه عباس بتعبير (المقدّس).
أما حماس فكما أعلنت من قبل: ضد استئناف المفاوضات حاليا وضد التنسيق الامني مع العدو؟ مما يدعو إلى القول ان الاتفاق أجّل الخلافات ولم يحلها. نعم.. هناك بون شاسع يمتد بين الرغبة والواقع في ما يتعلق بموضوع المصالحة، فإسقاط الرغبة على الفعل هي مسألة واردة في الكثير من القضايا وحتى الظواهر، فلا يخفى على احد مدى الضرر الذي أصاب قضيتنا ومشروعها الوطني جرّاء الانقسام، الأمر الذي أدّى إلى ضغوطات شعبية وعربية ودولية صديقة على الطرفين المعنيين (بغض النظر عن أن الاتفاق جرى بين وفد منظمة التحرير وحركة حماس في غزة ) مباشرة بالانقسام وهما: حركة فتح بالطبع، إضافة إلى حركة حماس، من أجل تجاوز الانقسام والوصول إلى المصالحة والعودة بالوحدة الوطنية الفلسطينية إلى سابق عهدها.
من ناحية ثانية فإن الحركتين باتتا مأزومتــــين: السلــطة بسبب فشل المفاوضات ووصولها إلى طريق مسدود، وحماس بسبب المتغيرات في مصر والعلاقة المتوترة بين حماس والنظام المصري الجديد وتبعات هذا الخلاف. هذان العاملان لعبا دورا بارزا في المباحثات التي جرت في غزة وافضت إلى الاتفاق: حكومة التكنوقراط التوافقية وإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية خلال ستة شهور.
مما لا شك فيه أن ما جرى الاتفاق عليه يمثل قضايا مهمة، تجعل من شعبنا وأصدقائه على مستوى من التفاؤل بقرب تحقيق المصالحة الفعلية، ولكن من الناحية الأخرى، جرى في اجتماعات سابقة للحركتين الاتفاق على هذه القضايا وقضايا أخرى شبيهة، وجرى تشكيل حكومة وفاق بعد حكومة حماس، وتم تشكيل لجان ذات وظائف عديدة، الا أن شيئا من كل تلك القضايا لم يجر تطبيقه وفشلت الحكومة واقعا على الأرض. والآن من أجل مصالحة حقيقية يجري تطبيقها واقعا فعليا يتوجب أيضا على الطرفين وبحضور ومشاركة كافة التنظيمات الوطنية والاسلامية الفلسطينية، الوصول إلى ما يلي:
إجراء مراجعة نقدية شاملة للمرحلة السابقة، منذ توقيع اتفاقيات أوسلو وحتى هذه اللحظة، فمفاوضات عشرين عاماً لم تُنتج سوى المزيد من إيغال العدو الصهيوني في الاستيطان وتهويد الأرض، وارتكاب العدوان والمجازر وهدم البيوت والاعتقال والاغتيال والمزيد من الإصرار على التنكر للحقوق الوطنية الفلسطينية، والاشتراطات التعجيزية الصهيونية على الفلسطينيين كالاعتراف بيهودية إسرائيل، والإبقاء على السلطة: كحكم ذاتي مهمته الأساسية تسيير الشؤون الحياتية للفلسطينيين، والتنسيق الأمني مع إسرائيل بهدف أن يكون هذا التنسيق مدخلاً لتكون السلطة حامياً للاحتلال ووسيلة لممارسة فعل الاحتلال من خلالها. كذلك الوصول إلى هدنة طويلة الأمد مع حماس تمتد لسنين طويلة، من دون إجراء هذه المراجعة الشاملة فإن أي خطوات يجري الاتفاق عليها بين حركتي فتح وحماس، تظل منقوصة.
الاتفاق على برنامج سياسي للمرحلة المقبلة يعتمد الثوابت الوطنية الفلسطينية، يحدد ما هو المطلوب بدقة خلال المرحلة الراهنة، ويعيد التأكيد على استراتيجية النضال الوطني الفلسطيني على ضوء فشل المفاوضات، شريطة أن تكون الحركة التكتيكية السياسية الفلسطينية منطلقة من خدمة الهدف الاستراتيجي، وليست بديلاً له، مثلما يجري التطبيق حالياً. لا شك أن اختلافاً سياسياً كبيراً يقوم بين الفهم الاستراتيجي للنضال الفلسطيني وما يجري على أرض الواقع حاليا من سياسات، الرئيس عباس ما زال يؤمن بنهج المفاوضات ولاشيء غيرها، فهل حماس متفقة مع هذا النهج (وهي حاليا في مرحلة هدنة مع العدو الصهيوني)؟
إن بعض الألغام ستواجه الحكومة القادمة من نمط: الأجهزة الأمنية في كل من رام الله وغزة، فالأولى تابعة للسلطة والثانية تعتمد عليها حماس في تثبيت سلطتها، بالتالي فإن أسئلة كثيرة ستواجه إعادة دمج هذه الأجهزة بعضها مع بعض.
من جانب آخر فإن حركة حماس في القطاع ولما يزيد عن السبع سنوات تمارس سلطة فعلية نسبية (ولكن ضمن نطاق الاحتلال مثل السلطة في رام الله كذلك)، فهل من السهل على حماس التخلي الطوعي عن هذه السلطة؟ هذا السؤال نطرحه على سبيل المثال وليس الحصر، وهو يشكل سؤالاً صغيراً من بين عشرات الأسئلة الشبيهة الأخرى، هذا اضافة الى انعدام الثقة بين الجانبين، إضافة إلى مصير 50 ألف موظف قامت حماس بتعيينهم، بعد قيامها بحركتها حتى هذه اللحظة، ما مصير هؤلاء الموظفين؟ هل ستدمجهم السلطة في وزاراتها؟ وهل ستتسلم الحكومة التوافقية السلطة في غزة؟ وما هو مصير القوانين التي سنتها حماس في غزة على مدار سنوات حكمها في القطاع؟ هذه غيض من فيض الأسئلة التي تفرضها المصالحة. ما جرى هو عملية هروب إلى الأمام من استحقاقات كثيرة على الطرفين البحث فيها وإيجاد أجوبة ذات قواسم مشتركة عليها بين الجانبين. من القضايا التي يتوجب الاتفاق عليها: الموقف من منظمة التحرير الفلسطينية ودخول حركتي حماس والجهاد الاسلامي إلى كافة مؤسساتها والتفاصيل المتعلقة بكل ذلك، فهل تأجيل هذه القضايا في صالح تجاوز الانقسام؟
جملة القول ان ما جرى في غزة من اتفاقات مؤخراً هو خطوة في الاتجاه الصحيح، والاتفاق على من يوجد في المعبر مع مصر جيد، لكنه لا يجيب على كل الأسئلة الأخرى. إنه أقرب الى التعامل مع واقع فرضته الظروف منه الى مصالحة حقيقية فعلية، فحتى تتحقق المصالحة واقعاً على الأرض، يتوجب اجراء الكثير من الخطوات، تلك التي لم يتم التطرق اليها في مباحثات غزة لهذا السبب فإن الاتفاق، رغم إعلان الوزارة، هو أقرب إلى إدارة الانقسام منه إلى المصالحة.
الحكومة الفلسطينية والتهويل “الإسرائيلي”
بقلم: عوني صادق عن الخليج الاماراتية
مع الإعلان عن التوصل إلى "اتفاق الشاطئ"، وتشكيل "حكومة الوحدة الوطنية" لم يعد متصوراً أن تنفجر المصالحة، عند أولى العقبات وأبسطها . فمهما كانت الخلافات حول التشكيلة الوزارية أو بعض الحقائب، فإنها لا تكفي لإقناع حتى طرفي المصالحة بتفجيرها بهذه السرعة . لذلك لاحظنا أن القضايا "الكبيرة" تم القفز عنها، وتأجيل البحث فيها لما بعد تشكيل الحكومة .
وبالرغم من مظاهر "الفرح الفلسطيني" لما اعتبر تحقيقاً للمصالحة و"إنهاء للانقسام"، إلا أنه يمكن القول إن الفلسطينيين الذين فرحوا بالخطوة، التي كانوا طوال الوقت يطالبون الحركتين المتنازعتين بتحقيقها، يتشككون وأحياناً يشككون في أنها ستغير كثيراً من حقائق الأمر الواقع القائم، خصوصاً أن تأكيد الرئيس عباس مراراً وتكراراً من أن الحكومة الجديدة "ستلتزم ببرنامجه السياسي"، و"ستقبل شروط الرباعية"، ظل اللازمة الملازمة لمشاورات التشكيل، وبالتأكيد سيظل بعده .
