اقلام محلي 545
11/11/2013
في هذا الملـــــف:
الذكرى التاسعة
بقلم: حديث القدس – القدس
المدخل الفعلي لإنهاء المأزق الفلسطيني
بقلم: علي جرادات – القدس
أبا عمار ..الريح التي حركت الجبل
بقلم: النائب الدكتور أحمد الطيبي – القدس
سياسة إسرائيل تقودها إلى الهاوية
بقلم: طلال عوكل – الايام
غول الطائفية يأكلنا جميعاً
بقلم: د. خالد الحروب – الايام
ياسر عرفات
بقلم: د.عاطف أبو سيف – الايام
شجرة الذاكرة
بقلم: يحيى رباح – الايام
الحكاية التي لا تموت
بقلم: محمود ابو الهيجاء – الايام
الذكرى التاسعة
بقلم: حديث القدس – القدس
أحيا شعبنا في الوطن والشتات الذكرى التاسعة لاستشهاد رمزه الوطني، قائد ثورته المعاصرة الذي كرس حياته لفلسطين، الشهيد الخالد الرئيس الراحل ياسر عرفات في الوقت الذي اتضحت فيه بعض ملامح جريمة اغتياله بعد صدور التقريرين السويسري والروسي وما أكدته اللجنة الوطنية للتحقيق من العثور على آثار مادة البولونيوم واستشهاد الرئيس عرفات بالسم، وهو ما يضيف بعدا آخر لإحياء الذكرى هذا العام ، ليس فقط من خلال التعهد بالمضي على نفس نهج الرئيس الراحل والتمسك بالثوابت الوطنية والحقوق المشروعة لشعبنا وصولا الى فلسطين الحرة المستقلة، وانما ايضا التعهد بمواصلة التحقيق في ظروف استشهاد الرئيس الراحل وصولا الى كشف الحقيقة كاملة، سواء الجهة التي وقفت وراء الجريمة او الأيادي المنفذة.
وقد وضع الرئيس محمود عباس النقاط على الحروف أمس في خطابه بهذه المناسبة عندما أكد ان القيادة الفلسطينية ماضية على نهج الرئيس الراحل ابو عمار ولن نفرط بذرة تراب واحدة ، وأن كل أشكال الاستيطان باطلة وان القيادة متمسكة بالحقوق الثابتة والمشروعة لشعبنا، وعندما اكد ان لجنة التحقيق الوطنية ستواصل عملها لكشف الحقيقة كاملة وأن هذه اللجنة تحظى بدعم القيادة الفلسطينية.
ومن الواضح ان هذه الذكرى وحدت شعبنا بأسره في الوطن والشتات وكل فصائلة وقواه الوطنية باستثناء اولئك الذين أصروا على منع إحياء هذه الذكرى في غزة متنكرين لرمز شعبنا الوطني ونضاله ودوره في كل ما حققه شعبنا من إنجازات بما في ذلك قيام سلطته الوطنية ومشاركتهم أنفسهم في الانتخابات السابقة في إطار الكيان السياسي الذي أنجزه الرئيس الراحل. وهنا يثار التساؤل كيف لهؤلاء ان يدعوا أنهم يحرصون على تحقيق المصالحة في الوقت الذي يتخذون فيه مثل هذه المواقف ، خاصة وان الشهيد الراحل ياسر عرفات لم يكن قائدا فقط لفتح وإنما للشعب الفلسطيني بأسره.
واليوم وسط هذه الذكرى من الواضح ان تحديات جساما ما زالت ماثلة أمام شعبنا ونضاله العادل في الوقت الذي تواصل فيه اسرائيل تكريس احتلالها وتوسيع الاستيطان وتهويد القدس وحصار قطاع غزة ونسف أسس ومبادىء عملية السلام والتنكر للاتفاقيات الموقعة ومحاولة حرف الأنظار عما تمارسه من أفعال باطلة.
ولهذا نقول ان الوفاء للشهيد الراحل الرمز ياسر عرفات يكمن في تعزيز وحدتنا الوطنية ومواصلة المسيرة الشاقة والطويلة لإنهاء الاحتلال غير المشروع وانتزاع حقوق شعبنا في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف وحل قضية اللاجئين وفقا للقرار الدولي ١٩٤ القاضي بعودة وتعويض اللاجئين.
وإن ما نشهده اليوم من تمسك القيادة الفلسطينية بهذه الثوابت والمقاومة الشعبية المشروعة لجدار الفصل العنصري وللاستيطان والدفاع عن الأقصى في مواجهة انتهاكات اسرائيل ومتطرفيها ، إنما يؤكد على ان شعبنا ما زال نابضا بالحياة مؤمنا بالحرية ووفيا لقوافل شهدائه وعلى رأسهم الشهيد الرمز ياسر عرفات ولقوافل جرحاه وأسراه.
وتخطىء اسرائيل خطأ جسيما اذا ما اعتقدت أو راهنت بأن شعبنا يمكن أن يستسلم أو يتنازل عن حقوقه الوطنية الثابتة والمشروعة.
المدخل الفعلي لإنهاء المأزق الفلسطيني
بقلم: علي جرادات – القدس
«الاستيطان جوهر الصهيونية» . هكذا بوضوح لا لبس فيه أكد، ككل القادة الاسرائيليين، اسحق شامير أحد ملهمي نتنياهو الذي يترأس اليوم حكومة مستوطنين حتى باعتراف جهات سياسية إسرائيلية .
لذلك فإنه كما حال عشرين عاماً من التفاوض كان من الطبيعي ألا يفضي استئناف التفاوض-بضغط أمريكي- “دون شروط مسبقة”، أي التفاوض لأجل التفاوض، إلا إلى تمادي حكومة نتنياهو في تنفيذ مخططها الاستيطاني التهويدي، من جهة، وإلى تعميق مأزق قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، من جهة ثانية . فستار السرية المفروض بطلب أمريكي على مجريات التفاوض لم يستطع إخفاء أن ثلاثة أشهر من التفاوض لم تنجح في زحزحة حكومة نتنياهو قيد أنملة عن ثوابت الرؤية الاسرائيلية، بل وشجعتها على المزيد من التطرف السياسي والتشدد الأيديولوجي والتمادي الأمني والعسكري بهدف تمرير الاعتراف بكيانها غير محدد الحدود “دولة لليهود” وترسيم السيطرة على منطقة الأغوار ومعابر الحدود مع الأردن، والاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى، ناهيك عن محاولة تمرير اعتماد جدار الفصل، بما التهم من أراضي الضفة الغربية، أساساً سياسياً للحدود، وصولاً إلى إخراج جوهر القضية الفلسطينية، حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم التي شردوا منها، من دائرة البحث .
