النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: الاخوان المسلمين 52

  1. #1

    الاخوان المسلمين 52

    الاخوان المسلمين 52
    28/5/2013


    ثروت الخرباوى يكتب: «أئمة الشر».. الإخوان والشيعة (1)

    قصة أول اتصال بين المخابرات الأمريكية وصاحب اللحية الذى سيصبح المرشد فى ما بعد
    خطة الـ«CIA» لمساعدة الإسلاميين للوصول إلى كرسى الحكم كانت تحت عنوان «?why not»
    عندما ارتجف قلب الطاغية وارتجف كرسى الحكم من تحته آل الحكم إلى زمرة الإسلاميين ودخلت البلاد إلى المرحلة الأولى من التجريف
    ضاق الشعب ذرعا بهذا الحاكم الغبى المتغطرس، يا له من حاكم مستبد جهول، أغلق أذنيه جيدا فلم يسمع صيحات الشعب وآلامه، ظن أن جهازه الأمنى المنيع سيحميه «فليصرخ من يريد الصراخ، ولينفعل من يريد الانفعال، فقد خلق الله لى أذنا من طين وأخرى من عجين» هكذا كان لسان حال هذا الحاكم الطاغية، ومع إحساسه بقوته راهن على أمريكا ورئيسها، أمريكا معى حيثما أكون، وأينما تكون مصلحتى فثم وجه أمريكا «لقد تلقيت وعودا منهم بحمايتى وحماية نظامى كله»، كان هذا الوعد طبيعيا ومنطقيا، فهو حليفهم القوى فى المنطقة، وهو أيضا أحد الكنوز الاستراتيجية لإسرائيل، فكيف يفرطون فيه؟!
    اندلعت الحوادث تترى فى البلاد، كان بعضها بسبب سوء الإدارة والفساد، وكان البعض الآخر بفعل فاعل، حرائق، كوارث، المئات يموتون حرقا فى حوادث مفجعة، والضحايا يسقطون وهم مخضبون بالدماء، يشتكون إلى الله هذا الحاكم وأعوانه، والمسؤولية التى من المفترض أن تكون فى رقبة هذا الطاغية المتبلد لا تحرك ضميره، يبدو أن السنوات الطويلة التى قضاها جالسا متيبسا على كرسى الحكم جعلت من جسده جدارا عازلا يفصل بين قلبه وشعبه، فهو ذلك الرجل خالى البال الذى لا يهتم، ينام ملء جفونه وشعبه يتحطم، أما هو ففى النعيم يقيم، وكيف لمن كان فى النعيم أن يطرف له جفن؟ الحكم من بعده سيؤول إلى ابنه، لا شك فى ذلك، أمريكا العظمى وعدته بهذا، مسؤول الأمن القومى بتلك الدولة العظمى قابله فى اجتماع خاص بنيويورك، كان معهما فى اللقاء الرئيس الأمريكى، وقتها قال له ذلك الرجل المتحكم فى أمن العالم: أمنك وسلامتك علينا، أعدك بأن ابنك سيكون خليفتك فى الحكم، نحن نضع الآن تصورا لكيفية تلك الخلافة، الأفضل أن تكون فى حياتك، لأنك إذا ما مت لا قدر الله فلن يسمح العسكر بتولية ابنك وسينقضون عليه، كما أن الشعب لا يتقبل توريث الحكم لابنك، سيحتاج هذا الأمر إلى جهود مضنية، ولكننا سننجح.
    ظهر من حوارهم أن أمريكا عارفة ما يحدث داخل البلاد، ولكنها لا تعيرها التفاتا، «مصلحتنا أن تظل فى الحكم، فأنت أفضل من يرعى مصالحنا»، كانت هذه هى كلمات الرئيس الأمريكى له، ولكن سقف المعارضة ارتفع فى البلاد بشكل غير مسبوق، ظهرت الحركات الاحتجاجية فى البلاد، ولكن لا ضير، فكل الأمور تحت السيطرة: «لدينا جهاز أمنى لا مثيل له»، كان مجرد ذكر هذا الجهاز الأمنى يثير الخوف والرعب فى النفوس، كانت هذه الأجهزة تستخدم التعذيب المفرط وهى تستجوب المتهمين السياسيين، حتى إن البعض كان يسقط قتيلا من جراء التعذيب، وقتها كان من السهل تلفيق التقارير الطبية التى تسند الوفاة إلى سبب آخر غير التعذيب، ورغم الخوف والرعب الذى سيطر على قطاع كبير من الشعب فإن البعض امتلك الشجاعة والقدرة على التضحية، استمر سقف المعارضة فى الارتفاع، بدأت الطبقة المتوسطة تخرج من مكامنها فى مظاهرات احتجاجية على تلك الوهدة التى وقعت فيها البلاد سياسيا واقتصاديا وأمنيا، كان الليبراليون والعلمانيون والطلبة هم الوقود الذى أجج حالة الغضب، يا له من حاكم كنود ذلك الذى لا يبالى بالبطالة والتضخم واستشراء الفساد، ولا يلتفت إلى غضبة شعبه، إن الشعوب إذا غضبت خرجت، وإذا خرجت سقطت الأنظمة، لن تنفعه أمريكا، ولن تبكى عليه.
    أما المفاجأة الكبرى فهى أن يد أمريكا لم تكن بعيدة عن تلك الاحتجاجات التى حدثت فى البلاد، أمريكا التى تساعد الحاكم وتدعمه، بل ظلت تدعمه عمره كله، فجأة ترتب للإطاحة به!! يا الله ما الذى يحدث فى هذا الكون؟ ما هذا العالم الغريب؟!! فى السياسة قد يستعصى الفهم فى بعض الأحايين، وفى السياسة أيضا قد لا تكون الصورة الخارجية هى الصورة الحقيقية، فللحقيقة أحيانا أكثر من وجه، وقد تكون كل الوجوه زائفة ما عدا الوجه الخفى الذى لا يراه أحد، الثورة قادمة قادمة، وإذا لم يكن من الثورة بد فمن الغباء أن تكون أمريكا بعيدة عنها.
    قبل الثورة بأعوام قليلة بدأت أمريكا فى تقديم يد المعاونة لبعض الحركات الاحتجاجية، كانت هذه المعاونة تتم فى الخفاء، كل شىء فى الخفاء، بعيدا عن العيون، حتى عن عيون بعض الكبار فى البيت الأبيض، هذا نظام سيسقط حقا، كل علوم السياسة والاجتماع تؤكد ذلك، وقد كانت للخطايا التى وقع فيها «الطاغية» أكبر الأثر فى دفع الأمور ناحية الحافة، هذه هى منظمة العفو الدولية «التابعة أصلا للأجهزة المخابراتية البريطانية» تضع التقارير التى تدين إهدار هذا الحاكم الطاغية حقوق الإنسان، والنظام الأمريكى يهتم ظاهرا بهذه الحقوق، ويتحدث كثيرا عن الديمقراطية، والتداول السلمى للسلطة، اللسان الأمريكى بارع فى الكلام عن الحقوق، والنظام الأمريكى بارع فى هضم هذه الحقوق!! أمريكا أمة التناقضات.
    كانت تقارير «العفو الدولية» بمنزلة حجر ثقيل، أمسكته جهات أمريكية كثيرة وأخذت تلوح به فى وجه هذا الحاكم المستبد، بدأت الأصوات فى أمريكا ترتفع: كيف لأمريكا راعية الحريات أن تدعم هذا الطاغية، ولكن الرسائل السرية التى كان يرسلها كبير مستشارى الأمن القومى فى أمريكا إلى هذا الحاكم كانت مطمئنة: «لا تجزع نحن معك، تلك الأصوات التى تهاجمك فى الإعلام الأمريكى لا تستهدف شيئا إلا الرأى العام فقط، إلا أن الناخب الأمريكى فى النهاية معنا فى سياسة دعمك لأننا كتبنا من خلال رجالنا فى الصحافة، وتحدثنا من خلال رجالنا فى الإعلام المرئى، أن بديلك هم الجماعات الإسلامية المتطرفة».
    هدأ بال الحاكم، وقر عينا بهذا الذكاء الأمريكى فى معالجة الحوادث والأحداث، وزاد هدوء باله عندما قرأ التقارير التى قدمتها له جهاته الأمنية: «الأمور مستقرة، ولا تهديد للحكم، هذه المعارضة ما هى إلا مجموعة قليلة ليس لها أى تأثير»، ولكن الحاكم الذى ظن أنه فهم السياسة الأمريكية أوصى رجاله وإعلامه بتصدير صورة معينة، ليس القصد أن يتم تصدير الصورة للشعب فى الداخل، فالشعب لا يهمه فى شىء، ولكن النظام الأمريكى كان هو مقصده: «أمريكا لا تحب الإسلاميين، هل هناك من يشك فى ذلك؟! قولوا إن البديل لى هم تلك الجماعات المتطرفة، اكتبوا هذا فى كل مكان، واتركوا لهؤلاء الإسلاميين مساحة صغيرة للحركة، يجب أن تعلم أمريكا يقينا أن مصالح إسرائيل مهددة إذا ما وصل هؤلاء إلى الحكم»، تكون الطامة كبرى حين يظن الغبى أنه ذكى، هل هذا رأيك أيها «الطاغية»؟ أمريكا لا تحب الإسلاميين!! والإسلاميون يهددون مصالح إسرائيل!! يا أخى يجب أن تعلم أن كل شىء تحت السيطرة، الآن ثبت عليك قول الشاعر «يقولون هذا عندنا رأى.. ومن أنتم حتى يكون لكم رأى»!!
    الأمور فى أمريكا مختلفة عن الذى يدور فى ذهن البسطاء، فقد كانت هناك ثمة اتصالات بالإسلاميين تجرى فى الخفاء، لا شىء فى العلن أبدا! وفى دائرة «البيت الأبيض» كانت هناك قلة هم من علموا بالاستراتيجية الكامنة وراء اتصالات المخابرات الأمريكية المستمرة برموز إسلامية، أعلاهم هو ذلك الرجل صاحب اللحية البيضاء، الذى سيصبح المرشد فى ما بعد، كانت المعلومات سرية للغاية، وليس من المقدر أن تصل هذه المعلومات إلى كل رجال السياسة فى إدارة الحكم، إذ كانت قاصرة على الرئيس الأمريكى وعدد محدود من المخابرات، ففى أروقة المخابرات لا تقدم المعلومات إلا على أساس «المعرفة على قدر الحاجة»، وعلى ذلك أدى بعض الموظفين فى درجات عادية لدى وزارة الخارجية، والبنتاجون، والمخابرات المركزية، عملهم فى إطار من السرية الجزئية أو التامة، وصلتهم التقارير الطبية التى تفيد أن الخازوق كما كانوا يطلقون عليه مريض بالسرطان، وأن جسده منهك بفعل المرض، وأن الذى يبقيه على قيد الحياة الرعاية الطبية الكبيرة التى يلقاها، الآن يجب ترتيب الأمور ليصل إلى الحكم حليف آخر، حليف سيبدو من صورته الظاهرة أنه من خصوم أمريكا، ومن أعداء إسرائيل، ولكن لا شىء فى السياسة محرم، والضرورات تبيح المحظورات، فلتستمر سياسة «الأقوال» فى طريقها الذى لا ينضب، فالأقوال لا تغير واقعا، وحين يصل الإسلاميون إلى الحكم لن يتغير شىء، وستستمر الحروب الكلامية، فقد تكون لهذه الحروب ضرورة أمريكية.
    خطة المخابرات الأمريكية لمساعدة الإسلاميين للوصول إلى كرسى الحكم كانت تحت عنوان «?Why not» كبير مستشارى الأمن القومى هو العقل المدبر لها، والمتمم لآلياتها، كانت محاور الخطة الرئيسية تقوم على ضرورة استخدام «البطاقة الإسلامية» لزرع الفتنة فى المنطقة وتقسيمها، وفى سبيل التمهيد لذلك طلب مستشار الأمن القومى رسميا من لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ إجراء «دراسة مستفيضة» على الأصولية الإسلامية، نظرا لما لها من «أثر سياسى متعاظم» فى أنحاء كثيرة من العالم، ووفقًا لما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» فإن مستشار الأمن القومى كان قبل ذلك قد وجه الأوساط الاستخبارية رسميا لعمل دراسة متعمقة على هذه الظاهرة.