لكن اللافت في الموضوع، هو الموقف "الإسرائيلي" من هذه الحكومة، وعلى الأخص موقف الحكومة برئاسة بنيامين نتنياهو، الذي منذ بدأ الحديث عن مشاورات تشكيل الحكومة الفلسطينية، حاول أن يستبق التشكيل ويطلب من الرأي العام الدولي عدم الاعتراف بها، أو التعاون معها، فجاءت التحركات إزاءها كمن توشك الدولة أن تدخل الحرب .
وقبل يوم واحد من إعلان الحكومة الفلسطينية الجديدة، عقد "مجلس الوزراء المصغر" برئاسة نتنياهو اجتماعاً طارئاً لبحث "سبل التعاطي" مع الحكومة الفلسطينية . وبحسب الموقع الإلكتروني لصحيفة (هآرتس) أبلغ نتنياهو أعضاء المجلس بأنه تلقى وعداً من وزير الخارجية الأمريكية، جون كيري، أن الولايات المتحدة لن تعترف بالحكومة الفلسطينية فوراً . وذكر وزيران حضرا الاجتماع الطارئ أنه تم تكليف الاستخبارات، والأجهزة الأمنية، تقديم تقارير مفصلة عن هذه الحكومة .
وإلى جانب التهويل الذي تبناه نتنياهو، إزاء الحكومة الفلسطينية، لوحظ أن الموقف الرسمي "الإسرائيلي" ليس موحداً إزاءها، بل منقسم بشأن الكيفية التي يجب التعاطي معها . وقد ظهر أن حزب (الحركة) الذي ترأسه تسيبي ليفني، وزيرة القضاء والمسؤولة عن ملف المفاوضات، يرى أنه "يجب ضبط النفس، وعدم إغلاق الأبواب"، وأنه "علينا فحص برنامج الحكومة الفلسطينية الجديدة، وليس رفض التحاور معها"، كما جاء على لسان الوزير عمير بيرتس عضو الحركة . ويأتي هذا الخلاف وسط تقديرات "إسرائيلية" بأن حملة التحريض الدولية التي يتزعمها نتنياهو ضد الحكومة الفلسطينية، ستبوء بالفشل، وأنه لن يستطيع إقناع لا الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي بها . وترى هذه التقديرات أن ""إسرائيل" تتأهب لانهيار دبلوماسي في الساحة الدولية" !
ولعل السؤال الذي يطرحه التهويل "الإسرائيلي"، والحذر والاشتراطات التي تبديه وتضعها الولايات المتحدة الأمريكية، والذي لا مهرب للمتابع منه، هو ما حقيقة ذلك التهويل والحذر؟ هل ينبع من خوف حقيقي ألا يكون الرئيس عباس جادا في التمسك بسياسته وبرنامجه السياسي، فتغير موقفه من حركة (حماس)؟ هل يكون الرئيس عباس قد يئس من الموقف "الإسرائيلي"، والرعاية الأمريكية للمفاوضات، وبالتالي أصبح يرى أن "تغييراً"، ولو جزئياً، لا بد أن يدخل على سياسته وبرنامجه، خصوصاً أنه سبق واتهمه "إسرائيليون" كبار بأنه "ليس شريكاً"، وأنه "لا يريد السلام مع "إسرائيل""؟
بالتأكيد ليس ذلك، أو شيء منه، يدور في خلد نتنياهو أو "الإسرائيليين"، ولا في خلد الأمريكيين أو الأوروبيين . إنهم جميعا يعرفون جيداً أن عباس جاد جداً فيما يعلن، وأنه لو غير شيئاً من قناعاته، لفعل أسهل شيء عليه وهو أن يعلن استقالته، وهو في زيارة خارجية، ولكن إذا كان هذا هو رأي الجميع، وأن عباس "صامد" في قناعاته، فلماذا هذا التهويل الذي لا مبرر ولا معنى له؟
الجواب عن السؤال الأخير، نعرفه، أو هذا ما نفترضه، وعرفناه منذ زمن طويل جداً، وهو لا يخص الرئيس عباس وحده، بل هو إحدى قواعد اللعبة الصهيونية - "الإسرائيلية" المتبناة أمريكياً، وهو أنه إزاء كل خطوة فلسطينية، مهما كانت تلك الخطوة صغيرة أو كبيرة، فلا بد من إظهارها "خطراً كبيراً" على "دولة "إسرائيل" ومستوطنيها"، لتبدأ الألاعيب، باسم التوصل إلى "حلول وسط" تختبئ فيها الخطط والمطالب "الإسرائيلية"، وتبرر التنازلات الفلسطينية . ولعل الهدف الحقيقي لكل ما تفعله الحكومة "الإسرائيلية" الآن، هو "إبقاء الأطراف في الملعب" شراء للوقت اللازم لاستكمال مخططات الاستيطان والتهويد ومصادرة الأرض وتهجير السكان ما أمكن . . الخ . ولا ننسى أن ما انتهت إليه "الوساطة" الأمريكية في موضوع "التسوية وعملية السلام"، هو تمديد المفاوضات .
العيب دائما كان فينا، وليس في أحد غيرنا، نسمع ونصدق ما نسمع، ثم ننشغل فيه، وننسى القضية والموضوع الأساسي .
حماس والمصالحة.. التكتيك والاستيراتيجيا
بقلم: سعيد الحاج عن رأي اليوم
بعد ثمانية أعوام من الانتخابات التشريعية، وسبعة من حكم حركة حماس لغزة منفردة، وإثر جولات عديدة من محاولات لم الشمل الفلسطيني وإنهاء ملف انقسامه السياسي، تم توقيع اتفاق المصالحة أخيراً، ثم ما لبثت الحكومة أن تشكلت وأعلن عنها.
لكن ظروف الاتفاق وبنوده الموقعة، إضافة لتصريحات رئيس السلطة وبعض ملفات الخلاف (وزارة الأسرى مثالاً) صدّرت شعوراً بأن حماس قدمت تنازلات كبيرة في سبيل هذه المصالحة، وأنها وردتها من باب الضعف والاضطرار، الأمر الذي أعلى من الأصوات المتحفظة على ما حصل حتى من داخل صفوفها.
والحقيقة أننا قبل التعجل في إصدار الأحكام، ينبغي علينا أن نفرق هنا بين رؤية حماس للمصالحة من ناحية مبدئية (استيراتيجية) وما سرّع العملية وأخرجها للعلن مؤخراً من ظروف (التكتيك)، ولنا في هذا الصدد ثلاث ملحوظات:
الأولى، أن لدى الحركة رؤية استيراتيجية ترى من الصعوبة بمكان على مشروع المقاومة النجاح واجتراح الإنجاز في ظل انكفاء فصيل قوي ورئيس كحركة فتح عنه، فضلاً عن معاداته في ظل التنسيق الأمني الحاصل في الضفة الغربية المحتلة. وبناء على هذه الرؤية، ترى حماس في عملية المصالحة مصلحة مبدئية لمشروع المقاومة، بناء على تحييد إحدى العقبات الرئيسة له، وكسب ما يمكن كسبه من تخفيف اليد الأمنية الثقيلة في الضفة أو ربما محاولة جر فتح/السلطة لمربع الاصطفاف مع الخط المقاوم ولو تدريجياً.
الثانية، أن الوضع العربي والإقليمي تغير 180درجة عن بدايات الربيع العربي وموجته الثورية الأولى التي أتت بالإسلاميين (حلفاء الحركة) للسلطة وما نتج عن ذلك من دفعة معنوية ربما أثرت في حينها على “شروط” المصالحة من باب تقييم موازين القوى. اليوم، تتضح أكثر من أي وقت مضى الأزمة السياسية التي تعانيها الحكومة في غزة إثر الانقلاب في مصر، مع ما تبعه من شيطنة حماس وتجريمها، وإطباق الحصار عليها، وإغلاق المعبر وقصف الأنفاق، الأمر الذي تركها شبه وحيدة في الساحة السياسية بعدما فقدت/تركت حلفها السابق المتمثل في إيران – سوريا – حزب الله.