وكذا قضية القدس التي يجري تهويدها على قدم وساق وبصورة غير مسبوقة إلى درجة أن يصبح تشريع التقسيم المكاني والزماني للمسجد الأقصى وباحاته بنداً على جدول أعمال لجنة الداخلية في “الكنيست” .
كل هذا بينما تستهلك أطراف قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها في أزمة انقسامها الداخلي الذي عوض أن يسارع طرفاه إلى إنهائه نجدهما يعمقانه ويحولانه، بلا لبس، إلى صراع على التمثيل السياسي، الأمر الذي يحول دون إطلاق خطة سياسية فلسطينية موحدة تؤدي إلى توفير ركيزة تنظيمية وطنية لتطوير الهبات الجماهيرية المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية متصلة ومتصاعدة تستطيع، فيما تستطيع، تفعيل العامل القومي الذي بغير استنهاضه، بالمعنيين الرسمي والشعبي، لا مجال لردع حكومة المستوطنين التي تدعمها، بل ترعاها بلا حدود، سياسة امريكية منحازة لاسرائيل.
هذا علماً بأن استمرار الانقسام والمفاوضات لن يثمرا إلا استمرار دوران الموقف الفلسطيني في هامش ما تخطط له الإدارة الأمريكية وحكومة المستوطنين أي تعطيل كل إمكانية لعودة العامل الوطني الفلسطيني إلى مركز الحركة الواسعة والتحولات الكبيرة الجارية في المنطقة والعالم . فحكومة نتنياهو، ككل حكومات إسرائيل منذ “مؤتمر مدريد للسلام” في العام 1991 لديها تصورات مسبقة للتعامل مع الصراع على المستويين الفلسطيني والعربي، ما يعني أنها تدير عملية التفاوض بعقلية تاجر الجملة الذي لا يتعامل مع القضايا بالمفرق . أما إدارة أوباما فتفكر في العامل الفلسطيني كعامل يجب تهدئته وتثبيته لتفادي أن يأخذ مفاعيله وآثاره في مجمل تغيرات موازين القوى في السياسة الدولية ونظامها ومؤسساتها .
هنا يتبدى أن قيادتي منظمة التحرير و”حماس” صارتا أمام حقيقة مرة، جوهرها، أنهما تسيران، وكل منهما على طريقته، على سكة قطار قديم وتغفلان أن السكة تغيرت وأن استمرار سيرهما متعاكسين فيها يعرضهما ومعهما القضية الوطنية للمهالك، ويضعهما سوياً خارج لعبة التحولات العاصفة، إقليمياً ودولياً، بينما تعمل حكومة نتنياهو في السر والعلن، وبالتنسيق الكامل مع الإدارة الأمريكية، على توظيف هذه التحولات لمصلحة أمنها وتوسعها . تشير إلى ذلك بجلاء التسريبات حول نية إدارة أوباما تقديم “مبادرة تقريب” أو “حل وسط” لضمان تعطيل إمكانية الانفجار الشعبي، بل ولضمان تعطيل استخدام الفلسطينيين لحقهم في الذهاب إلى هيئة الأمم المتحدة والانضمام لعضوية وكالاتها التخصصية .
وبالمحصلة ضمان بقاء انقسامهم الداخلي واستمرارهم في المفاوضات بعد انقضاء فترة التسعة أشهر المحددة لها . هذا ما يشي به أن جوهر “المبادرة”- حسب التسريبات الإعلامية الإسرائيلية التي “لا تنطق عن الهوى”- يقوم على إعادة تركيز المفاوضات على التوصل إلى حل مؤقت، المرادف ل”الدولة ذات الحدود المؤقتة”، وعلى إرجاء قضايا “الحل النهائي”، أي جوهر الصراع، والاكتفاء بتوقيع إعلان مبادئ عام حولها، ما يشي بأننا أمام محاولة لفرض اتفاق بمضمون اتفاق “أوسلو”، إنما بمسمى جديد يلبي مطلب حكومة نتنياهو التي تريد استمرار المفاوضات إنما خارج مرجعيات القرارات الدولية ذات الصلة بجوهر الصراع، وبما يكفل لها إدارتها وتوجيهها وفقاً لخطة مسبقة تحكمها ثوابت اسرائيلية راسخة، وليس وفقاً لكونها مفاوضات مع طرف آخر له حقوق وطنية وتاريخية تكفل الحد الأدنى منها قرارات الشرعية الدولية .
بلا ريب تدرك إدارة أوباما أن هذه “المبادرة” غير مقبولة على قيادة منظمة التحرير التي تتأهب، كما يشير العارفون ببواطن ما يدور في اجتماعاتها، لخيار الذهاب إلى هيئة الأمم المتحدة، لكن الإدارة الأمريكية العارفة بمفاعيل الانقسام الفلسطيني الداخلي وانشغال مراكز القوة العربية بهمومها الداخلية، ستضغط بما تملك من قوة ونفوذ سياسي محلي وإقليمي ودولي على قيادة منظمة التحرير، وستعمل على إقناعها بأن القبول ب”المبادرة” الأمريكية المفترضة هو أفضل الخيارات لها، خاصة وأن ثمة جهات داخلها تقبله من أجل الحفاظ على “حصتها” من “السلطة” مع استمرار التلويح بخيار الذهاب إلى الأمم المتحدة، وأن قيادة “حماس” ستجد في ذلك فرصة للحفاظ على “حصتها” من “السلطة” مع مواصلة الهجوم على استمرار قيادة المنظمة في المفاوضات .
ما يعني أننا أمام لوحة فلسطينية معقدة لا يقوى على معالجتها سوى عقل وطني شمولي يستوعب عناصرها المركبة، تحفزه إرادة سياسية وطنية جادة للخروج من مأزق متعدد الأوجه مدخل الخلاص منه إنهاء الانقسام الداخلي، وتجديد الشرعيات وتوحيد مؤسساتها، وأولاها منظمة التحرير الفلسطينية، بدءاً بمجلسها الوطني، بالانتخاب إن أمكن، وبالتوافق إن تعذر .