    لم يكن من السهل أن يلمح أحد أن خطة «?why not» أقيمت على فكرة استقرأها الفيلسوف والمؤرخ الإنجليزى الشهير برتراند راسل المتوفى عام 1970، كتب فكرته فى كتابه الشهير «أثر العلوم فى المجتمع» الذى خرج إلى النور عام 1951، قال برتراند راسل: «يتزايد سكان العالم حاليا بمقدار ٥٨ ألف نسمة فى اليوم الواحد، ولم يكن للحرب -حتى الآن- أثر عظيم على الحد من هذه الزيادة، لقد ثبت أن الحرب مخيبة للآمال فى هذا الخصوص حتى الآن، لذلك يجب أن يبحث أصحاب العقول الراجحة عن وسائل بديلة للحرب بين الدول، حينئذ سيكون من السهل أن يتحول جزء كبير من العالم إلى قطعان من الفلاحين التى خبرها الأجداد فى القرون الوسطى، ويكون من السهل على الدول الصناعية الكبرى أن تقود العالم».
    فكرة «ترييف العالم» وجعله سلة غذاء للدول الصناعية الكبرى، هى الفكرة التى استحوذت على عقل الإدارة الأمريكية، يجب أن يتحول البشر فى معظم العالم إلى قطيع من الفلاحين الأجراء، أو العبيد، كل عملهم هو إعداد «مائدة الطعام» للسيد الصناعى الكبير.
    كيف تطورت فكرة برتراند راسل وأصبحت خطة كاملة؟ كان ذلك عام 1975، حيث «خرج إلى الوجود (مشروع مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية لحقبة الثمانينيات)، وهو استقراء خططى للمستقبل جاء فى ثلاثين مجلدا، أما الذين شاركوا فى هذا العمل الضخم فهم أكبر العقول الاستراتيجية فى أمريكا، كان منهم سايروس فانس، وأنطونى سلومون، وهارولد براون، وبريجينيسكى».
    يتلخص هذا المجلد الضخم فى كلمتين، هما «التفكيك المنضبط» لاقتصاد العالم، فكرة التفكيك هذه تقوم على إشاعة الفوضى الاجتماعية، والحروب الإقليمية بين الجارات، والحروب الأهلية فى الدولة الواحدة، وسيترتب على هذا زيادة نسبة الوفيات فى العالم، فى ما يشبه الإبادة، وستكون هذه الإبادة بيد سكان كل منطقة، لا بيد الدول الصناعية الكبرى، ولكى يؤتى المشروع ثماره يجب أن يكون تفكيك دول المنطقة عن طريق إشاعة الفتن الدينية والعرقية والحدودية، فلينقسم الشرق الأوسط إلى «سنة» و«شيعة»، ثم فلينقسم العالم السنى إلى أنصار الدولة الإسلامية وخصومها، ومن الأفضل تضخيم الروح العنصرية بين أبناء الدولة الواحدة، وليكن ما يكون.
    ثم ماذا بعد؟ ما الذى سيحدث؟ وكيف سيستفيد «العالم الصناعى العملاق» من هذا الأمر؟ ستقوم حروب فى المنطقة لا شك، وفقا لنبوءة خطة التفكيك، وستشتعل فتن طائفية وعرقية حينما يتم تغذية مدخلاتها، وأكبر تغذية ستكون بتولية الإسلاميين الحكم فى بيئة صالحة للاضطراب والاشتباك العقائدى، ولكن هل ستجنى أمريكا من تلك الحروب أرباحا؟ الربح هو الذى يدير العقلية الأمريكية، هو المسيطر على طريقتها فى الإدارة، سواء كان الحكم عندهم «جمهوريا» أو «ديمقراطيا» فهو هو، أمريكا فى كل الأحوال هى المرابى «شيلوك» بصورته الحديثة المتطورة، هى المرابى الذى يريد اقتطاع أرطال اللحم من جسد العالم، وفى الشرق جسد على أتم الاستعداد لتقطيع لحمه، فكيف ستكسب أمريكا من سياسة تقسيم الشرق وتقطيع لحمه؟
    كانت طريقة الاستفادة واضحة فى المجلدات التى احتوت على نبوءات أمريكا «الدولة الراسبوتينية» إذ ورد فى مجلدات النبوءة «أن النظام المالى والاقتصادى العالمى يحتاج إلى إصلاح كامل بما يضمن وقوعه تحت إدارة عالمية واحدة، بما يضمن القضاء على مفهوم الدولة الوطن وخلق مفهوم آخر يقوم على إشراف عالمى موحد يكون فى يد الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى (الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولى هما فى الحقيقة جهات مخلوقة من رحم أمريكا الشيلوكية).
    ولكى يتحقق مفهوم الإشراف العالمى يجب أولاً تقسيم العالم إلى مناطق أو تكتلات منفصلة، ثم يتم إدخال منطقتنا فى أزمات اقتصادية طاحنة تستنفد موارده وثرواته، حينئذ تكون لصندوق النقد الدولى سيطرة شبه مطلقة على تدفق العملة الأمريكية والأوروبية، ولن يتم ذلك إلا إذا تم تقسيم دول الشرق إلى مناطق صغيرة متحاربة».
    استطردت النبوءة الراسبوتينية فى شرح النتائج، فقالت «سينشغل العالم الشرق أوسطى بنفسه، وسيندمج فى صراعاته، ولن يلتفت إلى تطوير نفسه وتحديث معارفه، وسيعود حتما للوراء عشرات السنين، وبذلك سيظل فى حاجة شديدة إلى دعم أمريكا له عن طريق مؤسساتها، وسيظل تابعا ذليلا لا يستطيع أن يبرم أمرا إلا من خلالنا، وسنضع الرؤساء ونستقدم الحكام كما نشاء، وسيجبرهم صندوق النقد الدولى على اتباع السياسات الاقتصادية التى نريدها».
    انتهت الخطة المرسومة وجاء وقت التنفيذ، الآن جاءت ساعة الجد، وما كان يتم فى الخفاء جاء الأوان ليصبح فى العلن، فحين ظهر أن الطاغية سيرحل سيرحل، أعلن مستشار الأمن القومى عن رؤيته على الملأ، فقال: إن واشنطن سترحب بقوى الصحوة الإسلامية فى الشرق الأوسط، لأن القوة الإسلامية، كفكرة عامة أيديولوجية معارضة بطبيعتها للقوى السائدة فى المنطقة.
    وبعد هذا التصريح أرسل مستشار الأمن القومى للطاغية رسالة مفعمة بالمحبة: لا تقلق نحن معك، ولن يستطيع أحد تحريكك من فوق كرسى الحكم، نحن نرتب لكى يكون ابنك هو الحاكم القادم، إلا أن قلب الطاغية ارتجف لأول مرة، وكرسى الحكم من تحته ارتجف، وها هى الثورة تشتعل فى البلاد، خرجت الجماهير فى مظاهرات صاخبة فى ذات التوقيت فى كل المحافظات، وقفت المظاهرات فى الميادين الكبرى، لن يحركها أحد حتى يسقط الطاغية، كانت الهتافات الغاضبة تطالب بسقوط النظام، وترفع شعارات «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية» يبدو أن هذا الشعار كان موحدا فى كل الثورات، فقد كان هو بعينه نفس الشعار الذى هتفت به الجماهير الثائرة إبان ثورة الشعب الروسى عام 1917، لم تكن الثورة آنذاك «بلشفية»، ولكنها كانت لكل الشعب ثم استولى عليها الشيوعيون.
    الثورات مثل البركان، لا يستطيع أحد التحكم فى فوهتها إذا انطلقت، لذلك حينما تحركت مظاهرات ضخمة ضد الطاغية فى أواخر يناير، وازدادت حدة فى فبراير، قامت الثورة على «الطاغية» ونظامه، لم يستطع الأمن على كثرته إيقاف هذا الغضب الهادر، فكان أن سقط الطاغية، ومن بعده آل الحكم إلى زمرة الإسلاميين، لندخل إلى المرحلة الأولى من تجريف البلاد.

    انتظر لا تغادر هذه الصفحات سريعا، بل عد لقراءتها مرة ثانية، فالحديث لم يكن متعلقا بثورة مصر ضد نظام مبارك، ولكننى كنت أتحدث عن الثورة الإيرانية التى نشبت عام 1979 وترتب عليها حكم الملالى وآيات الله، أبطال هذه الحكاية الحقيقية هم شاه إيران محمد رضا بهلوى، والرئيس الأمريكى كارتر، وبريجنسكى كبير مستشارى الأمن القومى الأمريكى فى ظل حكم كارتر، وما زالت له حتى الآن هيمنة على سياسات الإدارة الأمريكية، جنبا إلى جنب مع كيسنجر الداهية، يبقى أن تعلم أن الجهاز الأمنى لبهلوى الذى كان يثير الرعب فى النفوس هو السافاك، والابن الذى كان محمد رضا بهلوى يريد توريث الحكم له هو ولى عهده الشاب وقتها «رضا بهلوى» ابن الإمبراطورة «فرح ديبا».
    أما طائفة الإسلاميين التى وصلت إلى الحكم من بعد بهلوى فهى مجموعات الملالى وعلى رأسها «الإمام الخمينى» وقطعا ستعلم أن الشيخ صاحب اللحية البيضاء الذى تواصلت معه أمريكا عن طريق أجهزة مخابراتها هو الخمينى الذى أطلق على نفسه بعد أن وصل إلى الحكم لقب «المرشد الأعلى»!!، وكان من تخطيط المخابرات الأمريكية لدعم الثورة الإيرانية التى أطلقوا عليها «الإسلامية» ترتيب لقاء بين الخمينى الذى كان فى منفاه فى فرنسا، وبين بعض قيادات الإخوان المسلمين كان على رأسهم يوسف ندا، صاحب الأدوار العالمية الغريبة، ومن بعد هذا اللقاء كان الدعم الإخوانى لثورة الخمينى، إذ لم يعرف العالم السنى تأييدا لهذه الثورة الشيعية من حركة تنتسب إلى أهل السنة غير الإخوان!
    وقد كان بريجنسكى كبير مستشارى الأمن القومى فى عهد كارتر هو صاحب خطة تسليم الحكم للإسلاميين والمشرف على تنفيذها.

    ثروت الخرباوى يكشف.. «2» فلسفة الثعبان المقدس «أئمة الشر.. الإخوان والشيعة»

    الثورة الإيرانية لم تنطلق من مساجد طهران لكنها بدأت من معهد «تايفيستوك» البريطانى للعلوم السلوكية وتصنيع الرأى العام
    متى بدأت إرهاصات الثورة الإيرانية؟ لم تبدأ من الشارع الإيرانى، ولم تبدأ من المساجد، إذ كانت الاحتجاجات خافتة الصوت والأثر، ولكن بدأت إرهاصات الثورة الخمينية من معهد «تافيستوك» البريطانى، الذى يضم نخبة متميزة من علماء «السلوك» وقد كان هذا المعهد من خلال خبرائه متخصصا فى تصنيع الرأى العام، وتشكيل الوعى فى الاتجاه الذى يريدون، وذلك من خلال وسائل غسيل مخ جماعية، وخلق حالات اجتماعية وسياسية يسهل من خلالها السيطرة على الجماهير، إذن ماذا فعل معهد «تافيستوك» بخصوص ثورة إيران؟
    (بدأت فرق من الإخصائيين النفسيين الاجتماعيين من معهد تافيستوك فى تحديد خصائص «الثورة»، معتمدين فى ذلك على تجارب سابقة تخص عملية الغسل الشامل للأدمغة، وجد هذا المعهد إجابات لأسئلة كثيرة، كيف سيستجيب الإيرانيون إلى دعوة تصدر من ملا عاجز طاعن فى السن تحركهم للثورة؟ كيف سيستجيب لذلك أهل الريف، أو العمال المهرة أو الطبقة الوسطى، أو المفكرون؟ وأى أسلوب أنفع للطلاب للزجّ بهم فى الثورة؟ وما نقاط الضعف لدى الشرطة والقوات المسلحة؟ كل ذلك كان لا بد من تحليله ووضعه فى الاعتبار، وقد كان الفريق الذى أسندت إليه تلك القضية رجالا مخضرمين فى أساليب الحرب النفسية المتقدمة، وقد استقدموا فى معهدهم الخبير «مارفن زونيس» الأستاذ بجامعة شيكاغو الذى ألف كتاب (النخبة السياسية فى إيران) لوضع تقارير إيضاحية لطريقة التصرف التى يمكن أن تسلكها الطبقات الإيرانية ومجموعات معينة من الشعب تجاه تفعيل الاحتجاج ونقله إلى خانة الثورة).