الثالثة، أن حماس حصلت منذ فترة– فيما يبدو – على ما كانت تريده من مشروع السلطة وهو تأمين المقاومة وتطويرها، ولا تبدو قلقة في المدى المنظور تحجيم هذا المشروع في قطاع غزة بعد ما عاشه من تنمية وتطوير من ناحية العدد والعدة والتنظيم، خلال السنوات التي عاشها في ظل حكومة حماس الراعية للمقاومة، الأمر الذي يعطي حماس في غزة دوراً شبيهاً بدور حزب الله في لبنان، لناحية القوة العسكرية القادرة على التأثير والعصيّة على التطويع حتى من دون الدخول في الحكومة.
فإذا ما أضفنا لهذه المحددات الرئيسة الثلاث ما تعانيه حماس من أزمة اقتصادية غير مسبوقة أثرت على قدراتها في تسيير شؤون المواطنين في غزة، سنرى أن الحكومة باتت عبئاً تحاول حماس التخلص منه، والتراجع خطوة للوراء في ظل منظومة تسعى لاستهدافها والنيل منها.
من هنا يمكن فهم التنازلات التي قدمتها حماس في سبيل المصالحة، وقبولها بكثير مما قد يصعب عليها تسويقه لدى قاعدتها الجماهيرية من شروط تتعلق بأسماء بعض الوزراء أو الوزارات، إذ الناظم الرئيس لموقف حماس هنا هو الخروج من الحكومة والاكتفاء بدور الحركة المقاوم، القادر على إفشال أي اتفاق تسووي قد يقوض المشروع الوطني برمته.
من ناحية أخرى، فإن تنازل حماس عن الحكومة يعفيها من جزء كبير من المسؤولية القانونية والأخلاقية والواقعية فيما خص الحصار ولقمة عيش المواطن، في حالة نشوب أي حرب قادمة مع الكيان الصهيوني تلوح إشاراتها بين الحين والآخر، وهذا يطلق يد المقاومة أكثر ويعطيها الكثير من المرونة في التعامل مع التهديدات العسكرية والأمنية الصهيونية، في حين كانت مضطرة لتكرار الحساب عشرات المرات قبل الرد على أي هجوم صهيوني حال وجودها في الحكومة.
ولا ينبغي إغفال أهمية الوضع الداخلي للحركة الذي تأثر بتجربتها في الحكم إيجاباً وسلباً، وسلباً اكثر من إيجاباً في مساحات كثيرة، وما تنطوي عليه أهمية الالتفات لترتيب البيت الداخلي الحمساوي، في ظل ما سبق ذكره من ظروف داخلية وخارجية تمثل استحقااقت مهمة وحساسة للحركة في الفترة المقبلة.
أخيراً، لا يجب إهمال بنود الاتفاق الأخرى التي تنص على ترتيب أوضاع منظمة التحرير وانتخبات المجلس الوطني وتفعيل المجلس التشريعي، بما يحد من سلطات عباس/السلطة/فتح في اتجاه قيادة جماعية للشعب الفلسطيني، والتي وإن ماطل بها رئيس السلطة حالياً وحتى وقت معين فربما لن يستطيع التهرب من استحقاقاتها للأبد، وهو ما تعول عليه حماس والقوى الوطنية الأخرى لتصحيح بوصلة المنظمة ومؤسساتها المختلفة.
هكذا، رغم صورة الضعف التي تمثلتها حماس في الاتفاق، بالقبول بشروط السلطة والتراجع عن شروط تهيئة الأجواء في الضفة، وخروج حماس من الحكم، إلا أننا نرى في مقابل هذه الصورة الآنية المتراجعة أهدافاً استيراتيجية واعدة تسعى لها الحركة من خلال هذا التراجع التكتيكي، وفق نظرية “خطوة للوراء، عشر خطوات للأمام”، ويبقى الشيطان – كما دائماً – ماسكاً بتلابيب التفاصيل المتعلقة بالتنفيذ والرقابة والجدول الزمني.
وُجهة فلسطين في اللحظة العسيرة
بقلم: عدلي صادق عن العربي الجديد
ربما تكون المقاربة المطروحة بالاختزال الشديد، حول التدبير المتعلق بالأمن، من بين الكلام الذي قيل، في مناسبة تأدية الحكومة الفلسطينية، الانتقالية الوفاقية، اليمين أمام الرئيس محمود عباس؛ واحدة من أساليب الطمأنة والتودد للجوار العربي. فكأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتبعت، هنا، منطق الحاوي الذي يُري المتوجس، ما يظنه أفعى سامة، ليؤكد له أنها في كنفه، لا تعض ولا تختزن سُماً. فقد قيل إن الأجهزة الأمنية الفلسطينية قاطبة ستُعاد هيكلتها بمساعدة مصر، وصولاً إلى فتح ذلك العصيّ المستغلق الذي يسمونه "المعبر". هنا، يحق لنا أن نستعيد ما قلناه، عندما انهال الإعلام المصري على "حماس"، يتهمها بالهجوم الشامل على مصر، فكتب العبد لله في الصحافة الفلسطينية، مراراً، ما اسثتار حفيظة بعض المزاودين عليه من حركته "فتح"، إذ أكد على أن الاتهامات لا أساس لها من الوجهة العامة.
وفي ذلك السياق، عدّدنا البراهين، منها ما يتعلق بمنطق الحسابات المجردة وميزان القوى ومخاطر التدخل من الجانب الفلسطيني في الأحداث المصرية، ومنها ما يتعلق بالسيكولوجيا الفلسطينية، والوشائج العائلية بين الفلسطينيين في قطاع غزة وأهل مصر. وقلنا إن الفلسطيني لا ولن يتقبل إيذاء المصريين، الذين يَعمُر قلبه بمحبتهم وبالعرفان لفضل مصر بمعيار ذاكرته الوطنية. فقد حدث ما حدث، في "كامب ديفيد" في العام 1978، عندما أبرم أنور السادات الصلح المنفرد بين مصر وإسرائيل، وكانت بوابة قطاع غزة مفتوحة على مصر، على مدار السنة والساعة، ولم يُسجل على فلسطيني واحد أنه تعرض للأمن المصري، لأن الموقف السياسي، مهما اختلفنا فيه مع مصر، لا يدفع، أبداً، إلى المساس بأمن الأشقاء المصريين. وللأسف، وجدنا بعض من أخذتهم الخصومة إلى بعيد، وهم من الفاقدين لمعرفة التجارب في التاريخ، فضلاً عن عدم معرفتهم طبيعة ردود الأفعال المؤكدة من الإعلام المصري في مثل هذه اللُجج، ولطبيعة اللغة التي ستشمل الفلسطينيين جميعاً، وتحث على كراهيتهم، وعلى تسفيه قضيتهم.
وقد نبهنا من انزلقوا إلى تأييد الاتهام الإعلامي المصري لـ"حماس" بالضلوع في جريمة قتل الجنود المصريين الصائمين في شهر رمضان قبل الماضي؛ أنهم يفتحون على الشعب الفلسطيني، قاطبةً، لا على "حماس" وحدها، نار جهنم، ظلماً واعتباطاً. قلنا لهم إن مدرسة موسى صبري وإبراهيم سعدة وأنيس منصور، وسواهم، لا تزال ماكثة في ثنايا الإعلام المصري، وهذه مدرسة جعلت الفلسطينيين الظلمة الذين باعوا بلادهم، ثم طاردوا المشتري ومارسوا "الإرهاب" ضده. اليوم، نحن مضطرون إلى قطع المسافة في الاتجاه المعاكس، لتعيين الفارق بين رأي سياسي لجماعة من بيننا، بشأن ما جرى في مصر، وبين أن يكون الفلسطيني قد اقترف، أو مستعداً لاقتراف جنايات ضد مصريين أبرياء من المجندين، أو من عابري السبيل، أو حتى من القائمين على الأمر!
تصادف أيامَ تلك الاتهامات التي انساق معها بعضنا بدافع الخصومة، أن آلاف الفلسطينيين كانوا حصلوا حديثاً على الجنسية المصرية، ليس من باب الأعطيات للفلسطينيين، وإنما لدواعٍ دستوريةٍ، اقتضت إنصاف المرأة المصرية، ومنحها الحق كالرجل، في إعطاء أبنائها الجنسية المصرية. وربما يكون بعض الذين حصلوا على الجنسية سارعوا إلى الانخراط في المشهد السياسي المصري، لممارسة مصريتهم، وكانت لهم ميولهم الإسلامية!