أما دون ذلك فلن يفضي إلا إلى استمرار تحرك العامل الوطني الفلسطيني كمتغير خارجي وليس في صلب خطة الولايات المتحدة للمنطقة ارتباطاً بمصالحها ومصالح إسرائيل .
أبا عمار ..الريح التي حركت الجبل
بقلم: النائب الدكتور أحمد الطيبي – القدس
سنوات تسع أزاحك فيها الموت ولم يغيبك.. ويُفتح جرحنا النازف في قلوبنا في ذكرى رحيلك من جديد .. رحيل وعدتنا أن يكون استشهاداً في سبيل فلسطين، يا سيد فلسطين، وهكذا كان .. ورغم مضي كل هذه الأعوام ما زال استشهادك يحير العالم والعلماء ولجنة تحقيق عازمة على إثبات أن يداً غادرة آثمة مجرمة هي التي قتلتك.. ومتهمون يحاولون التنصّل من المسئولية عن جريمة قتلك وقتل شعب وحلم ووطن .. ولكن لا تأسفن على غدر الزمان لطالما...رقصت على جثث الأسود كلاب.
اذكر ذلك اللقاء الأول في تونس حين مددت يدك لتتناول رغيفا من تحت كنبتك البالية لتقتسمه معي.. هكذا أنت عظيما وبسيطا, رمزا وابا, زعيما ومقاتلا, لينا وصلبا, غاضبا ومعانقا, قائدا ومرافقا وكنت سيدا وخادما.. كنت كل ذلك وكنت قبل كل ذلك 'السيد فلسطين'.
لا أستطيع أن أملأ ثقوب الذاكرة بالكلمات.. ولا أتجاوز الجراح .. لم تبكك عيوننا بل قلوبنا.. كان يوم رحيلك يوم أبكيت فيه السماء قبل الأرض.. وأبكيت الرجال قبل النساء والأطفال.. ودّعك الشجر والحجر.. كنت غضباً .. مسيرة وحلماً.
أشعلت بشعبك ناراً مؤجّجة تاريخاً ونضالاً.. بنيت فيه حلماً.. تحرسه الأمهات حارسات حلمك المقدس.. كسرت القيد وبددت الظلام ولعنت القهر وثرت على الظلم وتحديت الخوف..إنك عاصفة.. واشتقت منك العاصفة. كوفيتك وسام للثوار.. شعار لكل الأحرار..يا ختيار الثوار !
كم انحنى الموت أمامك.. والقذائف تنهمر بين ذراعيك وبين إصبعيك اللتين تشيران إلى النصر. ولا تنفجر حياءً من قوة أحلامك.. وها هما هاتان الاصبعان تخرجان من تحت التراب في إشارة نصر بوجه الظالمين لانبثاق الحقيقة التي أبت أن تبقى مدفونة ، وصرخت صرخة مدوية بأنك لا تُقهر حتى وأنت شهيد .. وستخرج الحقيقة الى النور لا محالة وسيدفع الطاغية الذي قتلك الثمن .. عندئذ ستثبت مجدداً أنه يموت الطاغية وينتهي حكمه ويموت الشهيد ويبدأ حكمه .. وفي حين تبكي شعوب لكي تتخلص من حكامها .. تبكي فلسطين دما لغياب زعيمها.
أبا عمار: في الضفة المحتلة يتنامى نظام الابارتهايد ويتكرس، وعندنا في الداخل تنمو العنصرية وترفع الفاشية رأسها. في كل اسبوع قانون اسود او اكثر. يضيقون علينا سياقات الحياة في الارض والمسكن في الرواية والهوية..
أبا عمار ما أحوجنا إليك في ظل الانقسام والتشرذم واليأس والاقتتال. طال ارتفاع الجدار وتوحشت حواجزهم بل زادت فاشيتهم.
قضية شعبنا تمر في اسوأ حالاتها، بل ان فكرة الدولتين تترنح انها آيلة للسقوط.
وما زال شجر الزيتون عدوا لهم ليقتلعوه.
أبا عمار يا زيتوننا وزيزفوننا.. من دون فلسطين لن نصل إليك ولن نفهم عليك، تلك لغتك التي أتقنتها بألف لهجة ولهجة ولكنها كانت لغة واحدة، تبدأ البسملة فيها بالأقصى المبارك وينتهي الحمد لله فيها بالفدائي الأول عيسى المسيح ومعنى القيامة 'انا فتحنا لك فتحاً مبينا'.
لن ندع الذين راهنوا على تفرق ريح هذا الشعب بغيابك يفرحون ويجعلون علامة الغياب عرساً لهم يرقصون على قبورنا، ولن نقبل بتحطيم البيت من داخله، بل ستبقى وصيتك وكوفيتك التي شرفتني بمداعبتها رمزاً لكرامة هذه الأمة وشرف هذا الشعب المتعطش للوحدة الوطنية والحرية. وكما قلت لك آنذاك " إن سقطت هذه الكوفية سقطت كرامة العرب "..أنت يا سيد الكرامة !
ابا عمار..
ناديتك.. قم يا ياسر.. قم من نومك المؤقت.. قم معي يا طائر الفينيق... وأقولها لك للمرة التاسعة ألا تسمعني.. أم أنك غاضب منا..
اتأذن لي ثانية أن أطلب بأن أحملك بين يدي وأعتذر لروحي لأنها أيقظتك من زمنك الأبيض.. تأتي معي إلى الحلم ترى شوارعاً تعرفك، حارات وأطفالاً وخطوات وأشجاراً وأصدقاء وناسا.. ومخيماً ومعتقلات. فبأي نبض أزرع الوردة في مقامك الأسمى.. كل ما في المدينة من حزن ومن فوضى ومن موت واحتراب.. قم لنطرد الجراد عن المكان.. هنا وهناك.. اخرج معي إلى هذا الليل الطويل.. فالموت لا يدفن الحقوق وإن السلام غناء. ولن تسقط راية الفارس التي حملتها..
ما زلت أحبك رغماً عن غيابك .. .. أو قل أكثر بعد غيابك .. ما زلت اليوم حلماً.. وما زلت الحاضر غداً .. يا سيد الرجال . يا سيد الوفاء. أيها الفارس الذي ترجل يا أيها الريح التي حركت الجبل..