    لا بد أن غطرسة الشاه وثقته بقوته وظنه أن إيران فى عهده هى جزيرة الاستقرار فى المنطقة، كان لها أكبر الأثر فى نجاح الثورة، كما أن ثقته التى كانت فى غير محلها فى جهازه الأمنى «السافاك» كانت هى التربة الخصبة التى تحركت فوقها الثورة، وكان اغترار الرجل بأمريكا هو المسمار الأخير فى تابوت جنازته! ولأن «السياسة خداع» فقد مارس الرئيس الأمريكى كارتر عملية خداع الشاه على أعلى مستوى، إذ قال فى عام 1978 وهو يناصر الشاه: إن إيران هى جزيرة الاستقرار فى الشرق الأوسط المضطرب، فهل من بعد تصريحات كارتر هذه مكان للقلق؟! فى السياسة يجب أن يتحول جسدك كله إلى عيون، فلا أمان للدول العظمى، ولا أمان للأصدقاء والرفاق، ولكن بهلوى كان يجهل هذا، لذلك غفل عن الذى كان يجرى فى السر، ووضع فى بطنه «بطيخة أمريكانى». ومن الغريب أن فريق بريجنسكى كان ينفذ على قدم وساق وقت تصريحات كارتر المطمئنة للشاة خطة (why not?) التى كانت تستهدف الإطاحة بالشاه صاحب التاج من فوق الحافة واستبدال العمائم السوداء به.
    وحين لا تحسب حسابا لشعبك فإنك مغادر بلا شك، لذلك فإن أمريكا ومخابراتها لم يكن فى إمكانها التخلص من الشاه لو كان متحصنا بشعبه، لو كان عادلا وشريفا، ولكن الحكام فى معظم دولنا يتحصنون بأمنهم وجيشهم، ومن فوق هذا وذاك «أمهم أمريكا»، فإذا تآمر عليه جيشه وجهازه الأمنى، وتخلت عنه أمريكا، فإن الشعب الذى ضج منه سيخلعه كما يخلع الرجل خاتمه، لذلك أخذ موقف الشاه بهلوى يزداد سوءا بعد سوء قبل عام من الثورة حين سكت عن الفساد، وأصم أذنيه عن استقبال أصوات شعبه المطحون، ثم عمد إلى تغيير ببعض الوزراء من أصحاب الكفاءة والشعبية آخرين، كما كان الحال مع رئيس الوزراء عباس أمير هويدا، ليعين بدلا منه جمشيد أموزيجار الذى شغل من قبل مناصب وزارية متعددة، وحين وضع أموزيجار قدمه على رأس الوزارة اتبع سياسة تحويل الاستثمارات إلى الزراعة بعيدا عن الصناعة والتكنولوجيا المتطورة، وفوق ذلك كله اتخذ أموزيجار موقفا معاديا مستفزا تجاه رجال الدين الملالى، كأنه يريد إثارتهم وتحريك مشاعرهم ضد الشاه! وكان من سياساته الغريبة التى انتهجها هى وقف الأموال التى كان يدفعها النظام آنذاك إلى رجال الدين، وعلى ما يبدو كان أموزيجار مصمما على إدخال الشاه فى عش الدبابير! وبذلك خرج رجال الدين من كهوفهم وسراديبهم، وهجروا تحالفهم السرى مع الشاه الذى أخذ يناصبهم العداء من خلال رئيس وزرائه، وبهذا ضمنت المخابرات الأمريكية ومعها معهد تافيستوك البريطانى دخول رجال الدين إلى رقعة الثورة التى بدأت تزداد اتساعا، ولعل الصورة واضحة الآن، فرئيس الوزراء الجديد أموزيجار البهائى ذو الأصول اليهودية، الذى تلقى تعليمه فى أمريكا، والذى تخرج فى جامعة «كورنيل» بنيويورك، كان مبعوثا خفيا لتأجيج حالة الغضب ضد النظام، كانت تصرفاته الظاهرة تبدو للذى يرى الصورة الخارجية كأنه يدافع عن نظام سيده الشاه ضد «القوى الظلامية»، فى حين أن الصورة الخفية تختلف كثيرا فى تفاصيلها، ويبدو أن معهد تافيستوك «السلوكى»، كان بارعا فى توجيه أموزيجار لاتخاذ قرارات بعينها، من شأنها أن تزيد من حالة الغضب وتوسع من رقعته، وكان أسوء ما فعله أموزيجار ضد الشاه، وأفضل ما فعله لصالح الثورة، هو قيامه عام 1978 بإصدار أوامر للشرطة بالإغارة على منزل الزعيم الدينى «آية الله شريعتمدارى»، كان هذا الزعيم الدينى صاحب شعبية كبيرة، وهيمنة روحية على الشيعة، فقد كان مرجعا دانت له بالتبعية شيعة إيران والعراق ولبنان وباكستان والهند، فإذا بأموزيجار البهائى يوجه إهانة شديدة للشيعة باقتحام منزل رجل دين من طراز رفيع! كانت تصرفات أموزيجار دافعا كبيرا للثورة عن طريق إثارة سلوك المتدينين ودفعهم إلى الغضب، وكان أن أقال الشاه أموزيجار فى أغسطس عام 1978، إلا أن هذه الإقالة لم تساعد على تهدئة الشارع ولا تهدئة الملالى وتسكين ثائرتهم.
    كل ذلك كان مدعاة لتفجر السخط العارم، وقد بدا الشاه مع ذلك كأنه غير مبال بالبركان الذى ينشط على مقربة منه شيئا فشيئا، يكفيه اطمئنانا أن صديق طفولته حسين فردوست، هو الذى يدير جهاز المخابرات الإمبراطورية «السافاما» وقد كان قبلها وكيلا للجهاز الأمنى الخطير «السافاك» وفردوست رجل أمن من طراز رفيع، ومعه لا يمكن أن يخشى الشاه على ملكه، ولكن فى عالم السياسة لا ينبغى لحاكم أن يثق بصديق طفولته ثقة مطلقة، بل ينبغى أن يسير معه بعيون مفتوحة، فالقلب قُلَّب، والنفس قلابة، إلا أن الشاه لم يكن عارفا بعلوم النفس البشرية وخباياها، فظل على حاله يثق ثقة كاملة بجهاز السافاك، وجهاز السافاما، وكان ذلك هو أكبر أخطائه جميعا، ولا شك أن آلام الشاه كانت مضنية إلى حد كبير، لم يكن ألم الجسد الذى استشرت فيه الأورام السرطانية هو الذى يقض مضجعه ويسهر لياليه، ولكن ألم الخيانة هو الذى يدوم ولا ينقطع، تهون آلام الجسد أمام آلام النفس، فآلام الجسد مهما كانت تخدرها المسكنات، ولكن آلام النفس لا مُسكن لها.
    كان الخائن الآخر الذى اغتنم الفرصة وطعن الشاه هو صديقه بهبهايان، الذى كان يستثمر له أمواله فى أوروبا، كانت ثروة الشاه طائلة، وكان بهبهايان رجل تجارة حاذقا، وتابعا أمينا للشاه، ولكن هذا الصديق المخلص انتهك صاحبه، إذ بعد الثورة وفقا لشهادة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل قال للشاه: لقد ضاع من ثروتك سبعين مليون دولار، صرخ الشاه: ويلك، أين ذهبت؟ هل وقعت فى بلاعات المجارى! ولم يتلق الشاه إجابة فقد هرب صديقه بهبهايان وسكرتيرته وهو يحمل معه الملايين والمجوهرات، كأنه وقع على كنز «على بابا»، ولكننا لم نكن نعلم أن على بابا لص، نعم كان على بابا لصا ولكننا فرحنا بسرقاته لأنه كان يسرق من لصوص.
    هل التاريخ يكرر نفسه؟ لا أظن، ولكننا لا نعتبر من أخطاء السابقين فنقع فى مثل ما وقعوا فيه، فنكرر نحن التاريخ ولا يكرر هو نفسه، فى مسرحية «يوليوس قيصر» لشكسبير يقع قيصر مضرجا بدمائه من طعنات المتآمرين الذين دعوه إلى اجتماع فى مجلس الشيوخ، وكانت لحظة فارقة، ودهشة مذهلة أصيب بها قيصر عندما تقدم منه صديق عمره «بروتس» فيطعنه الطعنة القاتلة، تحشرج صوت يوليوس قيصر وهو ينظر بأسى وألم إلى صديق عمره، وأغمض عينيه حتى لا يرى الحقيقة وهو يقول: حتى أنت يا بروتس!! «Even you، Brutus» أراد بروتس أن يبرر لنفسه فعلته فقال: إنى أحبك ولكننى أحب روما أكثر، فارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه قيصر الحزين وقال: إذن فليمت قيصر.
    ليس قيصر فقط هو الذى تعرض للخيانة، بل ظل البشر يكررون قصص الخيانة، ولا يزالون يكررون، فنظن أن التاريخ يُعيد نفسه، ولكننا نحن الذين نستعيده ولا يستعيد هو نفسه.
    ترى هل كان حسين فردوست صديق العمر للشاه هو بروتس العصر الحديث؟ ولد فردوست عام 1918 فى طهران من أسرة عريقة فى المجال العسكرى، إذ كان والده ضابطا فى قوات الدرك وكان هو مولعا منذ صغره بالعسكرية، وعندما حل عام 1925 التحق فردوست ابن السبع سنين بمدرسة «نظام» الابتدائية، وهى مدرسة كانت مخصصة لأبناء الصفوة، وفى العام نفسه التحق الطفل الصغير محمد رضا بذات المدرسة، ولأن الطفل الصغير رضا لم يكن له أصحاب، وكان والده قد أصبح إمبراطورا لإيران وأعطى لنفسه لقب «بهلوى»، وابن الإمبراطور ينبغى أن يكون له أصدقاء من أبناء «طبقة النبلاء والعسكريين الكبار»، فلذلك وقع الاختيار على الطفل حسين فردوست كى يكون صديقا لابن الإمبراطور، وكان من ضمن معايير اختيار فردوست لكى يكون صديقا لابن الإمبراطور أنه كان من أذكى تلاميذ المدرسة، ومنذ ذلك الحين أصبح فردوست صديقا لمحمد رضا ومخزنا لأسراره.
    ولأن لا شىء يبقى على حاله فى هذا العالم، والله سبحانه وتعالى يُغيّر ولا يتغير، جاء عام 1941 المؤلم للإمبراطور الأب رضا بهلوى، ففى هذا العام دخلت قوات الحلفاء إلى إيران فقامت هذه القوات بنفى الإمبراطور رضا خان بهلوى من البلاد، وحولت مسؤولية الجيش إلى الابن محمد رضا بهلوى، الذى قام بتشكيل لجنة عسكرية عليا لدراسة تقدم الحلفاء، وكان من الطبيعى أن يكون فردوست الصديق الصدوق لمحمد رضا عضوا رئيسيا فى هذه اللجنة العليا.
    كان نفى الإمبراطور مقدمة لخلعه من الحكم وتولية ابنه الشاب الصغير، وحدث هذا بالفعل، وأصبح الابن محمد رضا إمبراطورا لإيران، وحين نظر الإمبراطور حوله وقع فى حيرة، بمن يستعين؟ وعلى من يستند فى رحلة الحكم؟ إلا أن حيرته لم تدم طويلا، فقد كان برفقته الصديق المخلص حسين فردوست فكان أن جعله مديرا لمكتبه ومستشارا له وأنيسا لوحدته، ولم يخيب فردوست ظن الشاه الجديد فاضطلع بدور كبير فى رفع معنوياته ودعم نفسيته، ثم ارتقى لدور أكبر من ذلك فكان أن أصبح بين ليلة أو ضحاها همزة وصل بين الشاه قليل الخبرات وبين البريطانيين.