الآن، بات على حكومة التوافق الانتقالية أن تعبّد الطريق إلى مصر من جديد. وسيكون سهلاً عليها، فتح المجال الأمني الفلسطيني لجهاز المخابرات المصرية، بالمعنى التقني والتنظيمي، الذي سيُنشئ انطباعاتٍ عن العقيدة الأمنية التي لا يملك الفلسطينيون سواها، ولا يعترض عليها المصريون. فليس للفلسطيني أية معركة خارج الأراضي المحتلة والمحاصرة، سوى مواجهة أبغض وأعتى وآخر احتلال عسكري في العالم.
إن أية خطوة فلسطينية في اتجاه الإقليم والجوار العربي لن تستمد صدقيتها إلا من خلال مراكمة عناصر النصاب الدستوري، ومن خلال تفعيل مؤسسة الرقابة والتشريع، وإعمال مبدأ المساءلة، وتعزيز المنظومة القضائية، لكي تساعد بنزاهة، في حل قضايا مجتمعية عالقة، ولكي يصبح صعباً على أي طرف العودة عن خطوة المصالحة، ولكي يكتسب الموقف الفلسطيني الوطني صدقيته، من خلال اتساع قاعدة التمثيل واتساع دائرة التشاور، وبتوفر الضمانات الكفيلة بانسجام، والقوانين والقرارات مع المرجعية الدستورية.
يمكن القول إن الإعلان عن الحكومة، مع الإصرار على المصالحة، هو الخطوة الجريئة الأولى، على طريق طويل. ويطمح الفلسطينيون إلى الوصول إلى حال، يستطيعون فيه رفع سقف خطابهم السياسي، مستندين إلى صلابة الموقف الوطني، لكي يُقال لنتنياهو عندما يعترض على "حماس" إن الاعتراض الأوجب، هو على ضم حكومتك متطرفين مهووسين، لا علاقة لهم بدنيا البشر الأسوياء.
«الإخوان المسلمون» و«النهضة»: حزبان أم حركتان أم الاثنان معاً؟
بقلم: روجر أوين عن الحياة اللندنية
تصف جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر نفسها بأنها «مجتمع» فيما تعتبر «النهضة» في تونس نفسها «حركة». لكن، ونظراً إلى الظروف الخاصة التي أنشأتها الانتفاضات العربية في عام 2011، أصبح كلاهما حزبين سياسيين. وأثار ذلك بدوره مشاكل عدة بالنسبة إليهما وبالنسبة إلى أعضائهما والرأي العام على حدّ سواء.
ومن المعلوم أنّ حسن البنّا، مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، كان يرغب في أن تمثّل حركته ضمير الأمة، وخدمه هذا الموقف في السنوات التي كان فيها «الإخوان» جزءاً من الحركة الوطنية الواسعة ضد الاحتلال البريطاني. كما قام البنّا بنشر مواقفه هذه عبر الصحف، والخطابات، والرسائل الشهيرة التي أرسلها إلى الملك فاروق، بهدف لفت الانتباه إلى الممارسات التي كان يعتبر أنها تشكل خطراً على العقيدة الإسلامية.
ومع ذلك، بدأت مشاكل جديّة تبرز قبل سنوات عدة من اغتيال البنّا في عام 1949. فمن جهة، ازداد عدد أعضاء «الإخوان المسلمين» إلى حدّ أنّ الجماعة لفتت انتباه المزيد من السياسيين العلمانيين، إما لأنهم رأوا في الأعضاء المنتمين إليها ناخبين محتملين لأحزاب على غرار حزب «الوفد»، أو لأنهم شعروا بالقلق جرّاء ازدياد نفوذ «الإخوان». ومن جهة أخرى، برزت مشاكل مع بعض الناشطين الشبّان، الذين شعروا بوجوب تكثيف تحرّكاتهم، للردّ على ما قاله البنّا بأنّ الإسلام في خطر وبأنه يجب إعادة الشعب الإسلامي برمته إلى الطريق الصحيح برويّة وصبر. بالتالي، نشأ جهاز سرّي، وبدأت دورة عنيفة من الاغتيالات، انتهت بمقتل البنّا نفسه. وما أعقب هذا الحدث معروف، إذ عانى «الإخوان المسلمون» اضطهاداً في عهد جمال عبد الناصر، وعادوا إلى النشاط في عهد أنور السادات، كما أرسوا شراكة محدودة في الإدارة الاجتماعية في عهد حسني مبارك.
وقد حظيت جماعة «الإخوان المسلمين» بفرصة مفاجئة بإعادة إحياء حظوظها جرّاء الظروف الخاصة التي نتجت من انتفاضة عام 2011، بفضل الانتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة إرساء دستور جديد، ومن ثمّ إلى مرحلة الانتخابات الوطنية، التي فازوا بها نظراً إلى تاريخهم كمعارضة وتنظيم شعبي حاشد. إلا أنّ كلّ ما اختبره «الإخوان المسلمون» هو المعاناة جرّاء هذا الفوز، بعد أن بدأت سيطرتهم على الحكومة تثير الشكوك في أوساط الرأي العام، الذي شعر بالقلق جرّاء افتقار الجماعة المذكورة إلى الانفتاح، واستيلائها على الوظائف الحكومية، وعجزها الواضح عن إيجاد حلّ لأزمة البلاد الاقتصادية والاجتماعية. ولا عجب في أنّ عدداً كبيراً من المراقبين خلصوا إلى أنّ تحوّل الجماعة من حركة دينية إلى حزب حاكم كان خطأ فادحاً.
ثمّة عبر كثيرة يمكن استخلاصها أيضاً من عملية الانتقال السياسي الأكثر تعقيداً في تونس. فهناك أيضاً، فازت حركة «النهضة» في انتخابات عام 2011 وباتت حزباً سياسياً، مع أنها لم تفز بها، لحسن الحظ، بأكثرية ساحقة تخوّلها تشكيل حكومة بمفردها، ولكنها سمحت لها أن تكون جزءاً من ائتلاف أوسع يضمّ حزبين علمانيين صغيرين. ونتيجةً لذلك، أُجبِر زعيم حركة «النهضة» راشد الغنوشي وأعوانه المقرّبون على الإقرار بقوة المعارضة الشعبية إزاء إخفاقهم الكامل في إيجاد أيّ مخرج لمشاكل البلاد الاقتصادية الكبيرة، مع العلم أنّ هذا هو العامل الأساسي الذي يقف خلف استقالتهم القسرية في أيلول (سبتمبر) 2013 لمصلحة حكومة موقتة تضمّ خبراء.
وعند هذا الحدّ، تختلف قصة هاتين الحركتين الدينيتين اللتين وصلتا إلى السلطة كحزبين. ففي مصر، وفيما تواجه جماعة «الإخوان المسلمين» محاولة عسكرية جدية تهدف إلى إلغائها كقوة سياسية ودينية على حدّ سواء، لا تزال حركة «النهضة» في تونس تحظى بفرصة لإيجاد مكان لها في إطار النظام الائتلافي والتوافقي الذي سعت جاهدة إلى إرسائه. وبالفعل، يمكن القول بأنّ الحظ كان يقف إلى جانب حركة «النهضة»، لأنّ تونس ليست فقط مجتمعاً أكثر تجانساً من مصر، كونها تملك أيضاً مجموعة قوية من المؤسسات، على غرار «الاتحاد التونسي العام للشغل»، القادر أن يكون حَكماً وطنياً. إلا أنّ البروز القصير الأمد لما اعتُبر حركة متطرفة خطيرة مؤلفة من سلفيين محليين، قدّم لحركة «النهضة» فرصة رائعة كي تبرهن عن عقلانيتها واعتدالها من خلال الانقلاب ضدهم. لكنّ مهارات زعماء «النهضة» وحسن استغلال فترة النفي التي تعرّضوا لها، وقدرتهم على التعلّم من تجاربهم السابقة، كانت كلّها عوامل مؤثّرة إلى حدّ كبير، والدليل على ذلك قيامهم بتطويع عدد من المحاميات الشابات اللواتي يملكن مهارات في صياغة الدستور والتي كانوا يفتقرون إليها.