سياسة إسرائيل تقودها إلى الهاوية
بقلم: طلال عوكل – الايام
النتائج التي تمخض عنها اجتماع جنيف بين ايران والدول الست، احدث ما يشبه الزلزال السياسي في اسرائيل. التي لا تعيش الا على الحرب والدمار والعدوان. حملة من اللطم السياسي انتابت القادة الاسرائيليين، بسبب الاتفاق الذي وقع، واعتبره الأوروبيون والأميركيون، مناسبة تستحق الاحتفال.
من حيث انه (الاتفاق) يفتح طريقا جديدا، بل طرقا جديدة في العلاقة بين ايران، وبين المجتمع الدولي.
الإسرائيليون يعتدون بمعلوماتهم الاستخبارية، التي تفيدهم بأن ايران ماضية في برنامجها النووي الحربي، وبأن الرئيس حسن روحاني، يقدم للغرب لغة جميلة، ولكن بلاده سائرة في قرارها لامتلاك السلاح النووي، وبأن كل ما يقوم به الحكم في ايران مجرد مناورة لكسب الوقت والتحايل على المجتمع الدولي.
المنطق الاسرائيلي في التعاطي مع الملف النووي الايراني وتداعياته، ينطوي على استهتار بسياسات وقدرات، الولايات المتحدة والدول الاوروبية، واستهتار اشد بقدراتها الاستخبارية، ويشكك في نواياها ازاء كيفية التعامل مع الملفات الخطرة، التي تتعلق بالمنطقة.
من غير الممكن ان تكون اسرائيل اكثر حرصا على منع ايران من امتلاك قدرات نووية، من الدول الاوروبية، او من الولايات المتحدة، ذلك ان ايران النووية، التي تملك سياسة وتطلعات حيوية ونشطة، لا تشبه باكستان النووية، او الهند، ايران تملك رؤية لدورها، طافحة بالاهداف الاستراتيجية الكبيرة، تساعدها امكانياتها المادية والبشرية، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي على ان تصعد دورها، وان تحفر لنفسها مكانة مهمة بين الدول الكبرى والتكتلات الدولية، وليس فقط الاقليمية.
لذلك من غير المتوقع ان تتساهل الولايات المتحدة، والاوروبيون، أو ان يتعامل هؤلاء مع الملف النووي الايراني بمنطق تكتيكي، هذا الا اذا كان هؤلاء قد توصلوا الى معلومات واستنتاجات مؤكدة، بأن ايران قد اصبحت دولة نووية.
طبعا ليس علينا، ان نتوقع ان يحل الخراب بين اسرائيل، وحلفائها الغربيين خصوصا الولايات المتحدة ولكن هذا التناقض من الممكن ان يتسع في حال بادرت اسرائيل بمغامرات غير محسوبة، تستهدف توريط حلفائها، واعادة خلط الاوراق مجددا.
التناقضات بين اسرائيل وحلفائها الضامنين لوجودها، تتسع فعليا، فبالاضافة الى الخلاف حول كيفية التعاطي مع ايران وكل ملفاتها وليس فقط ملفها النووي، فثمة خلاف يتصل بالرؤية لكيفية التعامل مع قضية الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ومع عملية السلام، وهو خلاف في الاصل حول أي الطرق افضل لحماية اسرائيل وضمان وجودها قوية.
في الواقع فإن الدول الغربية لم تبدل مواقعها التاريخية، ولا قناعاتها بشأن ضرورة وجود اسرائيل قوية، ولكن تلك الدول تسعى لحماية الدول العبرية من تطرفها الجنوني، الذي سيقودها يوماً الى الهلاك، وبالتالي فانها ترى في قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة، في اطار عملية سلام تنهي الصراع، الطريق الافضل لضمان بقاء اسرائيل، وضمان بقاء واستقرار مصالح تلك الدول في هذه المنطقة.
أحد الدبلوماسيين الغربيين، قال مؤخراً ان اسرائيل ماضية في سياسات تؤدي الى عزلتها الدولية، والى التحول في اتجاه دولة عنصرية، وبأنها ما لم تتحول عن هذا السلوك، وتستجب لمتطلبات عملية السلام، فانها تسير نحو الهاوية مهما طال الوقت.
الأميركيون والأوروبيون غاضبون من حكومة نتنياهو، المسؤولة عن تعطيل الفرصة المتاحة امام عملية السلام عبر المفاوضات التي مضى على بدايتها اكثر من ثلاثة اشهر، وهم غاضبون من سياسة اسرائيل الاستيطانية في الضفة وفي القدس، ما جعل وزير الخارجية الاميركي جون كيري يصرح بأن الاستيطان كان ولا يزال غير شرعي، أما الاوروبيون فقد اقدموا على اجراء من واقع رفضهم للسياسة الاسرائيلية الاستيطانية.
الدائرة تضيق اكثر فأكثر حول رقبة اسرائيل، فبعد تأخير متعمد على الارجح افرجت الدوائر السويسرية والروسية، عن نتائج تحليل العينات التي اخذوها من رفات الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، فيما بقيت فرنسا تحتفظ بنتائج بحوثاتها الطبية.
في الواقع فان فرنسا تعرف قبل غيرها. كل الحقائق المتعلقة باغتيال عرفات فهي التي استقبلته في مستشفياتها، واجرت له في حينه كل الفحوصات اللازمة، ولذلك فإن اعلانها عن نتائج مماثلة لتلك التي توصلت اليها سويسرا وروسيا، ستشكل بالنسبة لاسرائيل ضربة صاعقة.
ولكن هل من المحتمل أن تأتي نتائج التحليل الفرنسي مختلفة؟ ثمة شك كبير، اذ لا يمكن ان يكون الحكم السويسري والروسي سياسياً، وهؤلاء لديهم من الامكانيات العلمية والمختبرية، ما يفوق او يوازي قدرات فرنسا.
هذا ملف خطير، اصبح في يد القيادة الفلسطينية، وينطوي على تقدم كبير في سياق التحقيقات الجارية منذ تسع سنوات، ولم يتبق الا القليل ولكن الاهم، لتأكيد مسؤولية اسرائيل الحصرية عن عملية الاغتيال.