    ولم يمر عام على تولية الشاه الشاب الجديد حتى قام فردوست بتأسيس الحرس الملكى لحماية الشاه وقصوره، ومع مهام حراسة الشاه وقصوره وحكمه كله وضح أن ثقة الشاه بفردوست أصبحت متنامية فوصلت إلى مدى لا سقف له، وكان من ناتج هذه الثقة أن أسند له الشاة ملفات أخرى فأصبح ممثلا له إبان حركة تأميم النفط، وبعد انقلاب عام 1953 أدرك الشاه بتوصية من بريطانيا أن تأسيس جهاز أمنى سرى سياسى له أهمية قصوى للحفاظ على حكمه، فكان فردوست هو أحد الكبار الذين قاموا بتأسيس «السافاك»، وتلقى من أجل ذلك هو وآخرون تدريبات مكثفة فى المخابرات البريطانية، ومن وقتها أصبح فردوست وكيلا لـ«السافاك» وأصبحت المخابرات البريطانية هى المشرفة المباشرة على «السافاك»، وعندما استشعر الشاه أن الأمور فى إيران سريعة التأزم ففكر ودبر، ثم طلب من صديق عمره فردوست أن ينشئ جهازا مخابراتيا تكون سلطاته أعلى من «السافاك» نفسه، على أن تكون مهمته الرئيسية التجسس على الملالى والطبقات العليا فى المجتمع بكل أشكالها السياسية، فأنشأ فردوست جهاز السافاما، الذى كان بمثابة السياج الأمين للشاه، كان هذا الجهاز هو أعلى قمة الهرم الإدارى لجميع المؤسسات الأمنية والمخابراتية فى البلاد بما فى ذلك «السافاك»، لذلك كان «السافاما» هو عين وأذن محمد رضا بهلوى.
    ولكن من الذى قال إن حسين فردوست كان بروتس الذى طعن قيصر العصر الحديث محمد رضا بهلوى؟
    أدرك الشاه متأخرا الدور الذى قام به صديقه فردوست فى تأجيج الثورة، عرف متأخرا أن فردوست كان يؤلب عليه كبار ضباط الجيش والمخابرات، وكان يقول لبعض من يثق بهم من تلك القيادات «لقد قرر الأمريكان التخلص من الشاه، علينا أن ننجو بأنفسنا، أتراك تلحق بنا؟».
    أدرك الشاه وأخته الأميرة «أشرف» بعد قيام الثورة أن الجنرال فردوست كان هو الخائن الأكبر، كان هو يهوذا الذى سلمهم لثورة الخمينى، وقد ذكرت الأميرة أشرف فى كتابها «وجوه فى المرآة»، الذى سجلت فيه أحداث الثورة وأسبابها: أن المساجد قبيل الثورة مباشرة كانت هى المسرب الذى تخرج منه المظاهرات المناوئة للشاه، ثم أضافت الأميرة أشرف وهى تبدى تعجبها: «الغريب أن (السافاك)، وهو البوليس السرى الذى يعمل لمصلحة الشاه، والمفترض أن يكون المصدر المخابراتى الذى على دراية ومعرفة بكل شىء، فضلا عن (السافاما)، الذى كان تحت قيادة مباشرة من فردوست لم يعد أى منهما تقارير عن المدى والأسلوب الذى اتبعه الملالى فى استغلال المنابر لتقويض العرش، وكان فردوست هو القناة التى تصل من خلالها المعلومات الحيوية العليا إلى أخى، وإننى على قناعة بأن فردوست كان يخفى معلومات حيوية على الشاه، وأنه إلى ذلك كان يجرى مداولات مكثفة مع الخمينى خلال السنوات الأخيرة للنظام».
    سقط الشاه، خرج من الرقعة، ومن سقوطه عرفنا أنه كان مجرد قطعة يحركها لاعب خارجى، وإذ خرج الشاه من اللعبة كان لا بد أن يدخل «الفيل صاحب اللحية» بدلا منه ليحركه أيضا ذات اللاعب ولكن بطريقة مختلفة، ففى كل حين تتغير قواعد اللعبة وقوانينها، ومن لا يدرك تلك القواعد لا بد أن يخرج، وقد يخرج حتى ولو كان مدركا ما دام دوره الذى كان يؤديه قد انتهى.
    لم يكن فردوست وحده هو أداة أمريكا والمخابرات البريطانية فى تنفيذ خطة «بريجنسكى»، فقد عرف الشاه وشقيقته القوية الأميرة أشرف أن بلاط الحكم كان قد امتلأ عن آخره بنسخ متكررة من بروتس، أو يهوذا، ولم يكن فى طوق الإمبراطور أن يتجنب طعناتهم، حتى بهبهايان الصديق الذى كان يستثمر الأموال كان أحد الطاعنين، إذن فليمت القيصر رضا بهلوى.
    فى ليلة مظلمة بينما الشاه فى منفاه ببنما، أخبره أحد الأصدقاء بأن محكمة أمريكية قد تم استدعاؤها ليلا على عجل لتحكم بتسليم الشاه للخمينى كى تساومه أمريكا على قضية الرهائن، تحير الشاه، كيف يتصرف؟! هو الآن فى بيت عتيق سمحت له به أمريكا، وبنما حليف تابع للأمريكان «الصديق الغادر» ألا يوجد صديق وفىّ فى هذا العالم؟! برق فى ذهنه خاطر، هناك أنور السادات رئيس مصر، هو رجل وفىّ وصديق مخلص، وله أخلاقيات نادرة فى هذا الزمن، أظنه لن يتوانى عن مساعدتى.
    توجه الشاه وأسرته إلى المطار فورا، وركب الطائرة إلى القاهرة بعد أن كان قد اتصل بالسادات، وفى المطار التقى السادات وبكى فى حضنه وهو يقول: هل تصدق أن أمريكا كانت تعتبرنى خازوقا، لقد عرفت هذا فى الطائرة التى أقلتنى إلى هنا، حيث أطلقوا على طريقة خروجى من إيران بعملية خروج الخازوق (من مقال لهيكل).
    دخل الشاه مستشفى المعادى، وخصص له السادات قصر القبة الرئاسى ليقيم فيه وأسرته، ولكن القدر لم يمهله ليرى ما الذى سيحدث فى بلاده، كان عمره قد انتهى فى الموعد والطريقة التى حددها الله سبحانه وتعالى، وكان الفيل الأسود صاحب اللحية والعمامة قد دخل إلى الرقعة، ليحركه اللاعب الخارجى بالطريقة التى يشاء، وليثير أشد القلاقل فى الخليج العربى، وليجعل القوس الخليجى فى احتياج دائم لشرطى العالم الذى لا يتحرك إلا بالوقود والمال، ليحميه من بلطجى المنطقة الذى يرفع راية «الشيعة»، فتقع قلوب العالم السنى ومركزه المملكة العربية السعودية خوفا من حيل الشيعة ودهائهم ورغبتهم العارمة فى تشييع أهل السنة، وفى الخليج أدرك أهلها أن الجيش الأمريكى سيتخذ الخمينى ذريعة لتوسيع وجوده فى المنطقة، ولكن ما قيمة الإدراك وقواعد اللعبة لا تحفل بالشعوب ولا الحكومات، ما قيمة الإدراك وخريطة العالم لا تهتم إلا بالقوى، فالرأى رأى القاهر الغلاب كما قال أبو القاسم الشابى فى قصيدته الرائعة «فلسفة الثعبان المقدس»، التى قال فيها:
    لا رأى للحق الضعيف ولا صدى *** والرَّأى رأى القاهر الغلاب
    كان تنصيب الخمينى والملالى على إيران بمثابة أنبوبة اختبار، كان فى أفكارهم أن الخمينى سيؤدى إلى تفسخ الشرق الأوسط بأكمله، ومن بعده يأتى الإخوان فى مصر ودول ثورات الربيع من السجن إلى القصر، فتستحيل المنطقة إلى حلبة مصارعة حرة دموية، فإذا ما تم لهم ذلك كان من السهل على الثعبان المقدس أن يبتلع الشحرور المغرد.

    ثروت الخرباوى يكشف: الجماعة هى أكبر خديعة تعرض لها الشعب المصرى فى تاريخه ,,أئمة الشر «3»

    ماذا قدم البنا للإنجليز والفرنسيين مقابل تبرعهم بـ500 جنيه لبناء مسجد جمعية الإخوان؟
    فى أحد مساجد الخرطوم بالسودان فى الأيام الأولى من شهر أبريل عام 2013 جلس الرئيس المصرى محمد مرسى مع رئيس نِصف السودان عمر البشير يقرآن القرآن، نعم نِصف السودان فقد أصبحت السودان دولتين فى ظل حكم الإخوان لها، كانت بعض الروائح قد تصاعدت تؤكد أن السودان قد يتفرع منها دولة ثالثة، وكان قارئ القرآن بالمسجد قد أكد لعمر البشير أن مصر ستمنح السودان منطقة «حلايب وشلاتين» لا تثريب على مرسى حينما قرر منح البشير هذه العطية، فهما أخان فى تنظيم واحد يجتمعان معًا فيه، والتنظيم الأم لهما هو «التنظيم الدولى لجماعة الإخوان» وتحت راية القرآن من الممكن أن يفعل الساسة ما يريدون، وبالقرآن يستطيع بعضهم خديعة الأمم، وقد كانت جماعة الإخوان أكبر خديعة تعرض لها الشعب المصرى عبر تاريخه، ولكن الخديعة لا تدوم.
    نعم قد يخدعك بعض الناس بعض الوقت، ولكن ليس فى إمكان أحد أن يخدعك كل الوقت، وحين ظهرت جماعة الإخوان على ظهر الأرض ظن الناس أنهم من أهل الله وخاصته، فالمظهر قد يُخفى حقيقة الجوهر، وكلنا ننظر فى الوهلة الأولى إلى الشعارات دون أن نبحث عن المحتوى، فنظن أن فئة من الفئات أو طائفة من الطوائف هم من أولياء الله وهم يخفون فى نفوسهم أمرا ويظهرون أمرا آخر كأنه قبة عالية مزخرفة بالنقوش، فنقول كما قال أجدادنا «تحت القبة شيخ» وما هو بشيخ ولكن مسخ مشوه، نظرتنا السطحية هذه قد تقودنا إلى التهلكة إن لم نكتشف الخداع مبكرا، أمعِن النظر فى الأقوال، ثم راقِب الأفعال، ولا تبحث عن مبرر إذا زاد انفلات الأفعال عن الحد وبلغ السيل الزُّبَى، واعلم أنه «ليس كل من ركب الحصان خيَّال» وليس كل من أطلق لحيته وقرأ القرآن ورفع الأذان وصلَّى أمام الناس، مؤمنا حقًّا، ولنا فى رسولنا (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة، فقد علَّمنا أن العبادة الفارغة من مضمونها مردودة على صاحبها فقال «مَن لم يَدَعْ قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه» ولعل أبو يزيد البسطامى هو الذى قال: لو رأيتم الرجل يطير فى الهواء أو يسير على الماء فلا تركنوا له حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهى، وتجنبه الحرام، والكذب أعلى الحرام.