ومن بين ميزات حركة «النهضة» قدرتها على إيجاد طريقة لاستخدام مواطن قوّتها كحزب وحركة بطريقة تُعتبَر جديدة برأيي، من خلال اعتناق قيادتها نموذج الديموقراطية الذي يفسح المجال للأمرين معاً. والدليل على ذلك المقابلة الأخيرة التي أجريت مع راشد الغنوشي، والتي تحدّث فيها عن مفهوم ما أطلق عليه تسمية «المشروع الاجتماعي الشامل» القائم على ثقافة القيام بأعمال خيرية، إلى جانب اعتماد بُعد سياسي مهمّ يسمح له بأن يدخل في حوار فاعل ومستمر مع القوى الأساسية الفاعلة الأخرى داخل المجتمع التونسي. وبنتيجة ذلك، لم تشارك الحركة فقط في عملية مصمّمة لتوجيه تونس نحو مرحلة انتقالية ضرورية إنّما صعبة من النظام الديكتاتوري إلى نظام أكثر انفتاحاً ومسؤولية، بل مهّدت الطريق أيضاً أمام نشر ممارسة قائمة على التعاون المتسامح بين أفراد الشعب الذي يفترض أن ينظر إلى نفسه أكثر فأكثر على أنّه مجموعة من المواطنين الذين يحظون بحقوق وواجبات.
إلاّ أنّ نجاح هذا الأمر هو طبعاً أمر مختلف تماماً. ولكن، بالنظر إلى الوضع السائد في سائر أنحاء العالم العربي والحاجات الحالية للشعب التونسي، من المؤكّد أنّ المحاولة تستحق العناء. والجدير ذكره أنّ إمكان نجاح العمليّة يرضي رغبة الغنوشي وحركة «النهضة» في تبيان الإمكانية الحقيقية للتوصّل إلى ديموقراطية إسلامية حقيقية. وبالتالي، دعونا نشاهد ما ستؤول إليه الأمور بنظرة تعاطف قدر الإمكان.
الديمقراطية والإسلام والدوران في الحلقة المفرغة
بقلم: أحمد محمود عجاج عن العرب اللندنية
إن الثبات على المبدأ ضروري في العمل السياسي، وبالذات في الإطار الديمقراطي؛ فالثبات على المبدأ يظهر إيمان القائد السياسي بأن ما يخرج به على الناس هو الحق والخير، والمحقق للعزة والرفاهية والمساواة. فالديمقراطية التي قبل بها القادة الإسلاميون إطارا للعمل السياسي، في مصر وتونس، والتي ينادي بها السوريون ويحاول التعايش معها الليبيون، تستدعي من هؤلاء جميعا، وبالذات القادة في مصر، لأن مصر هي الخزان البشري والمختبر الأهم، أن يشرحوا بالتفصيل ماذا يريدون تطبيقه، وما هي القواعد التي يريدون الاحتكام إليها في العمل السياسي؛ كما عليهم أن يثبتوا أن ما يقولونه خارج من صميم قناعتهم، وليس مراوغة لتمرير مرحلة صعبة، ما إن يتجاوزوها حتى ينقلبوا على كل ما نادوا به.
القاعدة الأساس في العمل الديمقراطي أن يعرف المواطنون حقيقة نظامهم السياسي، هل هو إسلامي، جمهوري، ملكي، ويعرفوا أن ما يختارونه يحظى بالإجماع، لأنه دون ذلك يتحول العمل السياسي إلى معركة عبثية بلا مضامين، ويصبح الشخص هو المرتجى وليست المؤسسات، وبذلك تدخل البلاد في دوامة لا تنتهي من عدم الاستقرار.
ففي ديمقراطيات العالم الغربي لم تأت الديمقراطية إلا عبر إجماع شعبي وإيمان بمبادئها، وقواعدها وأطرها الدستورية؛ فالديمقراطية الغربية جاءت انقلابا على النظم الملكية التي كانت سائدة، ولم تأت لتعدّل في النظام الملكي وتدخل عليه بعض التغيرات الطفيفة؛ حتى في بريطانيا التي لا تزال فيها الملكية قائمة، تحولت إلى ملكية صورية مجردة من أية صلاحيات سياسية؛ كذلك فإن شعوب الربيع العربي لم تنتفض لتحدث تغييرات طفيفة على الأنظمة التي أطاحت بها، بل أرادت نظاما جديدا، وقواعد مختلفة، لتؤمن لها الحرية والمساواة، والشفافية، والرفاهية. هنا مربط الفرس؛ ولذلك يتوجب على الجميع أن يكونوا صرحاء وبالتحديد فريقا الصراع في العالم العربي: العلمانيون والإسلاميون.
فالعلمانيون رأوا في الديمقراطية بمثالها الغربي حلا شافيا ووحيدا، وامتلك بعضهم، وليس كلهم، الشجاعة ليؤكد أن ما يريدونه هو تطبيق كامل للنظام الديمقراطي؛ يعني أنهم يؤمنون بالمنظومة الثقافية والاقتصادية والفكرية للديمقراطية؛ فهي بالنسبة إليهم نظام متكامل لا يمكن تجزئته، بل لابد من اعتماده كلية؛ هم يرون أن الديمقراطية تقوم على مبدأ المواطنة، والدولة الترابية، وتداول السلطة، والاقتصاد الحر، والحرية الشخصية، وتثبيت المؤسسات.
والإسلاميون من جانبهم، حسب تنظيراتهم، يؤمنون بأن الإسلام يجسد مبادئ العدل والحرية والاستقلال، ويرون ولو متأخرا أن الديمقراطية هي الوسيلة لتحقيق هذه الأهداف. لكن المشكلة تكمن في غياب الثقة بين الطرفين؛ فالعلمانيون يشككون في طروحات الإسلاميين، ويعتقدون جازمين بأنهم ليسوا جادين في اللعبة الديمقراطية، وأنهم يحاولون ربح الوقت ريثما تتاح لهم فرصة الاستيلاء على السلطة وفرض نظامهم الإسلامي. وقد ساعد على تنامي هذا الشك غياب الرؤية الواضحة للفريق الإسلامي، وانبعاث فئات جهادية ترى في الديمقراطية كفرا وزندقة. ويرى الإسلاميون أن العلمانيين يستبعدون الإسلام من الحياة السياسية.
إذن نحن أمام مفارقة واضحة بين فريقين: علماني يرى أن الإسلامي لا يريد الديمقراطية، وإسلامي يُكذِّب العلماني ويتهمه بأنه يؤمن بالديمقراطية ظاهريا. لا مشاحة أن العلمانيين (الفريق الذي ينادي بالديمقراطية ويرفض المشروع الإسلامي) صادقون في طرحهم، وهم يريدون بالفعل ديمقراطية، كما هي مطبقة أو كما هي مستنسخة من تاريخها الغربي الطويل، لكن السؤال المهم هل الإسلاميون يؤمنون فعلا بالديمقراطية؟ وهل هم مؤمنون بالدخول في لعبتها ومنظومتها، ولا يريدون، كما يقول العلمانيون، استخدامها تقية؟
إن الديمقراطية تقوم على فكرة ثقافة ومواطنة ومؤسسات، وعلى تحقيق الخير العام، كما يفهمه الناس، وترك الحرية للفرد، وتقييد الدولة، وعلى فكرة أن المواطن هو محور الحياة السياسية، وأن ما يختاره هو القول الفصل. كما تستدعي الديمقراطية ضرورة أن يكون المواطن مشاركا في الحياة السياسية، وعارفا ومنخرطا في العمل المؤسساتي، وأنه دون تلك المشاركة لا يمكن للديمقراطية أن تستقيم؛ وعليه فإن المواطن عندما ينخرط سياسيا يكون على دراية بما يريد، وما يرغب بتحقيقه. وحسب ذلك فإن العلماني يرى أن الديمقراطية التي تتجسد بمبادئ، تكرست منذ العهد اليوناني وحتى عصرنا الراهن، هي التي يريدها أن تحكم مسار حياته. وعلى عكسه المواطن الإسلامي الذي يرى أن هذه المثل والقيم والمبادئ الديمقراطية تختلف من حيث الجذور والتاريخ والتطور والرؤية والمرجع، عن قيمه ومثله، وهو يريد أن يطبق الرؤية الإسلامية. هذا الاختلاف ليس نظريا، كما يدعي البعض، ولكل من الفريقين شواهد تاريخية عليها: العلمانيون يسترشدون بما وصلت إليه الأمم الديمقراطية، والإسلاميون يسترشدون بعدالة الخلافة الإسلامية في عصرها الأول.