الفلسطينيون لم يكونوا بحاجة الى تأكيد أو نفي مسؤولية اسرائيل التي تحتفظ بقائمة طويلة جدا من عمليات الاغتيال لقادة فلسطينيين، ولكن ثمة فرقا في أن يتم التكامل مع هذا الملف من خلال أو استنادا الى قناعات الفلسطينيين، وبين ان تتوفر المعطيات الملموسة التي تسوق اسرائيل الى المحاكم الدولية.
هي مادة البولونيوم، كما تؤكد الفحوصات، وبالتالي، علينا أن نفحص ان كان هناك طرف آخر في المنطقة كلها، يملك هذا النوع النادر جدا من السموم.
اسرائيل سترفض الادعاء بمسؤوليتها عن عملية الاغتيال، والفصائل الفلسطينية المعارضة، لا تملك أي نوع من انواع السموم، ولا يمكن ان تفعل ذلك، والدول العربية نظيفة من هذا النوع، ولكن هل يتعاون المجتمع الدولي، من اجل تشكيل لجنة تحقيق دولية؟ الارجح ان المجتمع الدولي عبر الامم المتحدة، يميل اكثر نحو انصاف الفلسطينيين، وان ما جرى في منظمة اليونسكو ـ سيتكرر في عشرات المنظمات الدولية، حين يقرر الفلسطينيون التوجه اليها.
الولايات المتحدة من موقع التضامن فقدت مع اسرائيل حقها في التصويت في اليونسكو، لانهما لم تدفعا حصصهما المالية فيها، ولكن القرار سياسي، فإذا كان هذا هو الطريق الى المؤسسات الدولية، فهل ستتحمل الولايات المتحدة، ان تعزلها اسرائيل، التي تتواصل عزلتها دوليا، ام ستترك اميركا اسرائيل تغرق وحدها؟
غول الطائفية يأكلنا جميعاً
بقلم: د. خالد الحروب – الايام
طالب في الاعدادية يعرف بنفسه في حسابه على الـ “الفيس بوك” بأنه “مسلم سني” في بلد مشرقي يشكل السنة فيه اكثر من ٩٩ في المائة.
بنت عمرها ٥ سنوات في بلد خليجي تعود الى امها من روضة الاطفال تبكي وتشتكي بأن زملاءها في الروضة يقاطعونها ولا يلعبون معها لأنهم يقولون إنها “شيعية” وتسأل امها عن معنى ذلك! على مستوى اعلى يتنافس تكفيريون شوهوا الثورة السورية وحرفوها عن مسارها مع حزب الله في قتل آلاف من السوريين الاحياء دفاعا عن مرقد للأموات لا ترقد اساسا فيه السيدة زينب.
وخلفية المشهد المأساوي للتعبيرات التي لا يمكن حصرها هو التخندق في الهوية الطائفية إذ تصبح المميز الاهم في فرز تكتلات المجتمعات مذرية التعايش العفوي الذي ساد قرونا وعقودا طويلة.
في البلدان الخليطة طائفيا مثل العراق ولبنان وبعض دول الخليج يتحدث كبار السن بألم ممض عن سنوات وعقود عاشوها ولم يكونوا يعرفون من هو سني ومن هو شيعي، حيث يتزاوج الناس ويتعاملون في ما بينهم عفويا وطبيعيا من دون الفرز الهوياتي.
قبل ان يضرب المنطقة هوج التيارات الاسلامية (السنية والشيعية) وخطاباتها التي تزعم التعايش والتسامح وكل الكلام الفارغ، كان الناس يعيشون في تعايش وتسامح عاديين، وكان الدين بوجهه الاليف وتفسيراته المعتدلة يُمارس في المجتمعات من منطلق العلاقة الفردية مع الخالق والحب مع المخلوق.
في الحقبة “الاسلاموية” المظلمة صار الدين عنفاً ودما وسياسة قاتلة وجماعية.
وانتشرت التفسيرات الإقصائية والتكفيرية المُستبطنة في المناخ العام وسممته، بل تسربت إلى التعليم المدرسي والمساقات التي تُدرس للاجيال الجديدة.
صار مسيحيو الوطن “نصارى صليبيين” وصار شيعته “صفويين كفرة”، وانخرط الجميع في حفلة انتحار جماعي يكاد لا يُستثنى منها وطن او مجتمع.
في تحليل جذور ما وصلنا إليه نعرف انها تعود إلى التنافس والاقتتال المدمر بين السلفية المتطرفة والخمينية المتطرفة الذي استعر منذ قيام الثورة الايرانية في نهاية السبعينيات وردود الفعل السلفية التي استفزتها. انخرط الطرفان في حرب خطابات مدوية حول من يمثل الاسلام والمسلمين، ووظفت في تلك الحرب كل أساليب الدعاية والهجوم والاعلام، واستنفر كل الماضي البائس وثاراته ودمويته. تم ترحيل المجتمعات إلى قرون سحيقة وعوض ان نعيش في القرن الحادي والعشرين والعالم يصل إلى المريخ وصلنا بسرعة الضوء إلى معاوية وعلي وصفين وكربلاء، وأقمنا هناك.
ونبشنا كل الدماء التي جفت وأعدنا إليها بعبقرية بالغة ومحطمة لونها الاحمر وحرارتها فصارت كأنها سالت اليوم، وبعثنا فيها حياة دائمة، صارت دماء حارة لا تجف ابدا، وكل يوم تلطخ وجهنا، وتملأ افواهنا وتخنقنا.
وحيث لا يوجد هذا الانقسام السني ـ الشيعي تتحول الطاقة التدميرية إلى المسيحيين كما في مصر حيث في حقبة ما بعد سقوط مرسي وحدها تعرض اكثر من اربعين كنيسة للحرق والتدمير اضافة الى عشرات المحلات والصيدليات التي يملكها مسيحيون.
سيقول قائل إن هناك شبهات كبيرة حول تلك الاعتداءات وحول تورط بعض اجهزة الامن فيها للتحريض على التيار الاسلامي وسوى ذلك، وبفرض وجود ذلك فإنه لا ينطبق على كل الحالات ولا ينفي كارثية التحريض الطائفي الكريه والتسمم الجماعي به، والذي لولا وجوده لما استطاعت اية اجهزة او اطراف “مشبوهة” القيام بتلك الاعتداءات ونسبها إلى غيرها.