    فما قصة الإخوان، وما موضعهم من الحكاية التى أوردتها؟ تبدأ قصة الإخوان مع حسن البنا الذى وُلد عام 1906 فى قرية المحمودية التابعة لمديرية البحيرة القريبة من مديرية الإسكندرية، وكان أبوه يعمل فى تصليح الساعات بعد أن وفد إلى مصر من بلده الأصلى «المغرب»، وعبر تاريخى كله قرأت، وأزعم أننى فعلت، كل ما أخرجته المطابع عن حسن البنا، ولكنها كانت قراءة بعين واحدة، وقراءة العين الواحدة لا تبصر الحقيقة إذ هى قراءة متحيزة، تحذف وقت الاستقبال ما تريد، وتثبت فى القلب ما تريد، لا تثبته فقط ولكن الحب يثبته ويضخّمه، وقد أحببت هذا الرجل وشُغفت به، وفَتَّتَتْ كبدى نهايته المأساوية، إلا أننى بعد سنوات من القراءة والبحث كنت أمج مغالاة الغالين، ولا أنزّه نفسى عن أننى كنت فى الفترات الأولى من حياتى قد وضعت الرجل فى مكانة أولياء الله الصالحين الصدّيقين الذين لم يقترب الخطأ من حياضهم أبدا، بهرنى بذاكرته وفراسته وهمته العالية، حتى قلت فى نفسى إن هذا رجل لم يقع فى هفوة قط وكأنه أرقى من الصحابة أجمعين، ولعل الحب ومراتب الهوى هى التى جعلتنى من المشدودين للبنا والمشدوهين به،إلا أننى بعد أن استقام عودى أدركت أن الإنصاف للرجل إنما يكون بتأديمه، أىْ «رده إلى آدميته» فقد خلقنا الله من طين لذلك لا ينبغى أن نحوِّل أنفسنا أو نحوِّل مَن نحبهم إلى ملائكة نورانيين، وتنزيه البشر إنما يكون بتعديد معايبهم وإبعادهم عن الكمال لأن الإقرار بنقائصنا هو فى ذاته الإقرار بكمال الله.
    انضم حسن البنا فى بداية شبابه إلى إحدى الطرق الصوفية، هى الطريقة الحصافية، وظل منتسبا إلى هذه الطريقة طوال حياته، ومن هذه الطريقة أخذ نقطة الانطلاق، حيث تعلم من شيخها، وأخذ من شيوخها حلمى زكريا وحسن خزبك وغيرهما، ومنهم عرف السمع والطاعة والثقة فى الشيخ، وأدرك أن وسيلته فى إقامة تنظيم قوى مُحكَم يدين له بالولاء لا تكون إلا بطاعة الأعضاء كما يطيع المريد شيخه، ففى الصوفية يكون المريد بين يدى شيخه كالميت بين يدى مَن يغسّله يقلّبه كيف يشاء، وهكذا أصبح البنا فى مقتبل أيامه وهكذا أصبح الإخوان بين يدى البنا.
    استمر البنا فى الطريقة الحصافية لم يغادرها بروحه أبدا، وإن كان قبلها قد انقطع عن استكمال حفظ القرآن، إذ توقف عن هذا وهو فى الرابعة عشرة من عمره رغم أنه كان يتمتع بذاكرة لاقطة قوية، وكان من أثر ذلك أن فشل البنا فى الالتحاق بالأزهر الشريف، فقد كانت شروط الالتحاق توجب حفظ القرآن كاملا، وهو لم يكن كذلك، فالتحق بمدرسة دار العلوم المتوسطة التى كانت تشترط أيضا ذات الشرط، ولكن حسن البنا قال فى مذكراته إنه وجد واسطة توسطت لدى مدير المدرسة فتم قبوله بها على وعد أن يحفظ القرآن كله بعد ذلك.
    وتخرج الشاب حسن البنا فى مدرسة دار العلوم المتوسطة بتفوق، ولسبب ما لا نعرفه ولم يكتب أحد عنه ولم يَرِد فى مذكرات البنا لم يستطع استكمال تعليمه فى مدرسة دار العلوم العليا، فعمل مدرسا للخط العربى فى مدرسة ابتدائية بمدينة الإسماعيلية، وكان اختيار حسن البنا لهذه المدينة غريبا، وكان الأغرب أن أحدا من الباحثين لم يبحث عن سبب هذا الاختيار! إذ كان من المتبع وقتها أن الطالب الذى يتخرج بتفوق يكون صاحب الحق فى اختيار المحافظة التى يعمل فى مدارسها، وكان من المألوف أن يختار هذا المتخرج مدرسة فى المدينة التى يسكن فيها، فالاغتراب يباعد بينه وأهله، كما كان يقتطع من راتبه ولا يوفر له حياة كريمة، خصوصا أن حسن البنا وفقا للرسائل التى كان يرسلها إلى أبيه وهو فى الإسماعيلية والتى جمعها شقيقه جمال البنا فى كتاب كان يشتكى من الفاقة، لا شك أن هذا الاختيار يضعنا أمام علامات استفهام محيرة!
    وبدأ البنا فى الإسماعيلية عام 1928 بناء جماعته، جماعة الإخوان، كان حسن البنا يحمل ذكاءً فطريا يعرف أن المصرى متدين بطبيعته يرتجف قلبه عند ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم ويحب آل البيت حبًّا جمًّا، فلم يتجه البنا إلى الذين يذهبون إلى المساجد، وإنما ذهب أول ما ذهب إلى من لا يذهبون إلى المساجد، وفى المقاهى كانت غزوته الدعوية الأولى «غزوة المقاهى» فقد فوجئ البسطاء من الحرفيين وصغار التجار الأميين من رواد المقاهى البلدية برجل من الأفندية يرتدى ملابس إفرنجية يقف متكئًا على أحد المقاعد يخطب فيهم خطابا دينيا بسيطا، واستمر على ذلك أياما حتى اشتهر أمره بين الناس وتحدثوا عن «خوجة» الخط العربى الذى يعظهم فى المقاهى، ومن المقاهى إلى المساجد الصغيرة كان رواحه وغدوّه، وبعد أيام معدودات نجح البنا فى أن يجمع حوله عددا من رجال الإسماعيلية من أصحاب الحرف البسيطة، ظل يتزاور معهم ويبثهم خواطره الإيمانية فترة، ثم آن الأوان لتكون البذرة الأولى للجماعة.
    كان الاقتراح اقتراحه وكانت الفكرة فكرته: علينا أيها الإخوة أن نُنشئ جمعية لنا؟ فلتكن جمعية الإخوان المسلمين، واستقبل الجمع الذى معه اقتراحه باستحسان، فهو قائدهم وهم رجاله، فكان عام 1928 هو عام التأسيس الرسمى لجمعية الإخوان المسلمين، كان كل غرضها الظاهر هو الدعوة لله، وكان الداعية هو الشاب حسن البنا، وحين بدأ البنا فى إنشاء مسجد بالمدينة يعلوه مقر للجماعة قال فى مذكراته «قبل أن يتم بناء المسجد بقليل وقد أوشكت النقود المجموعة على أن تنفد، وأمامنا بعد مشروع المسجد مشروع المدرسة والدار وهى من تمامه بل كلها مشروع واحد، تصادف أن مر البارون دى بنوا مدير شركة القنال ومعه سكرتيره المسيو بلوم فرأى البناء فسأل عنه وأخذ عنه معلومات موجزة، وبينما أنا فى المدرسة إذ جاءنى أحد الموظفين يدعونى لمقابلة البارون بمكتبه بالشركة فذهبت إليه فتحدث إلىّ عن طريق مترجم بأنه رأى البناء وهو يود أن يساعدنا بتبرع مالى وهو لهذا يطلب منا رسما ومذكرة للمشروع، فشكرت له ذلك وانصرفت ووافيته بعد ذلك بما طلب ومضت على ذلك شهور كدنا ننسى فيها البارون ووعده ولكنى فوجئت بعد ذلك بدعوة ثانية منه إلى مكتبه، فذهبت إليه فرحّب بى ثم ذكر لى أن الشركة اعتمدت مبلغ خمسمئة جنيه مصرى للمشروع، فشكرتُ له ذلك، وأفهمته أن هذا المبلغ قليل جدا ولم يكن منتظرا من الشركة تقديره لأنها فى الوقت الذى تبنى فيه على نفقتها كنيسة نموذجية تكلفها 500000 خسمئة ألف جنيه أى نصف مليون جنيه تعطى المسجد خمسمئة فقط، فاقتنع بوجهة نظرى وأظهر مشاركتى فيها ولكنه أسف لأن هذا هو القرار، ورجانى قبول المبلغ على أنه إذا استطاع أن يفعل بعد ذلك شيئا فلن يتأخر. وشكرت له مرة ثانية وقلت إن تسلم المبلغ ليس من اختصاصى ولكنه من اختصاص أمين الصندوق الشيخ محمد حسين الزملوط الذى تبرع وحده بمثل ما تبرعت به الشركة وسأخبره ليحضر لتسلمه، وقد كان. وتسلم أمين الصندوق المبلغ».
    والذى يلفت النظر فى هذه الفقرة التى رواها لنا حسن البنا، أن مبلغ التبرع كان قدره خمسمئة جنيه مصرى، أى ما قيمته وقتها خمسمئة وعشرين جنيها من الذهب، لا شك أنه يمثل مبلغا ضخما وفقا لمعايير زمننا، فى الوقت ذاته فإن ما ذكره البنا عن قيمة تبرع الشركة لبناء كنيسة هو من الأمور التى بثها فى مذكراته حتى يُسيغ لنفسه أمام الناس فى الحال والاستقبال قبوله هذا التبرع من محتل وضع يده على البلاد قهرا، إلا أنه وقع فى مبالغة ممجوجة حينما ذكر أن الشركة تبرعت لكنيسة بنصف مليون جنيه، وهو مبلغ تُبنى به وقتها مدن كاملة، ويبدو أنه عقد هذه المقارنة ليهوّن بها من قيمة المبلغ الذى تلقاه وقِلة أثره، حتى إنه ذكر أن أحد المتبرعين تبرع للمسجد بخمسمئة جنيه أيضا، وكأن هذا المبلغ كان متوافرا لدى عموم الناس يدفعونه لأنه من فضل أموالهم! إذن ما الذى دعاه إلى ذكر قصة هذا التبرع «المشبوه»؟ لم يذكر البنا هذه القصة إلا لأنها كانت حديث الساعة فى مدينة الإسماعيلية، تحدث بها كل الناس، وحدث بين الإخوان بسببها شقاق أدى إلى انشقاق بعض الإخوة الذين انضموا إلى الجماعة، فكان على البنا أن يكتبها ما دامت أصبحت معروفة بطريقة تبرّئه، فكانت طريقة سرده تبدو كأنه يدافع عن نفسه.
    ولكن السؤال المهم هو: مَن الذى عرض التبرع؟ هل الشركة هى التى عرضته من تلقاء نفسها حبًّا فى فعل الخير؟! أم أن حسن البنا هو الذى طلب ذلك وقدَّم من أجل هذا رسما هندسيا شفعه بالطلب؟
    الإجابة نلجأ فيها إلى المنطق والاستقراء، فإذا كانت الشركة هى التى بادرت بالتبرع دون أن يقدم لها البنا طلبا بذلك لكان عليه وفقا للخلق القويم أن يقبل التبرع دون أن يعاتب المتبرع بقلة التبرع، ودون أن يعايره بأنه تبرع فى موضع آخر بمبلغ أكبر، هذا أمر لا يحدث أبدا فى هذا الظرف الإنسانى، ولكن المساومة التى حدثت لا تكون إلا عندما يكون هناك عرض يتدارسه طرفان، يقول أحدهما للأول سأدفع لك مبلغا قيمته كذا، فيقول الثانى للأول هذا مبلغ بخس لا يكفى للمطلوب الذى سأقدمه لك، وتنتهى المساومة بوعدٍ بدفع مبلغ آخر فى المستقبل، وقبولٍ من المساوم للمبلغ، إلا أنه لكى يوضح أنه غير راضٍ عن القيمة قال للمتبرع إنه سيرسل إليه المختص كى يستلم المبلغ! وقد حدث!! مع أن البنا كرئيس للجمعية، وكشخصية عُرف عنها أنها شخصية مركزية، ظل عمره فى إدارته للجماعة يجمع كل الخيوط فى يده، لذلك كان فى إمكانه ومن حقه أن يستلم المبلغ بنفسه، خصوصا أن الجمعية وقتها لم يكن لها لائحة تضبط ما يتعلق بالاختصاصات.