الأزمة الديمقراطية في بلدان الربيع العربي مردها مراوغة الإسلاميين، ونفاق العلمانيين؛ فالإسلاميون لا يزالون يعتقدون أن الديمقراطية ممكن تطبيقها، وبأنها لا تتعارض مع الإسلام، وأنها قد تكون وسيلة للوصول إلى السلطة وعندها يطبقون مشروعهم، وتطبيقه سيؤدي إلى إزاحة العلمانيين. ويعتقد العلمانيون أيضا أن الإسلام هو ثقافة، ودين مقدس يجلّونه ويؤمنون به، ولكنهم، انطلاقا من هذا الإجلال، يريدون تطهيره وإبعاده عن السياسة، وبالتالي إبعاد الإسلاميين عن تطبيق مشروعهم. هذان النمطان من التنظير هما سبب المشكلة التي تعيشها بلدان الربيع العربي، لأن الفريقين عاجزان عن التوصل إلى صيغة يمكن من خلالها إدارة الحكم وتنظيم تداول السلطة والنهوض بالاقتصاد.
فبعد مرور ثلاثة أعوام على ذهاب القذافي لا يزال الليبيون يتصارعون، ولا يزال فرقاء النزاع في مصر عاجزين عن التوصل إلى تسوية بل لا يزال الاتهام هو السائد والإقصاء هو المعيار، ومسارعة كل منهما إلى استخدام آليات الدعاية الحديثة لا لتوضيح مشروعه المطروح، بل للانقضاض على الآخر بالتجريح والتخوين واللعن والسب. هذا التدهور في التعامل السياسي سمح للديمقراطية أن تفلت من أيدي القادة السياسيين، علمانيين وإسلاميين، وتصبح متداولة بيد الشارع غير القادر على فهم تعقيدات الديمقراطية ولا فهم آلياتها؛ ولذلك كان التضارب والسباب بين الجماعات المؤيدة للفريق العلماني، والجماعات المؤيدة للفريق الإسلامي. وقد بلغ هذا التضارب درجة كبرى من الفوضى شلت مؤسسات الدولة، وأرهقت الاقتصاد، وجعلت دول الربيع العربي تقف على شفا أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة للغاية، وانتهى الأمر في بعض الدول، بموت العملية الديمقراطية برمتها.
إن التحول الديمقراطي في الغرب لم يكن سلسا وخاليا من الأزمات، ولا أحد يتوقع ألا تقع مشاكل في مصر أو غيرها من دول الربيع العربي. لكن القضية ليست بوقوع المشكلة بل بالمشكلة ذاتها، بمعنى أن الغرب عندما واجه مشاكل لم تكن من النوع الذي تعيشه مصر، وبالتالي فإن الحلول المقترحة للعلاج لا يمكن أن تكون هي ذاتها؛ ولكي نكون أكثر وضوحا فإن مفكري الغرب، عندما حاولوا وضع الأسس والقيم التي تقوم عليها الديمقراطية لم يجدوا اختلافا في هذه القيم ولا في المثل ولا في الرؤية وذلك لأنهم كلهم مسيحيون (مع مراعاة الاختلاف الفقهي)، وكلهم أوروبيون.
وكمثال، فإن رجال أميركا العظام مثل ماديسون ولنكولن، وجيفرسون، انشغلوا لا بإعادة صيغ القيم والمبادئ، بل بكيفية ضم الولايات الأميركية المختلفة على أساس اقتصادي وتوحيد البلاد وإيجاد نظام سياسي يضمن التمثيل لكافة القوى، ويؤمّن إقامة كيان قوي يوفر للجميع العيش الرغيد والمساواة. وجدوا أنفسهم أمام مشكلة مختلفة عن مشكلة بلدان الربيع العربي، ووضعوا لها حلولا، فعدّلوا مفهوم الديمقراطية اليوناني، وعدلوا مفهومها الجمهوري الروماني، وخلقوا ديمقراطية تمثيلية تناسبهم، وتحقق ما يصبون إليه.
إن العالم العربي يعيش أحلك حالاته، وأمام قادته وأبنائه من المفكرين والناشطين فرصة لترميم البيت وبناء الإنسان والمؤسسات والارتقاء بالوطن، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالاتعاظ بتاريخ الأمم وتجاربها، وما تشديد الإسلاميين والديمقراطيين على تطبيق الديمقراطية إلا دليل على فهمهم لهذا الواقع، وما يلزمهما هو وقف التشكيك، والسير في عملية بناء الثقة والابتداء من أماكن الالتقاء وترك مواطن الخلاف للنقاش داخل المؤسسات؛ ولذلك فإن الشرط لنجاح تجربتنا هو بناء المؤسسات الدستورية المستقلة لتكون هي الحكم والفيصل، وبدونها سنبقى ندور في الحلقة المفرغة، وسندفع دائما فاتورة باهظة الأثمان.
لا ضرورة لـ«خيبة الأمل» والربيع العربي منتصر لا محالة
بقلم: صالح القلاب عن الشرق الأوسط
بعد أكثر من ثلاثة أعوام على انطلاق الشرارة الأولى لما سمي «الربيع العربي»، وهذه تسمية غربية مقتبسة من «ربيع براغ» في عام 1968، هناك إحساس بخيبة أمل باتت تعم المنطقة العربية كلها وبات الحديث يجري عنها بأصوات مرتفعة في ضوء ما يصر البعض على اعتباره انتكاسات ممثلة بكل هذا الاقتتال الذي اقترب من أن يكون بمثابة حروب أهلية أدت إلى كل هذا الدمار والخراب وإلى ملايين المهجرين داخل أوطانهم وخارجها، إضافة إلى مئات الألوف من القتلى والجرحى والمعتقلين في سجون مظلمة لا أحد يعرف على وجه التحديد أعداد نزلائها ولا أسماءهم.
ولعل ما تجب الإشارة إليه هو أن المصابين بخيبة الأمل هذه هم إما أناس متضررون من هذا الربيع العربي وهم رفضوه بالأساس وبادروا إلى مقاومته منذ اللحظة الأولى، وإما بعض من لا يعرفون أن التحولات التاريخية تمر بمراحل تتخللها مذابح دامية وبحروب أهلية مدمرة قد تستمر لعشرات السنين وأكثر، والمثل على هذا هو الثورة الفرنسية التي انطلقت في عام 1789 ومرت بنكسات ومنعطفات كثيرة قبل أن تحقق أهدافها وتؤدي إلى تغييرات جذرية في مسار حركة التاريخ إنْ في فرنسا وإنْ في أوروبا وإنْ في العالم بأسره.
كل الثورات التي عرفها التاريخ، وأهمها بالنسبة للقرن العشرين الثورة الروسية الشيوعية التي أدت إلى تأثيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية في الكرة الأرضية كلها، قد واجهت انتكاسات وثورات مضادة كثيرة، وواجه بعضها إخفاقات أدت إلى فشلها، كما حصل للاتحاد السوفياتي في بدايات تسعينات القرن الماضي، وكما حصل للمنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وفي العالم كله، وهذا هو ما قد يحصل لبعض «ثورات» الربيع العربي التي حتى وإن هي لم تحقق الانتصار المنشود الآن وعلى المدى المنظور فإنها ستحققه لاحقا لا محالة.
كان الأمل بعد هروب زين العابدين وسقوط نظامه، الذي لم يكن امتدادا لنظام «المجاهد الأكبر» الحبيب بورقيبة بأي حال من الأحوال، وبعد انهيار نظام معمر القذافي ونظام حسني مبارك تباعا وبسرعة ضوئية، أن ينهار نظام بشار الأسد الذي هو أسوأ هذه الأنظمة كلها وأكثرها دموية وأن «تكر المسبحة» بعد ذلك، فيسقط نظام عمر البشير ونظام علي عبد الله صالح الذي إذا أردنا قول الحقيقة فإنه لم يسقط حتى الآن.
إنه من الخطأ اعتقاد أن الثورة المصرية قد فشلت، ولعل ما بات معروفا أن الإخوان المسلمين بتواطؤ أميركي لا يستطيع كائن من كان إنكاره قد تمكنوا من اختطاف هذه الثورة على مدى فترة حكم محمد مرسي، القصير العمر، لكن الشعب المصري ما لبث أن قام بثورة جديدة في يونيو (حزيران) 2013 وتمكن من تعديل مسار حركة التاريخ في بلده، ولعل ما يؤكد هذه الحقيقة هو هذه الانتخابات الأخيرة التي أرست دعائم نظام سيكون تداوليا لا محالة، فزمن الانقلابات العسكرية في هذا البلد الطلائعي العظيم قد ولى وإلى الأبد ومن دون أي رجعة.