نحن اليوم نقف على حافة هاوية إن تركنا انفسنا نهوي فيها فإننا سنحتاج عقودا طويلة كي نخرج منه، كما يقول لنا درس التاريخ المرير.
إنها هاوية الطائفية حيث يرقد في قاعها العفن والموت الجماعي وحيث لا احد ينتصر.
غول الطائفية انفلت في بلادنا بشكل لم يسبق له مثيل يأكل الاخضر واليابس، ويطارد الجميع ويدفعهم إلى تلك الهاوية، يحشدهم جماعات ومجتمعات ويقودهم منقادين ومنومين إلى حتفهم الكلي.
يجب أن ينتابنا رعب جماعي من هذا الغول ونصده بكل الجهد والعزيمة لأن المعركة معه معركة حياة او موت.
في الطائفية وحروبها ليس هناك منتصر، بل الكل يخسر والكل يُدمى بالهزيمة.
الطوائف والاديان كما القوميات منزرعة في تكوينات البشر وفي الارض والمجتمعات ولا يمكن خلعها.
لن تكون هناك طائفة او قومية غالبة ظافرة بالمطلق حتى لو ظنت انها هزمت الاخرين.
نار الطائفية تظل تغلي تحت الرماد، والحل الوحيد لإطفائها هو الإقرار الجماعي بالتعايش والاحترام المتبادل، وليس مواصلة الحرب والاتهام والرغبة البدائية بالإبادة والتطهير.
إطار التعايش الذي يمكن أن تتصالح فيه الطوائف والاديان والعصبيات المختلفة من دون اصطراع تبادلي التدمير هو إعلاء الاولوية للانتماء إلى الوطن على الانتماءات الاخرى وعلى قاعدة المواطنة والمساواة التامة. الافراد في كل وطن من الاوطان هم مواطنون اتباع للوطن اولا، ثم لأية انتماءات ثانوية ثانياً. هم مصريون اولا، ثم يأتي بعد ذلك اي ولاء آخر، اسلامي او قبطي.
وهم عراقيون ولبنانيون وبحرينيون قبل ان يكونوا سنة او شيعة، وهكذا. هذا ما يجب ان يتوافق عليه الجميع كفكرة مؤسسة للجماعة الوطنية التي ينتمون إليها، وتكون حجر الزاوية في الدستور والقوانين، وهي ما يجب ان يؤسس لكل ما يتعلمه طلاب المدارس وتمارسه المؤسسات الرسمية اولا ويتبناه المجتمع المدني والديني ثانيا.
عندما تترسخ فكرة المواطنة وفكرة المجتمع والدولة المدنية لا الدينية نواجه جماعيا غول الطائفية ونبدأ في الهجوم المعاكس.
من دون ذلك فإننا سننخرط في دوامات الصراعات الطائفية ونستدعي احقاد الماضي لتكون هي العتاد المسموم في حياتنا السياسة والاجتماعية والثقافية.
ومن دون ذلك نظل ضحايا طوعيين للغرائز البدائية وبكائيات القرون الخالية وتمتص الثارات التافهة لأموات قدامى كل ما هو اخضر وحي في حاضرنا.
من دون ذلك سوف نغلق بوابات المستقبل في وجه الاجيال القادمة، وندفعهم للعيش في الماضي، شباب في عمر الورد لكن كل الذي يفكرون فيه هو الرحيل بعيدا في ماضٍ سحيق للالتحاق بجيش خيالي لعلي او جيش خيالي لمعاوية، وإعلان الحرب الابدية التي لا تموت ضد الآخر، حيث نتيجة الحرب وللطرفين معا هي الموت المحقق والهزيمة المحققة.
ياسر عرفات
بقلم: د.عاطف أبو سيف – الايام
لا يملك المرء في ذكرى ياسر عرفات إلا أن يكتب عنه. تظل ذكراه دائمة الحضور في كل وقت حتى قدوم تشرين يصبح الوقت عرفاتيا بامتياز. فالمزاج الشعبي العام يصبح عرفاتياً والنقاش في الشارع يكون حول عرفات وفي التاكسي كذلك؛ حتى في قاعة الجامعة وامام محل الأيس كريم.
فجأة يتحول كل شيء حولك إلى "ياسر عرفات"، إلى شيء منه، من ذكراه. كأن الرجل لم يغادر أو هو لم يشأ أن يغادر.
رغب في أن يظل باقياً. وذهب مثل كل الأشياء الجميلة صدفة دون وداع ودون ان يظن أحد أنه لن يرجع.
حتى حين عادت به الطائرة إلى المنفى منهكاً تعباً يحمل آلام المرض، إلى حيث رقاده الأخير لم يكن أحد يتخيل أنه لن يرجع.
كنا نلوح بأيدينا للطائرة ونود لو أنها مربوطة بأصابعنا حتى نستطيع ان نسحبها ثانية إلى الأرض، مثلما كنا نفعل ونحن صغار بطائراتنا الورقية في أزقة المخيم.
لكن الطائرة ستعود حاملة ياسر عرفات. لكنه هذه المرة لن يلوح لنا بيده، ولن يرمينا بقبلاته ولن يرفع لنا شارة النصر.
سيوارى الثرى حيث مثواه الاخير. مثل حلم من كان يصدق أنه سينتهي. من كان يصدق أن ياسر عرفات سيذهب في الغياب متشحاً سواد الليل وعتمة البكاء وعويل الروح.
من كان يملك هذه الحاسة التي تجعله يعرف أن هذا سيحدث. مثل بطل خرافي لم نكن نتوقع أن يغيب عنا هكذا.
لكن عرفات مثل البطل الأسطوري لا يذهب من الحكاية. لأن الحكاية تظل دائماً ناقصة من دونه، ولأن الحكاية في جزء كبير منها مؤسسة على حضوره الأبدي، فلا حكاية من دونه كما لا أوديسة بلا عوليس.