    تثير هذه القصة فروضا كثيرة متشابكة إذ إن البنا حين كتبها لم يقم بصياغتها بشكل منطقى، ولكنك لركاكة العرض تشعر أنك أمام تلفيق فى تلفيق، ومن التلفيق الواضح هذه الفقرة الأخيرة من قصة هذا التبرع، تعوَّد البنا فى حياته أن يقذف حجرا واحدا ليجنى به أكثر من ثمرة، لذلك فإن رفضه تسلم المبلغ بنفسه يأتى فى سياق إظهار الغضب من قلة قيمة التبرع، إلا أنه أيضا كان حريصا على أن يكون خبر هذا التبرع فى أقل عدد ممكن من جماعته حتى لا يحاججه به أحد، فالمفروض أن المسجد قد انتهى تشييده، وقد يظهر فى المستقبل أحد السياسيين ويتهم البنا بتلقى تمويل من الإنجليز والفرنسيين، ويُظهر من أجل ذلك إيصال تسلمه للمبلغ، لذلك يجب أن يوقِّع شخص آخر غيره على إيصال التسلم، ولكن الله أراد أن تشيع قصة التبرع عند الإخوان وغيرهم، لذلك بحث البنا عن طريقة يبرّر فيها سبب هذا التبرع وقلة قيمته وعدم جدواه، وأنه كان من تلقاء الشركة لا بناء على طلب منه، وكان من أجل الخير وبناء مساجد للعبادة، وقتها من الممكن أن نستسيغ القصة.
    ولنا أن نسأل أنفسنا: هل الشركات التابعة للاستعمار الباغى تبادر إلى التبرع لأشخاص فى الدولة المستَعمَرة لفعل الخير؟! التاريخ المصرى يجيب علينا قائلا: «لم يسبق لشركة قناة السويس التى كانت تابعة للإدارة الأجنبية أن تبرعت فى الإسماعيلية أو غيرها لأى عمل من أعمال الخير، وإنما كانت هذه الجهات تقوم بالاتصال بالعملاء وتكليفهم بمهام، وسداد مكافآتهم وفقا للمهام المسندة إليهم» وقد تعيدنا هذه الإجابة إلى السؤال الأول الذى طرحناه وهو: لماذا اختار البنا مدينة الإسماعيلية ليعمل فى مدرستها الابتدائية بدلا من أن يعمل فى مدرسة المحمودية التى هى بلده؟! أظن الإجابة واضحة، ولعلنا نتوسع ونقول إن عدم استكمال البنا تعليمه فى المدرسة العليا رغم تفوقه قد يكون فى الغالب الأعم لهذا السبب، وكأن هناك من كان كامنا فى مكان لا نراه ولم يسجله التاريخ قال للشاب الصغير حسن البنا: كفى تعليما فقد بدأ وقت الجد، هذا وقت عملك المرسوم لك!
    ولسنوات قليلة ظلت الجمعية فى حضن مدينة الإسماعيلية إلى أن قيض الله للبنا أمرا وتم نقله إلى القاهرة فانتقلت الجماعة معه وإن ترك فى الإسماعيلية إخوانه الذين بدأ معهم، تركهم وهم يشتجرون فى ما بينهم أيهم يكفل الجماعة ويكون مسؤولا عنها فى تلك المدينة الصغيرة.
    وفى القاهرة كانت أيام حسن البنا وجماعته فى مرحلتها الثانية،كان كل همه هو أن يُنشئ شُعَبا لجماعته فى كل أنحاء البلاد، وتفرعت الجماعة وتشعبت حتى تشبعت بها الأقاليم، وبطريقته الدمثة الحماسية نجح البنا فى أن يضم إلى جماعته أقطابا من العلماء، ثم سافر إلى الحج. ويحكى رفاق البنا فى هذه الرحلة أنه التقى فيها الملك السعودى ملك المملكة الناشئة، ومن بعد هذا اللقاء أصبح شعار الجماعة هو «المصحف والسيفين» وشعارها الآخر هو «الله أكبر ولله الحمد » وكأن البنا عهد على نفسه أن ينتقل إلى كل الأشجار ليقطف من كل شجرة ثمرة.
    وشيئا فشيئا اتجهت بوصلة البنا الدعوية إلى طريق آخر، فمع مؤتمرات الإخوان ورسائل البنا كانت السياسة، وكانت شمولية الجماعة، فمع اختلاط مفهوم الجماعة عند البنا مع مفهوم الدعوة والإسلام والدعوة كان ولا بد أن يتجه البنا بجماعته ناحية الشمول فالإسلام الشامل لا يقيمه فى ظنه إلا جماعة واحدة على شرط أن تكون هى الأخرى شاملة، مع أن الإسلام ليس هو الجماعة!
    ولأن للسياسة طرقها ووسائلها، فقد حاول البنا أن يقترب من الملك فؤاد، وحين مات نعاه البنا، وكتب فى صحيفته يمهد الطريق للملك الجديد عبارة كررها التاريخ كثيرا هى : «مات الملك عاش الملك» ثم قام هو وجماعته بتنظيم استقبال حافل للملك الجديد فاروق، هتفوا بحياة المليك الجديد، وبايعوه، وكتبوا فى مجلتهم عن المجد الذى ينتظر الإسلام من خلاله، واستمرت علاقة البنا بالملك طيبة فترة ثم سرعان ما تعكر الماء بينهما ثم دخل «الوفد» فى دائرة الخلاف، وراهن البنا حينًا من الدهر على رئيس الوزراء إسماعيل صدقى الملقب «عدو الشعب» فناصره ووقف معه ضد رغبة الشعب كله، وسرعان ما أصبحت كل الأحزاب فى خلافات مع البنا وجماعته فأصبح يمج الحزبية ويكره الأحزاب فلا حزب عنده إلا جماعته التى من شأنها أن تقيم شرع الله وتعود لنا بدولة الخلافة ولا حزبية إلا للإسلام.
    يقول البعض إن الخطأ الأكبر للبنا هو أنه دخل فى أتون السياسة، أما أنا فأقول إن الخطأ الأكبر له هو أنه أنشأ الجماعة أصلا، وكان اغتيال النقراشى باشا رئيس وزراء مصر هو الرصاصة التى انطلقت فى ما بعد إلى قلب حسن البنا فأودت به.

    ثروت الخرباوى يكشف: أئمة الشر.. الإخوان والشيعة «4»

    رحلة وصول الإخوان إلى الحكم بدأت بفكرة خطرت على بال مدير المستعمرات البريطانى عام 1920
    الجماعة كانت فى قبضة المخابرات البريطانية التى كانت تحركها كقطعة شطرنج
    لماذا قرر البنا أن يعمل فى مدينة الإسماعيلية التى كانت مقرًّا لشركة قناة السويس وإدارتها الأجنبية؟
    قبل أن أدخل إلى قلب جماعة الإخوان، وبعد أن دخلت، وإلى اللحظة التى أكتب فيها هذه الكلمات، وحلم الخلافة واستعادتها هو الذى يسيطر على قلب الجماعة، عشنا فى هذا الحلم وانغمسنا فيه حتى النخاع، رسمنا فى ضمائرنا صورة وردية له، ما أجمل هذه الصورة وما أبهاها، أمن الممكن أن يتحول الحلم إلى حقيقة؟ الحلم الذى استولى على قلبى وقت أن كنت صغيرا وأنا أحث الخطى للدخول إلى تلك الجماعة هو أن ننشأ خلافة مثل الخلافة الراشدة، لكن أحيانا تكون أحلام الصغار كبيرة، وأحلام الكبار صغيرة، أحلام الصغار غالبا طاهرة خالية من المنافع والمصالح والدنيا، ممتدة بلا حدود، لا تعرف المستحيل، فهم فى سنهم هذه فى أوج العاطفة الدينية البريئة، أما أحلام الكبار سدنة المعبد ففيها مآرب أخرى، ولكى يستمر ركب الصغار فى مسيرتهم وراء السدنة يجب أن يظلوا على حلمهم الوردى، لا تبديل له، لذلك يظل الكبار على تصدير ذلك الحلم بصورته النقية إلى الأذهان وإلا انفض الجمع من حولهم.
    وبعد سنوات وحين يكبر الصغير أو يقترب من دائرة الكبار يجد أن الأمور كانت مختلفة، ويكتشف أنه كان يعيش فى حلمه الخاص، أسطورته الذاتية، وأن السدنة لهم رؤية أخرى وعالم آخر ليس من السهل أن يلج فيه الصغار، فإذا كبروا ذات يوم ودخلوا عرفوا، وإذا عرفوا إما أن يقبلوا الواقع الذى كانوا يجهلونه، وإما أن يتمردوا عليه، فإذا تمردوا عاشوا زمنا على وهم أن يكون حلمهم هو حلم الجماعة كلها بصغارها وكبارها، لكن ذات يوم يطولهم اليأس.
    الحقيقة التى تظل مخفية زمنا هى أنهم لا يريدون خلافة إسلامية، لكنهم يريدون خلافة إخوانية، الخلافة التى يريدها كبار الإخوان هى خلافة على شكل الخلافة الأولى ورسمها، دون أن تكون على منهاج النبوة، ويا لها من مسافة شاسعة، تلك التى بين الشكل والمنهج.
    لم تكن عقولنا حين كنا صغارا قد استوت على سوقها ونضجت، فلم نر إلا حلمنا ولم نر العالم كله، لم ندرك أن الواقع الآن غير واقع العصور الأولى، والأحكام تتغير بتغير الزمان، وشكل أنظمة الحكم فى العالم فى زمن الخلافة يختلف عن شكل أنظمة الحكم فى واقعنا، فإن كان لا ضير من أن ننشد توحدا للأمة «واعتصموا بحبل الله جميعا» إلا أن هذا الاعتصام ينبغى أن يكون أول ما يكون فى مقاصد الشريعة، فكيف تعود الخلافة على شكل الخلافة الأولى وهى تخاصمها فى العدل والمساواة والحرية، ستكون آنذاك كبيت العنكبوت، أو ستصبح «خلافة ضرارا» كمسجد الضرار، ستعود بنا إلى خلافة «الرجل المريض».
    ولأننا وقعنا تحت دائرة استخدام المصطلحات فى غير موضعها، فقد أطلقنا عبر تاريخنا مسمى الخلافة على شىء آخر لا علاقة له بالخلافة، الخلافة فقط كانت هى الخلافة الراشدة، وانتهت بقتل سيدنا على رضى الله عنه، أما ما جاء فى واقع الأمة بعد ذلك فلم يكن خلافة، لم يكن خلافة، لم يكن خلافة، ولكنه كان «حُكم أسَر» حيث حكمت الأسرة الأموية ثم العباسية، وكتبت نهاية حكم الأسر على يد الأسرة العثمانية، ولكننا كنا نطلق عبر تاريخنا على حكم الأسر هذا، دولة الخلافة!! لذلك فإن حلم السدنة هو أن ننشئ حكم «الأسرة الإخوانية» التى ستكون استعادة لا للخلافة الراشدة، ولكن لحكم الأسر التى حكمت تحت راية الخلافة، ولكى نكون أسرة ونحن لا يجمعنا أصل واحد فيجب أن تكون هناك رابطة تجمعنا، ولتكن رابطة الإخوة فى الله، وما أعظمها من رابطة، وللإخوة فى الله أحكام، لذلك فإن البناء القاعدى الأدنى فى الجماعة هو «الأسرة» فنعيش ردحا من الزمن على أننا فعلا أخوة، وأننا فى أسرة هى أقرب إلينا من حبل الوريد، أخى فى الأسرة أفضل عندى من أخى فى الدم ولكن أخوة الإخوان لا تدوم لأنها فى حقيقتها ليست أخوة فى الله، ولكن فى التنظيم، بحيث إذا خرج واحد من التنظيم خرج من دائرة الأخوة.
    عندما نشأت جماعة الإخوان عام 1928 كان حكم الأسرة العثمانية قد انقضى، إذ كان مصطفى أتاتورك قد فصم عراها، وساعده فى ذلك الضعف الذى اعترى الدولة العثمانية، وحين أنشأ حسن البنا الجماعة وضع لها «خارطة طريق» تغيرت الدنيا ولم تتغير الخارطة، زالت دول وقامت حروب عالمية وظهرت دول جديدة تسيدت العالم ونشأت «عصبة الأمم» ومن بعدها «الأمم المتحدة» وظهرت منظمات اتحادية كجامعة الدول العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامى، ولم يتطور فكر الإخوان المسلمين، لا يزالون يتحدثون عن دولة الخلافة التى ستصل إلى أستاذية العالم، يصنعون منها كعبة، وما كانت كعبة ولكنها هى «الوعاء الإنسانى والمجتمعى» الذى من شأنه إقامة معانى الإسلام ومقاصده، بدِّلوا الوعاء وغيروا شكله كما شاء لكم الاجتهاد ولكن لا تهدموا المقاصد من أجل الأوعية، فما قيمة الوعاء إذا كان خاليا إلا أن تتزين به الموائد.