إن تجربة الحكم في مصر بعد هذه الانتخابات غدت محكومة بـ«دستور» لا مجال معه للعودة إلى نظام «من المهد إلى اللحد»، وغدت محكومة بإجماع شعبي لا تأثير فيه لكل «عراقيل» الإخوان المسلمين وأتباعهم وكل ما يقومون به من أعمال إرهابية ممولة من أطراف عربية ودولية معروفة، وهنا فإن «خيبة الأمل» التي يجري الحديث عنها بالنسبة لـ«الربيع العربي» كانت في الحقيقة بعد اختلاس «الإخوان» لتضحيات الشعب المصري وعطاءاته التاريخية العظيمة وبعد انحرافهم بإنجازات الثورة المصرية نحو أبشع استبداد سياسي وفي اتجاه أبشع «ديكتاتورية» ترتدي أردية دينية مزيفة وغير صحيحة لو لم تتصدَ لها ثورة يونيو لكانت أخذت هذا البلد إلى كهوف أسوأ أنظمة الحكم الشمولية التي عرفتها هذه المنطقة وعرفها العالم بأسره.
ثم إنه غير جائز إطلاقا أن يحكم على الربيع العربي بأنه انتهى إلى خيبة أمل محبطة لأن الثورة السورية لم تستطع حسم الأمور وإسقاط نظام بشار الأسد بالسرعة المتوقعة، فالمعروف أن سوريا قد حولتها المؤامرة، المتورط فيها هذا النظام حتى عنقه، إلى ساحة صراع إقليمي وصراع دولي، وأن الشعب السوري قد واجه، ومنذ الأيام الأولى لثورته، روسيا بكل قدراتها العسكرية والسياسية وإيران بأموالها وأسلحتها وحراس ثورتها، وكل هذا بالإضافة لكل هذه المجموعات المذهبية التي تم استيرادها من العراق ومن دولة الولي الفقيه وأيضا من باكستان وأفغانستان ومن كل حدب وصوب.. وأيضا وكل هذا بالإضافة إلى دخول «حزب الله» بـ«ميليشياته» وأسلحته وأمواله الحرب ضد المعارضة السورية.
ويقينا أنه لولا هذا كله ولولا تخاذل الولايات المتحدة ومعها كل دول الاتحاد الأوروبي من دون استثناء حتى ولا دولة واحدة وتخاذل بعض الدول العربية، لكان نظام بشار الأسد قد سقط بالسرعة نفسها التي سقط فيها نظام زين العابدين بن علي ونظام معمر القذافي ونظام حسني مبارك، فهذا النظام، نظام بشار الأسد، بعد اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، وبعد إجباره بإخراج قواته من لبنان، أصبح يعيش ظروفا في غاية الصعوبة وأصبح آيلا للسقوط في أي لحظة، ويقينا أنه ما كان بإمكانه الصمود والاستمرار ولو لأسابيع قليلة بعد انطلاقة شرارة درعا المعروفة في عام 2013 لولا دخول الروس والإيرانيين بكل قواهم وبكل إمكانياتهم العسكرية والمالية والسياسية إلى مسرح المواجهة التي تحولت إلى حرب مدمرة من غير المستبعد أن تتواصل وتستمر لسنوات طويلة.
لكن رغم هذا فإن ما يجب تأكيده هو أن ثورة الشعب السوري سوف تنتصر في النهاية، وأن هذا النظام مصيره إلى الزوال لا محالة مهما تلقى من دعم مستعار من روسيا ومن إيران ومن غيرهما، فالغلبة هي دائما وأبدا للشعوب المنتفضة والدم سينتصر حتما على السيف، وبالتالي فإنه إذا كان هناك مصاب بخيبة الأمل وبالإحباط والقنوط واليأس فإن هذا يقتصر على «المؤلفة قلوبهم» وعلى أصحاب الألوان الرمادية وعلى الانتهازيين الذين ركبوا الموجة عندما ظنوا أن الانتصار سيكون قريبا وعلى أساس الحكمة القائلة: «إن الثورات يصنعها الأبطال والشجعان، وإن من يقطف ثمارها في بعض الأحيان هم الجبناء والانتهازيون»!
وهكذا فإن الثورة السورية ستنتصر حتما ولا محالة، وإذا كان البعض قد أصيبوا بـ«خيبة الأمل» نتيجة اشتداد كل هذا العنف، وحيث بات معروفا ومؤكدا ومما لا نقاش فيه أن هذه الحرب التدميرية والدموية التي تشن على الشعب السوري هي حرب إيرانية وحرب روسية وحرب الشراذم المذهبية التي تم استيرادها من العراق ومن إيران ومن أفغانستان وباكستان ومن لبنان أيضا فالحكمة تقول: «إن اشتداد الظلمة يعتبر دليلا على اقتراب الفجر». ولذلك فإن المؤكد أن فجر سوريا الجديد قد اقترب وأن نهاية مأساة شعبها التي كانت بدأت في بدايات ستينات وبدايات ثمانينات القرن الماضي قد أصبحت على الأبواب.. وأن النصر قد غدا متوقفا على مجرد صبر ساعة.
وكذلك وحتى بالنسبة لليبيا فإن هذا الذي تعيشه الآن هو عبارة عن أوجاع مخاض الولادة الجديدة التي لا بد منها، فهذا البلد مثله مثل سوريا قد ابتلي بنظام حكم تمكن من تدمير الحياة السياسية على مدى أربعين عاما وأكثر، وبالتالي فإنه لا ضرورة لـ«خيبة الأمل»؛ فالتحولات التاريخية وكما تمت الإشارة إليه آنفا لا بد من أن تمر بمراحل انتقالية صعبة، ولا بد من أن ترتطم بصعاب ومصاعب كثيرة، ولا بد من أن تصطدم بالقوى المضادة التي هي الآن كل هذه المجموعات الإرهابية المختلفة المشارب والمتعددة المرجعيات والتي هي الإخوان المسلمون الذين بعدما خسروا الحكم في مصر تحولوا إلى المزيد من العنف، وعلى طريقة «عليّ وعلى أعدائي».. ولكن في النهاية فإن الشعب الليبي مثله مثل الشعب السوري سينتصر حتما وكما انتصر الشعب المصري وتوّج انتصاره بهذه الانتخابات الأخيرة.
نسائم ربيع أوروبى
بقلم: جميل مطر عن الشروق المصرية
أطلقوا عليه الزلزال الذى هز أسس الوحدة الأوروبية وقضى على آمال الوحدويين الأوروبيين. آخرون راحوا بعيدا جدا فاستعاروا من جنوب المتوسط ما يعرف بثورة الربيع ليصفوا به هذا التطور المذهل، بينما اعتبرت الصحف الرأسمالية الكبرى فى أمريكا وانجلترا ما حدث جانبا، لا أكثر ولا أقل، من جوانب الحملة الناشبة على النظام الرأسمالى. هذه الحملة التى تسعى، حسب رأى هذه الصحف، للتدليل على أن تجربة الليبرالية الجديدة تسببت فى فجوة لا مساواة شاسعة، وأن هذه الفجوة تقف الآن وراء كل مصيبة أو كارثة تحدث فى العالم الرأسمالى. هناك أيضا بين قوى اليسار المعتدل فى أوروبا من يلقى بالمسئولية على الأزمة الاقتصادية التى نشبت فى عام 2008 ولاتزال مستمرة. فقد دفعت الأزمة حكومات أوروبا إلى انتهاج سياسات تقشف وركود اقتصادى، دفعت بدورها إلى بطالة أشد فتوتر اجتماعى امتد ليشمل معظم أنحاء أوروبا الغربية. كانت أحد مظاهر هذا التوتر الزيادة الملموسة فى المشاعر العنصرية ضد المهاجرين المسلمين والأفارقة والأوروبيين الشرقيين.
•••
أما التطور الذى استدعى هذا الفيض المتدفق من التعليقات والمواقف السياسية، فهو الزيادة المفاجئة فى نصيب الأحزاب والتيارات المناهضة للوحدة النقدية الأوروبية فى الانتخابات التى جرت لشغل مقاعد البرلمان الأوروبى. كان وقع الزيادة مفاجئا إلى حد جعل كثيرا من ردود الفعل تلجأ إلى المبالغة فى تصوير أبعادها وتقدير نتائجها. فقد ربط أحد ردود الأفعال مثلا بين هذه الزيادة فى أصوات اليمين وأحداث أوكرانيا، وبالتحديد سياسات الرئيس بوتين وبخاصة توجهاته القومية المتشددة ودعوته الشعب الروسى إلى العودة للاعتزاز بوطنه وسيادته. ظهر فى التعليقات وردود الفعل وكأن أوروبا مقبلة على نازية جديدة تزحف من جميع الأنحاء فى اتجاه جميع الأنحاء، وظهر فلاديمير بوتين، أو نظام حكمه، وكأنه جوهر هذه النازية الجديدة.