فالحكاية الفلسطينية تشكلت حول الحضور العرفاتي فهو لم يكن مشاركاً فيها، كما لم يكن شخصية وردت في متنها، كما لم يكن راوياً في عالم أصواتها المتعدد؛ بل كان هو الحكاية برمتها. كان الحكاية في أنقى صورها. هل يمكن تخيل الحكاية أو الحدوتة الفلسطينية بلا ياسر عرفات. هل يمكن تخيل التاريخ السياسي الفلسطيني الحديث من دون ياسر عرفات. بالطبع لا يمكن ذلك. ليس لأن ياسر عرفات كان شخصية استثنائية في حياتنا بل لأن وجوده كان فعلاً مؤثرا لدرجة كبيرة للدرجة التي يصعب فيها التمييز بين وجوده ذاته وتأثيره، كما أنه تحول ليصبح جزءاً من القضية الوطنية، فهو لم يكن فاعلاً ومؤثراً فيها بل تماهى معها وصار مكوناً من مكوناتها.
فحين تتحدث عن القضية الفلسطينية فأنت بالطبع تشير إلى ياسر عرفات بطريقة أو بأخرى.
على الأقل هكذا يمكن أن يحس أبناء جيلي الذين ولدوا قبل أربعين عاماً فيما ياسر عرفات يفرض على العالم بقوة السلاح اسم فلسطين.
حين كنا أطفالاً وكنا نرى صورته على التلفاز، فيما توفر منه وقتها بالأسود والأبيض في أغلبه - وقتها كانت القنوات قليلة جداً – كان ظهور ياسر عرفات على الشاشة يجعل الطفل فينا يشعر بأنه موجود خلف الشاشة.
كان وجوده هو وجودنا وحضوره هو حضورنا. كانت أعيننا "تبحلق" في التلفاز قبل أن تختفي الصورة خلف مذيع الأخبار حين يواصل نشرته، نحس بالحزن، لكنه سرعان ما يطالعنا في نشرة أخبار أخرى.
هكذا كان ياسر عرفات أول وعينا الوطني وأول تشكيل فهمنا حول فلسطين. كان مثل حكايات جداتنا عن مدننا وقرانا التي سلبها المغتصبون بعد أن تجمعوا من كل بقاع الأرض لينهبوا فلسطين. كان مثل تلك الحكايات يعمل على تخليق هذا الشعور الغريب في داخلنا (الوطنية) الذي يجعل الواحد منا مستعداً للموت من اجل استعادة هذه الحقوق المسلوبة.
كبرنا وكبر معنا ياسر عرفات لكنه ظل بالنسبة لنا هذا البطل الغامض الذي يتحدث باسمنا، الذي يحس بجراحنا.
ظل أفضل من يعبر عنا وعن آلامنا وأفضل من يشعرنا بالطمأنينة. ثم وجدناه فجأة بيننا. يمشي في الشوارع ويتفقد الناس ويقبل الأطفال والجرحى ويزور بيوت الشهداء. فجأة وجدنا بطلنا الأسطوري بيننا بعد تأسيس السلطة الوطنية العام 1994.
كان يمكن أن تمشي في الشارع فتجد ياسر عرفات في سيارته او يمشي على الأرض يزور بيتاً.
كان الشبان يمضون ساعات يرسمون صورته على الجدران في الانتفاضة الاولى (انا لم أكن جيداً في الرسم)، وكان يمكن لهذا ان يكلفهم عمرهم لو دهمتهم دورية من جيش الاحتلال.
لكن هذا لم يكن صورة على الجدار، لقد قفزت الصورة عن الجدار وصارت تمشي على الأرض. صار بطلنا الأسطوري شخصية واقعية. لكنه بفعله هذا كانه يمعن اكثر في اسطوريته. كانت عاديته تلك وهو يزور الناس ويتفقد الجميع ويعود المرضي ويمنح المحتاج، كانت تلك العادية تمنحه هالة اخرى من الغرابة والقداسة.
فكأنه كان يسافر بعيداً في الأسطورة ويتحول بهذه الأفعال أكثر وأكثر إلى حلم جميل سنفتقده حين يبعد عنا.
هكذا هي الأساطير تقوم ببناء البطل حتى يصبح رحيله مستحيلاً أو محتوماً، وفي الحالتين يكون الرحيل قاسياً وغير مصدقاً.
والحكاية الفلسطينية لو لم تكن كذلك لتغير الكثير من معالمها.
كأننا في كل مرة نحب أن نتذكر كل هذا، ونحب ان نتألم اكثر ونحن نتذكره، ويرغب البعض بمقارنة اليوم بالماضي لأن ثمة شيئا في الماضي يسحبنا إلى الحنين، فالماضي بطبعه أجمل وأبهى، أو أن هذه عادة البشر. لكن ثمة شيء من ياسر عرفات ناقص فينا. كأننا لم نحافظ على الوصايا او لم نحفظ العهد. فبكل المقاييس حالنا أسوأ ووضعنا أكثر صعوبة.
بمقدور كل واحد منا أن يرمي العبء والتهم على الآخر، ويمكن لنا أن ندخل في موجة سب وشتائم جديدة لكن هذا لن يغير شيئاً من حالنا بل سيكشف المزيد من سوء الحال وجلل المصاب وهول الواقعة.
فأيامنا للأسف لم تعد تشبه هذا الزمن العرفاتي الجميل.
شجرة الذاكرة
بقلم: يحيى رباح – الايام
في الذكرى التاسعة لرحيله، يحضر فينا الرئيس ياسر عرفات بشكل مدهش حتى أننا نجد أنفسنا في معظم الوقت نتحدث عنه بصيغة الحاضر, أعتقد أن الملايين من الفلسطينيين في وطنهم التاريخي فلسطين - حيت الاتصال العادي بين أجزائه مستحيلة- كما الفلسطينيين في شتاتهم الواسع الذي يزداد شتاتاً، يلاحظون هذه الظاهرة، لماذا؟ لماذا ما زلنا نتحدث عن ياسر عرفات بصيغة الحاضر، من النادر بل ومن المستهجن أن نستخدم صيغة الماضي الغائب؟ أعتقد أن ياسر عرفات بالنسبة للشعب الفلسطيني هو رمز مركب، أنه زعيم سياسي من الطبقة الأولى، وهو بطل تراجيدي في نفس الوقت! وكزعيم سياسي فانه انبثق من الضرورات الملحة التي لا يوجد ما هو أولى منها ولا أقدس منها، ضرورات لدى شعب فقد وطنه قسراً ومن الملح أن يكون له وطن! وفقد كيانه تحت ضغط أقوى الأقوياء ومن الملح أن ينبثق له كيان، وتبعثرت هويته في الأرض مع هبوب العواصف الهائجة، ومن الملح أن يلملم هويته.