    وعاء الإخوان الخالى احتوى فى داخله اسم المُنتَج، لا تظن أن المُنتَج هو «نبحث عن حكم من أجل إقامة الدين واستعادة الخلافة»؟ ولكنه كان ولا يزال «نرفع شعار الدين والخلافة من أجل الحكم»؟ لذلك فإن رحلتهم لم تكن من أجل الدين والخلافة الإسلامية الراشدة أبدا، لكنها كانت من أجل الحكم وإقامة الخلافة الإخوانية، وفارق كبير بين هذا وذاك، وذات يوم وصلوا إلى الحكم!
    رحلة الوصول للحكم لم تكن سهلة ولا هينة، بل كانت طويلة وشاقة، وأشهد أن الجماعة كانت دؤوبة، لم تتوان عن استخدام كل الطرق من أجل مبتغاها، ولكنها فى كل مرة قبل أن تصل إلى القمة إذ بصخرة الحكم تنزلق من على ظهرها إلى أسفل الجبل، فتهبط هبوطا اضطراريا لتحمل الصخرة مرة أخرى وتصعد إلى قمة الجبل، وقبل أن تضع صخرة الحكم فى موضعها وتجلس متكأة عليها تعود الصخرة للانزلاق، تمام مثل سيزيف فى الأسطورة الإغريقية، ولكن سيزيف ظل فى عذابه هذا إلى الأبد بسبب غضب آلهته منه، بينما آلهة الإخوان أخذت موقفا مختلفا ورضيت عنهم فمهدت لهم الطريق ليكونوا على رأس الدولة المصرية وبعض الدول العربية المحددة.
    كانت رحلة الوصول للحكم التى قطعها الإخوان مكلفة لا شك فى ذلك، ولكنها أيضا كانت بمثابة فترة اختبار، فقد وضعتهم آلهتهم سنوات طويلة تحت اختبارات عديدة، وفى كل مرة كانت علاماتهم أقل من المتوسط، ولكنهم كانوا يكتسبون خبرات عديدة مرة بعد الأخرى، إلى أن حان الحين، ولكن هل كانت بداية الإخوان حقيقة قد بدأت عام 1928 أم أن البداية كانت قد بدأت سرا فى مكان ما؟.
    ذات يوم من الأيام الأولى من عام 1920 طرأت فكرة على خاطر ألفرد ملنر، مدير المستعمرات البريطانى، كان هذا الرجل شخصية محورية فى بريطانية، وكان قد عمل فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر مساعدا لوزير المالية الذى كان وقتها إنجليزيا، استمر ملنر فى مصر أربع سنوات كاملة أصبح خلالها عارفا بخريطة مصر الجغرافية والسياسية، وحين قامت الثورة المصرية الأولى عام 1919 تُطالب بالاستقلال، رأت إنجلترا أن ترسل هذا الرجل الذى كانت له مكانة سياسية كبيرة هناك إلى مصر على رأس وفد إنجليزى كى يدرس أسباب الثورة وكيفية تجنبها، هبط ملنر وهو يرتدى بزته الإنجليزية الأنيقة من سفينته إلى أرض مصر كى يقوم بمهمته هذه فى ديسمبر من عام 1919، وظل بها إلى آخر مارس 1920، تقابل خلالها مع عدد محدود من القيادات التنفيذية والسياسية فى مصر، كان منهم عدلى يكن باشا رئيس الوزراء، إذ أن سعد زغلول أرسل من منفاه إلى كل القيادات السياسية فى مصر طالبا منهم أن يقاطعوا لجنة ملنر، المقاطعة هى الحل، يجب أن ينقطع كل الشعب عن مقابلة هذا الرجل حتى نـُجبر الإنجليز على إعادة سعد زغلول من منفاه، لا تفاوض إلا مع سعد، كل من كان يقابله ملنر كان يقول له: اسأل سعد، سعد هو من يمثلنا، وحين ظن بعض الساسة والمؤرخين أن لجنة ملنر قد باءت بالفشل الذريع، كان ملنر قد حقق نجاحا مدويا إذ كان المثل القائل «كل الطرق تؤدى إلى روما» هو خط سيره فى مصر.
    حينما كان ملنر فى مصر جلس مع اللورد اللنبى المندوب السامى البريطانى، وتداولا، وتشعب بهما الحديث، ويبدو أن الفكرة اختمرت فى ذهنيهما آنذاك «فليكن لهما الاستقلال الذى يريدون» ولكننا سنخفى أمرا!!.
    عاد ملنر إلى بريطانيا، وتقابل مع رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج وأفضى إليه بما حدث له فى مصر من إعراض، وأسرّ له بالفكرة التى اعتملت فى ذهنه بعدما التقى اللنبى وعندما خرج من مقابلة رئيس الوزراء أجرت معه جريدة «مانشستر جارديان» حوارا قصيرا، قال فيه: «إنه لا يمانع من منح مصر الاستقلال بشرط عدم تعريض مصالح بريطانيا للخطر» ثم أضاف: «إن اللورد اللنبى وافقنى على رأيى حتى ولو كنا سنمنح مصر استقلالا كاملا فإن هذا لا يضيرنا فى شىء».
    سألته الصحيفة: وما خطتكم فى الحفاظ على مصالح بريطانيا؟
    أجاب: تكمن خطورة المصريين فى وحدتهم، ولذلك كانت ثورة سعد زغلول ورفاقه قوية لأن مصر أصبحت الكل فى واحد، هم يريدون بناء دولة حديثة لها استقلال كامل، وليكن، ولكننا لن ندعهم يكررون الكل فى واحد.
    قالت الصحيفة: كيف؟
    رد ملنر: هناك من قال إن الدين أفيون، ولكننى أؤكد أن الدين قنبلة.
    الصحيفة: لم نفهم شيئا من إجابتك سيدى!
    ملنر: ملكوت الله فى السماء هكذا نعرف، وملكوت الناس فى الأرض، فلننزل لهم الرب ليحكم الأرض، ولكنه سيفرقهم.
    الصحيفة: هذا كلام فلسفى لكننا لا نفهم منه شيئا، كيف ستنزل لهم الرب من السماء؟ وماذا سيفعل لهم الرب؟ وهل الرب يعمل لمصلحة الملك؟
    ملنر: لا أستطيع الإيضاح أكثر من ذلك، ولكن ليعلم الجميع أن الرب يعمل لمصلحة بريطانيا، وسيكون له دور فى استمرار وصايتنا على مصر حتى ولو حصلت على استقلال كامل.
    انتهى كلام ألفرد ملنر لصحيفة «مانشستر جارديان»، وقد أخرج صحفى اسمه جورج هيلر هذا الحوار فى كتاب طبعة 1932اسمه «بريطانيا والعالم» تحدث فيه عن سياسة بريطانيا فى مستعمراتها ومنها سياسة بريطانيا تجاه المملكة المصرية.
    الآن نستطيع إكمال المعلومات استقرائيا، فكما فى عالم كرة القدم مهنة قديمة اسمها «الكشاف» يقوم فيها هذا الكشاف بالترحال فى البلاد للبحث عن شاب صغير موهوب فى لعبة الكرة، فهناك فى عالم السياسة والمؤامرات والمخابرات كشاف يجوب العالم للبحث عن موهوب ينفذ خطة المدرب الأجنبى.
    الآن نستطيع الإجابة عن الأسئلة التى أوردها البنا فى مذكراته ولم نجد لها إجابة منطقية من قبل، وتلك الأسئلة التى ظلت تبحث عن إجابة:
    1ـ لماذا قرر البنا عدم إكمال تعليمه العالى رغم تفوقه وقرر العمل بالتدريس بشهادته المتوسطة التى لا تبيح له إلا العمل كمدرس للخط العربى؟.
    2ـ لماذا قرر البنا أن يعمل فى مدينة الإسماعيلية التى كانت مقرا لشركة قناة السويس وإدارتها الأجنبية؟ ولماذا فضل أن يبتعد عن أهله ومدينته أو حتى مدينة القاهرة التى كانت طموح الريفيين من أصحاب الهمم العالية والرغبة فى البذوخ؟.
    3ـ من الذى وجهه لهذا الاختيار؟
    4ـ لماذا تبرعت الإدارة الأجنبية لشركة قناة السويس لحسن البنا بمبلغ خمسمئة جنيه وهو مبلغ ضخم بمعايير العشرينيات؟ ولماذا اعترض البنا على قلة قيمة هذا التبرع؟ رغم ضخامته!
    ولنعد إلى ثورة 1919 وما تلاها لنعرف كيف فكر ملنر، ولماذا وافقه رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج.
    كانت مصر قد بدأت تأخذ خطواتها فى طريق المدنية الحديثة، وتعالت الأصوات من رجالها تطالب بالاستقلال الكامل، وخرجت النساء لأول مرة فى تاريخ مصر فى مظاهرات تشارك فيها الرجال فى المطالبة بالاستقلال ذلك الحلم المنشود لمصر، وها هو الشاعر الكبير حافظ إبراهيم يكتب قصيدته الشهيرة عن ثورة النساء:
    خرج الغوانى يحتججن... ورحت أرقب جمعهن
    كانت كل مصر وكأنها قد تجمعت على قلب واحد يقول: إن مصر دولة ذات حضارة ضاربة فى أعماق التاريخ، ولا ينبغى أبدا أن تظل رهينة فى يد الاحتلال، حتى ولو كانت إنجلترا أمبراطورية عظمى فإن مصر بتاريخها وعمقها الحضارى أعظم، لكن موازين القوة لا تعترف بالماضى، هى تعرف الحاضر فقط.
    ومع الرغبة الجارفة فى الاستقلال عن إنجلترا كانت هناك رغبة أخرى كامنة فى الضمير المصرى بالاستقلال عن الدولة العثمانية، لكن كان هناك أنصار للدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية، والإسلام هو الحل، والخلافة فريضة.
    انتهت فاعليات الثورة وقبلت الحكومة البريطانية آراء ملنر، وأصدرت الحكومة البريطانية تصريح 28 فبراير 1922، الذى أعلن من طرف واحد استقلال مصر، إذ لم يكن هناك فى مصر وقتها من وافق على توقيع معاهدة مع الإنجليز.
    نزل هذا التصريح على قلب السلطان فؤاد بردا وسلاما، الآن يستطيع أن يتخذ لنفسه لقب «جلالة الملك» ويصبح كجورج الخامس ملك إنجلترا، فليس وحده هو الملك ولكن فؤاد أيضا كذلك، وفى 31 مارس 1923 خرجت أنفاس المصريين من صدورهم وهى تحمل زفير الفرحة، فقد تم فى هذا اليوم الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، فسافر سعد إلى فرنسا، ثم سُمح له بالعودة إلى مصر فعاد فى 18 سبتمبر 1923، وخرج المصريون فى كل المدن والقرى يغنون أغنية سيد درويش التى لحنها احتفالا بعودة سعد ولكنه قد مات قبل عودة سعد بثلاثة أيام وهى «سالمة يا سلامة رحتى وجيتى بالسلامة».
    وسط هذه الأحداث صدر دستور 1923، ووضح فيه أن مصر أخذت طريقها لبناء دولتها الدستورية الحديثة، انحاز الدستور إلى دولة يتم تنظيم مؤسساتها على النسق العالمى الحديث، لها جهات تشريعية تملك الحق فى التشريع لنفسها وإصدار القوانين، لها سلطة قضائية، تراقب تطبيق القانون وتعمل على تنفيذه على الوجه الصحيح، ولها سلطة تنفيذية تضبط كل ما يتعلق بإدارة البلاد، مصر الحديثة فى هذا الدستور قوميتها عربية.