زاد من المبالغات وتهويل الموقف أن اجتماعا طارئا لوزراء الاتحاد الأوروبى تقرر عقده على الفور، باعتبار أن ما حدث يقع تحت عنوان الأزمة. اعتبروا أيضا أن الحاجة ماسة لاختيار أسماء جديدة بمواصفات مختلفة لقيادة الاتحاد الأوروبى خلال سنوات عصيبة قادمة.
•••
من بعيد، أى من هنا فى القاهرة مثلا، كان فى الإمكان التأمل فيما حدث بهدوء. بدا واضحا بالنسبة لى على الأقل أن تصعيد الحدث وتضخيمه تقف وراءهما قوى إعلامية ضخمة هالها الأمر أو لعلها توجست شرا من ترابط حدثين: الأول هو الاهتمام الهائل بالكتاب ذائع الصيت الذى يحمل عنوان «رأس المال فى القرن الحادى والعشرين»، باعتباره الكيان الذى قام بتشريح المرحلة الرأسمالية الراهنة بشكل لم يسبقه إليه مفكر آخر ماركسى أو غير ماركسى.. أما الثانى فهو هذا الصعود المفاجئ للقوى السياسية الأوروبية المناهضة لكثير من ممارسات الاندماج الأوروبى. لم يكن مفاجئا لنا أن نرى الصحف اليمينية الأمريكية الأشهر مثل الوول ستريت جورنال وجرائد بريطانية متميزة مثل الفاينانشال تايمز تقود صيغ المبالغة فى تصوير التطور الانتخابى الأوروبى وأبعاده. لا يخفى بطبيعة الحال أن بعض هذه الصحف يقرأها قبل غيرها، وربما لا يقرأ غيرها، أفراد النخبة الاقتصادية -السياسية الأوروبية، خاصة أن «أوروبا الموحدة» لم تفرز بعد شبكة اتصال وإعلام أوروبية، كالشبكة الإعلامية الأنجلوسكسونية.
بعد يومين من التأمل والدراسة ونشر بيانات جديدة اتضح أن الصعود المفاجئ فى أصوات الناخبين المؤيدين للأحزاب المناهضة لليورو وهيمنة الاتحاد الأوروبى، لم يقتصر على الناخبين ذوى التوجه اليمينى. بمعنى آخر لم يكن ما حدث دليلا ناصعا كما ادعت الصحف الأنجلوسكسونية، على أن النازية تبعث من جديد أو تنتعش فى أوروبا الغربية، أو أن أوروبا بأسرها تتجه نحو اليمين. صحيح أن حزب السيدة لوبان فى فرنسا تخطى بالأصوات التى حصل عليها أصوات حزبى المحافظين والاشتراكيين اللذين احتكرا السلطة منذ عقود، وصحيح أن حزب الاستقلال البريطانى ذى النزعة اليمينية المتطرفة تقدم فى هذه الانتخابات على حزبى العمال والمحافظين، إلا أنه صحيح أيضا أن حزب سيريزا اليسارى اليونانى فاز فوزا ساحقا طارحا برنامجا مناهضا لأوروبا الموحدة وكذلك تقدم الحزب الإيطالى الذى يقوده السنيور بيبى جريللو، ويعتبر من الأحزاب اليسارية المعتدلة، وحزب بوديموس «نستطيع» فى إسبانيا.
•••
أحزاب اليمين ظهرت قوية فى هذه الانتخابات «الأوروبية المستوى والمسرح» وربما أقوى من حقيقتها على المسرح المحلى. مثلا الحزب من أجل الحرية الهولندى، وحزب الرابطة الشمالية فى إيطاليا وحزب الحرية النمساوى وحزب فلامس بيلانج البلجيكى والجبهة الوطنية فى فرنسا، وحزب الفجر الذهبى النازى التوجه فى اليونان، وثلة من أحزاب ثانوية فى دول أخرى. هذه الأحزاب ظهرت أقوى من حقيقتها، ولعلها الآن تعتبر هذه القوة حافزا لتحصل على نسبة مماثلة فى أول انتخابات قومية قادمة.
من ناحية أخرى، ليست كل هذه الأحزاب اليمينية متفقة تماما على الهدف وعلى البرنامج. كان مثيرا موقف رئيس حزب الاستقلال البريطانى الذى فاز بنسبة 27٪ بينما لم يحصل حزب العمال إلا على 25٪ وحزب المحافظين الحاكم على 24٪، حين قال زعيمه إنه لن يشارك فى أى جبهة فى البرلمان الأوروبى مع حزب لوبان الفرنسى بسبب ميوله المعادية للسامية. وفى ألمانيا مثلا يتخذ حزب «البديل لألمانيا» موقفا ضد اليورو ولكن يؤيد أوروبا الموحدة. وعلى كل حال لا يجوز أن نغفل حقيقة هامة وهى أن مشاركة الأحزاب اليمينية فى الانتخابات الأوروبية دليل فى حد ذاته على أنها تؤمن بالفكرة الأوروبية.
من ناحية ثالثة، رغم هذا الفوز الكبير لأحزاب تنتقد الاتحاد الأوروبى، مازالت الأحزاب التقليدية المؤيدة للاتحاد ولعمل المفوضية الأوروبية تحتفظ بأغلبية الأصوات فى البرلمان الأوروبى. فمن بين 751 مقعدا فى البرلمان الأوروبى يحتل المعارضون الجدد ما لا يزيد على 229.
هناك بلا شك ميل أوروبى نحو اليمين، ولعله يوجد فى أقاليم أخرى بدليل الاتجاه المتزايد لتقليص الاهتمام بالديمقراطية، واتجاه متزايد آخر لدعم قوة الدولة فى مواجهة تيارات الإصلاح والمشاركة والعدالة الاجتماعية. أستطيع القول بثقة أن هذه الزيادة فى أصوات الناخبين الأوروبيين لصالح تيارات يمينية ويسارية لم تأت من فراغ، إنما جاءت نتيجة منطقية لاستمرار تداعيات أزمة 2008 الاقتصادية والركود الاقتصادى المتواصل، جاءت متوافقة مع مزاج رافض للنخب السياسية الحاكمة ولاختياراتها، رأينا هذا المزاج بوضوح على المسرح السياسى الإيطالى، ونراه فى فرنسا وإسبانيا واليونان، ونراه فى صورته الكاشفة فى دول الربيع العربى.
كان لابد أن تنعكس هذه الأحوال على السلوك الانتخابى للمواطنين فى معظم أنحاء أوروبا. كان متوقعا مثلا بين أكثرية المتابعين للتطور الاجتماعى وتداعيات الأزمة الاقتصادية فى أوروبا أن تتصاعد مشاعر الكراهية وممارسات الرفض للمهاجرين، وهى الكراهية التى يبدو أنها وصلت إلى أوجها فى فرنسا واليونان وبريطانيا. انعكست أيضا على أمن أوروبا واستقرارها، فالحادث فى أوكرانيا ليس بعيدا تماما عن هذه الأحوال فى غرب القارة. الأمر الذى يبدو مؤكدا هو أنها صبت فى صالح بوتين الذى استفاد من أزمات أوروبا الغربية ليركز جهوده على مقاومة توسيع الاتحاد الأوروبى، واثقا من أنه فى هذه القضية بالذات تتوافق سياسته مع رغبات الناخبين فى غرب أوروبا.
•••
رغم التهويل والتضخيم فى تصوير نتائج الانتخابات الأوروبية وأبعادها المحتملة ما زلت أعتقد أن انزعاج قادة أوروبا حقيقى. فالنتائج وإن كانت لا تعبر تماما عن اهتمامات عاجلة وحيوية للشعوب، باعتبار أنها تتعلق بانتخابات لبرلمان أوروبى لا يقرر مباشرة فى شئون داخلية للدول الأعضاء، إلا أنها، أى النتائج، تمثل إنذارا من الناخبين للمسئولين الأوروبيين للتوقف عن تسهيل الهجرة بين دول الاتحاد ومن خارجه، وتعلن مرة أخرى، وهو الأهم، أن الشعوب ليست مستعدة بعد للتنازل عن سيادتها لكيان إقليمى يدار بأشخاص من جنسيات أخرى يتدخلون فى شئون مواطن عادى لا يعرفهم ولا يستطيع محاسبتهم.


رد مع اقتباس