وكزعيم سياسي، فانه أدرك في وقت مبكر، وفي وقت صعب أيضاً، أن شعبنا الفلسطيني لا يستطيع أن ينتظر أحد لكي يحقق له ضروراته الملحة، بل عليه أن يبرأ نفسه، وأن يعتلي خشبة المسرح، وأن يلعب الدور الأصعب، وأن يكون الرقم الصعب.
انه اكتشاف مذهل وخارق الصعوبة الى حد المستحيل، ولكن ياسر عرفات الزعيم السياسي حول هذا الهاجس الضخم الى تفاصيل على أرض الواقع، بدأها بصياغة العناوين، قاتل مع عبد القادر الحسيني في وقت مبكر، وقاتل مع الفدائيين ضد الانجليز في منطقة قناة السويس، وأنشأ وهو في كلية الهندسة جامعة القاهرة رابطة الطلاب الفلسطينيين لتكون عنواناً أول، ثم أسس حركة فتح مع زملائه المؤسسين، وكان كل فلسطيني في العالم يسأل نفسه صباح مساء، ماذا نفعل؟ فانتمى الفلسطينيون على مضض الى الأحزاب القائمة، وكانت عبقرية تأسيس حركة فتح أنها ألهمت الفلسطينيين أن لهم كياناً يأوون اليه، ثم أصبحت فتح هي العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية والثورة الفلسطينية المعاصرة، وواصل ياسر عرفات ورفاقه تسجيل فلسطين في دفاتر الحضور عبر قرارات في غاية الخطورة والشجاعة.
أما ياسر عرفات البطل التراجيدي، فهو كان يعرف الثمن الفادح لما يفعل وما يختار، كان مثل قبطان سفينة أسطورية ذاهبة في المحيط الى جبل المغناطيس لتصطدم به وتتحطم أشلاءً، ولكن البطل التراجيدي يعرف سلفاً أقداره الكبرى ولا يهاب.
كل مرة كان ياسر عرفات يقول فيها نعم، كان يعرف أن هذه «النعم» سوف تقلب الأمور رأساً على عقب! وكل مرة كان يقول فيها (لا) كان يعلم أنه بقولها في وجه أعتى الأقوياء في العالم فان الثمن سيكون فادحاً بما يفوق الخيال! ولكنه لم يتردد لحظة واحدة في أن ينطق بنعم أو ينطق بلا، ما دام ذلك يقضي الى لحظة من الحضور الفلسطيني.
يعيش معنا ياسر عرفات يوماً بيوم، ولحظة بلحظة، كل ما يجري اما حببنا فيه أو حذرنا منه، وهو لم يفعل ذلك مجاناً، بل بجهد خارق يفوق الاحتمال، وبتضحية لا يحتملها سوى الأنبياء والشهداء! ولذلك فاننا نحي ذكراه بصفته الحاضر وليس بصفته الغائب، فان تضحياته ومعاركه ومواقفه ممتدة فينا الى زمن قادم.
الحكاية التي لا تموت
بقلم: محمود ابو الهيجاء – الايام
لا يمكن اختصار حكايتنا مع ياسر عرفات في ذكرى رحيله المر كل عام، بمهرجان خطابي نشيد فيه بمناقب الزعيم ودوره التاريخي، ولا اظن ان احتفالا مهما كان مستواه قادر على اختصار حكايتنا الطويلة هذه التي كتب الزعيم الخالد فصولها على نحو ملحمي، نرى صعابها اليوم سهولا نشتهي الركض فيها!
لا يمكن اختصار الحكاية وهي التي شكلت وما زالت تشكل ملامحنا الوطنية في اوضح تجلياتها الانسانية، بل وهويتنا النضالية في حضورها الاقتحامي واشتباكها الاسطوري مع الصعب والمعقد من اجل الحرية، ولأن ياسر عرفات كما كتب شاعرنا الكبير لحظة الفقد، كان" احد اسماء فلسطين الجديدة الناهضة من رماد النكبة الى جمرة المقاومة الى فكرة الدولة الى واقع تأسيسها المتعثر "لان ياسر عرفات كان وما زال كذلك، لا كما اكتشف الشاعر ذلك وانما ايضا وفقا للتاريخ وامتثالا لخطابه، فان اختصار الحكاية بتأطيرها بالكلمات والمهرجان يكاد ان يكون مستحيلا، اكثر من ذلك فان هذه الحكاية تبدو اليوم كأنها كائن حي بريعان شبابه، كائن لا ينفك مشتبكا مع الواقع ومنازلا له، وياسر عرفات بعض اسمائه الحركية، بهذا المعنى ولهذا السبب ينبغي ان ننتبه الى ضرورة ان تتحلى مناسبة احياء الذكرى بالاشارة الى هذا الكائن وحقيقة حضوره والاهم حقيقة تواصل تطلعاته نحو مستقبل الحرية التي هي ذات تطلعات الزعيم الخالد وبما يعني ان ياسر عرفات سيظل حاضرا بيننا وفينا حتى نصل الى ذلك النور الذي كان يراه في آخر النفق، وحيث اسوار القدس ومآذنها وابراج كنائسها وشبل من اشبال فلسطين وزهرة من زهراتها يرفعان علم فلسطين فوق تلك الاسوار.
نعني باختصار شديد وبكلمات اخرى ان ياسر عرفات حكاية لا تنتهي ولا تموت وهي ذات حكايتنا التي تقولنا بابهى واوضح واجمل الكلمات فدعونا نتباهى بها في كل وقت، لا مرة في كل عام، ولا نريد بالطبع تباهيا استعراضيا وانما نريد ذلك التباهي الاخلاق الذي يضيف للحكاية فصولا اخرى من الابداع النضالي والحضور الانساني الذي يؤسس لعالم افضل وحياة اجدى واجمل بفلسطين الحرة المستقلة.
ولأن الامر كذلك كما اعتقد فان ذكرى رحيل الزعيم وان كانت لوعة القلب تصيغ كلماتها فانها مناسبة لتعميق الايمان بجدوى مسيرة الحرية وحتمية انتصارها وبأننا ما زلنا على درب ياسر عرفات شعبا وقيادة واحزابا وفصائل.


رد مع اقتباس