    وفى عام 1925 خرج للوجود كتاب فَجّرَ مصر من الداخل، هو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق، أثار الكتاب ضجة كبرى فى مصر والعالم العربى كله، حيث جاء فيه «إن الإسلام لم يضع لنا شكلا للحكم، ولم تكن الخلافة فريضة ولكنها كانت تناسب عصرها فقط.... ليس المهم عندنا شكل الحكم ولكن المهم هو أن يحقق نظام الحكم الذى نتخيره مقاصد الشريعة» كانت الطامة الكبرى عند البعض أن الشيخ على عبد الرازق تطرق للخلافة، ونفى فرضيتها أو فريضتها، فقام الأزهر الشريف بسحب شهادة العالمية منه عقابا له على رأيه، وكتب عشرات الكتاب منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا عشرات الكتب التى تحاول تفنيد رأى على عبد الرازق، وكتب العشرات أيضا كتبا تؤيده فى ما ذهب إليه.
    وضح من هذه المعركة أن مصر انقسمت فعلا إلى فريقين، فريق يقول: إن الخلافة فريضة، وهى فريضة حتمية، ولا خيار لنا فيها ولا حق لنا فى تبديلها ويجب أن تكون على شكل الخلافة الراشدة، وهى خلافة ممتدة لا حدود لها ولا أرض ولا وطن إذ المستهدف منها الوصول إلى غاية واحدة هى السيطرة على العالم كله، فحيثما كانت أى أرض يصدح فيها الآذان فهى تابعة للخلافة الإسلامية، لا فرق بين عربى ولا أعجمى، وطننا فى السماء، وطننا هو لا إله إلا الله، ولا عبرة بالأرض ولا الحدود، وكان هذا الفريق يقوده كبار علماء الدين مع بعض الوزراء والشخصيات العامة التابعة للملك فؤاد الأول الذى كان طامحا فى الخلافة بعد أن انقضت الدولة العثمانية.
    أما الفريق الآخر فيقول: «ليس هناك شكل للحكم، ونحن نعيش فى وطن عربى له أصول فرعونية، نستمد عاداتنا وتقاليدنا من تاريخنا ومجتمعنا، ولنا الحق فى أن ننشئ لأنفسنا نظام الحكم الذى يتوافق مع مصالحنا، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال «أنتم أعلم بشؤون دنياكم» وهذه هى دنيانا، لنا أن نضيف لها ما يتناسب مع العصر، ولسنا تابعين ولا ينبغى أن نكون تابعين لدولة أخرى تحت أى مسمى، بلادنا ليست فى السماء ولكنها فى الأرض ذات الحدود المعروفة لنا، والتى ندب عليها بأقدامنا، ندافع عنها بأرواحنا، أما موعدنا فى السماء فسيكون بعد الدنيا.
    انشغلت مصر سنوات بهذا الصراع وما زالت وبعد سنوات قليلة من احتدام هذا الصراع، ومن اتجاه جمهرة من المتدينين بالفطرة والعاطفة إلى «وجوب دولة الخلافة» ظهر شاب درعمى صغير فى طور الشباب الأول، ولد فى مدينة المحمودية، وسافر إلى مدينة الإسماعيلية البعيدة عن مدينته، ليعمل بها مدرسا وفقا لرغبته واختياره، وهناك حيث مجتمع يضم الموظفين الإنجليز والفرنسيين الذين يعملون فى شركة قناة السويس، ويضم أيضا أغلبية مصرية من الحرفيين وصغار التجار وصغار الموظفين، فى هذه البقعة المتنوعة يعلن الشاب الذى كان فى بداية العقد الثالث من عمره إنشاء جماعة دينية اسمها جماعة الإخوان المسلمين، هدفها الأسمى هو «استعادة دولة الخلافة» لا تعترف بالوطن الذى نعترف به، وتريد أن يكون وطنها هو الدين، وليس الطين، لم تكن هذه الجماعة بعيدة عن يد المخابرات البريطانية، بل كانت فى قبضتها وملك يمينها، كانت كقطعة من قطع الشطرنج تحركها يد اللاعب، ليس هذا الكلام من عندياتى ولكنه كلام «كيرتس الرهيب»!

    ثروت الخرباوى يكشف ما جرى فى السفارة«5».. أئمة الشر.. الإخوان والشيعة

    الاتصالات السرية بين بريطانيا وقيادات الإخوان خلال العدوان الثلاثى للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله
    أنتونى إيدن قال فى مذكراته: الهضيبى كان حريصًا على علاقات ممتازة معنا على عكس ناصر
    اليوم: الثامن والعشرون من شهر مارس.
    العام: 2008.
    الشخص: كين لفنجستون.
    الوظيفة: عمدة لندن وأحد أقطاب حزب العمال البريطانى وأحد الأسماء البارزة فى سماء اليسار الأوروبى الداعم لعديد من القضايا العربية والإسلامية.
    المشهد: خرج كين لفنجستون من مكتبه ليقف أمام عشرات من الصحفيين، وبعد أن تحدث معهم عن بعض الشؤون الخاصة بالعاصمة لندن سأله أحد الصحفيين عن خطر الجماعات الإسلامية الأصولية، فقال لهم مطمئنًا: «جماعة الإخوان كبرى هذه الحركات تربطنا بها علاقة جيدة، وقد كانت تتلقى تمويلا ماليا من الخارجية البريطانية منذ بداية نشأتها، فهى ليست بعيدة عنا إذن، وقد استخدمنا هذه الجماعة لسنوات طويلة وكانت مخلصة لنا، فقد كان نظام عبد الناصر خطرًا علينا، وعلى الجانب الآخر مثلت هذه الجماعة خطرا كبيرا على عبد الناصر ونظامه».
    ورغم أن هذا التصريح كان مثِّل قنبلة فإن أحدًا عندنا فى الشرق لم يلتفت كثيرا له، كانت التبريرات التى خرجت من بعض قيادات الجماعة فى موقعهم الإلكترونى تذهب إلى أن «هذا العمدة رجل موتور حاقد كاره للإسلام وهو شيوعى قح فماذا تنتظرون منه؟ كما أن كلامه لم يكن موثَّقا، وهذا وحده كفيل بهدم كلامه».
    النتيجة: لم تَلْقَ تصريحات لفنجستون العناية الكافية من الباحثين فى المنطقة العربية، ولم يصل صداها إلى الجماهير.
    يكتب الكاتب الأمريكى روبرت دريفوس كتابه الشهير «لعبة الشيطان» عن دعم الولايات المتحدة الأمريكية للجماعات الأصولية وفى القلب منها جماعة الإخوان، ويقول فيه: «تأسست حركة الإخوان المسلمين على يد حسن البنا بمنحة من شركة قناة السويس البريطانية، وخلال ربع القرن التالى تتلقى تلك الجماعة الدعم الكامل من الدبلوماسيين البريطانيين والمخابرات البريطانية».
    ثم يقول أيضًا: «كانت هذه الجماعة هى القوة الوحيدة فى الشرق الأوسط التى تمثل ثقلا كبيرا فى عملية تحقيق التوازن ضد القوى المناهضة لبريطانيا وهى القوميين واليسار العلمانى».
    استمر دريفوس فى الكتاب قائلا: «كان الدبلوماسى الأمريكى هيرمان إيلتس صديقا لحسن البنا وقد التقاه كثيرا»، وينقل دريفوس على لسان إلتس: «أعرف أحد زملائى فى السفارة الأمريكية كان يلتقى بشكل دورى مع حسن البنا وذلك لأغراض التقارير».
    قد يكون دريفوس مبالغا، فلربما كانت فى نفسه مَوْجِدة من الإخوان، ولربما كان حاقدًا على حسن البنا، ولكن الوثائق لا تحقد، ولا تميل، ولا تحمل موجدة إنما تحمل حقائق وتروى تاريخا، لذلك كانت هناك أهمية بالغة لكيرتس، الذى أطلقت عليه كيرتس الرهيب.
    يقول الكاتب الصحفى علاء عزمى فى بحث له منشور فى مجلة «آخر ساعة» عدد 16/8/2010: «مارك كيرتس كاتب بريطانى مثير للجدل، ارتبط اسمه بالكشف عن العديد من الفضائح السياسية والتاريخية لبلاده وقد بدأ مارك كيرتس دراسته فى مدرسة لندن للاقتصاد، ثم عمل باحثا لدى المعهد الملكى للشؤون الدولية، كما سبق له العمل كمدير بالحركة الإنمائية العالمية وأيضًا كمدير ومشرف على إدارات الشؤون السياسية بعدد من المنظمات غير الحكومية المعروفة، مثل كريستيان إيد وأكشن إيد، وعين من قبل باحثا زائرا بالمعهد الفرنسى للعلاقات الدولية فى باريس والمعهد الألمانى للسياسة الخارجية ببون، وهو مصنف كأحد كبار الباحثين فى شؤون الشرق الأوسط، ويعيش الآن كصحفى حر وله العديد من الإسهامات الصحفية والبحثية التى تجد نوافذ للنشر فى عدد من المجلات والصحف العالمية والعربية كالجارديان، وريد بيبر، والإندبندنت، وزنيت، وفرونتلاين، والشرق الأوسط، والأهرام».
    ذات يوم وفى أثناء بحث كيرتس فى وثائق وزارة الخارجية البريطانية وقع على مجموعة من الوثائق أذهلته وغيرت مسار تفكيره، كان كيرتس مهتمًّا بالشأن العربى والجماعات الإسلامية، وكان يعرف وفقا للظاهر أن الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان هو داعية مصرى أنشأ جماعة الإخوان التى أثارت جدلا كبيرا واشتبكت مع كل الحكومات التى حكمت منذ عهد الملك فاروق حتى عهد حسنى مبارك، ولكن نهمه للبحث والتقصى وعقليته البحثية قادته إلى أروقة هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى، ظل كيرتس يتردد على هذه الهيئة أربع سنوات كاملة عثر فيها على كنز من الأسرار يصعب أن يقع عليه باحث، وهناك وهو جالس وسط «الكنز المعلوماتى البريطانى» كان قراره: «سأكتب كتابا أضع فيه عشرات من هذه الوثائق، يجب أن يعلم العالم الصورة الحقيقية المختبئة فى الأرشيف، فليس كل ما كان يحدث فى العالم عفويًّا أو من وحى خاطر أصحابه، ولكن صناعة الحدث كانت هى لعبة المخابرات فى عشرات الحوادث التى مرت على العالم».
    فكان أن كتب كتابه الأشهر «العلاقات السرية.. تواطؤ بريطانيا مع الأصوليين الإسلامين المتشددين».
    كان هذا الكتاب كارثة وقعت على رأس الإخوان ولكنهم تجاهلوها ودفنوا رؤوسهم فى الرمال، كأن شيئا لم يحدث على الإطلاق، وكيف يعقبون على هذا الكتاب وقد احتوى على «وثائق الحقائق» التى تكشف التعاون الكبير بينهم وبريطانيا؟ وكيف يكذبونها وهى تحمل أخبار الأموال التى كانت تُدفع بالتنسيق مع القصر لمؤسس الجماعة الشيخ حسن البنا بغرض السيطرة عليه وعلى أتباعه؟
    إنك لا تستطيع أن تضع كتابا فى كتاب، ومن الظلم للحقيقة أن تجتزئ منه فقرات وتترك باقى الفقرات، لذلك كان من الأصوب أن نلجأ إلى الترجمة التى قام بها البعض، ومنهم الكاتب والباحث علاء عزمى، لننقل ملخصًا عن الكتاب:
    «لسنوات عدة ظل كتاب (الخداع الأكبر.. القوة الأنجلو-أميركية والنظام العالمى) هو أشهر أعمال كيرتس على الإطلاق، لا سيما وأنه قد كشف سر العلاقات الأمريكية البريطانية فى حقبة ما بعد الحرب الباردة، حيث ظلت المملكة المتحدة (بريطانيا) شريكا محوريا فى جهود الولايات المتحدة لتعزيز هيمنتها عالميا، إلا أن كتابه الجديد (العلاقات السرية...) بات هو الأهم والأخطر بين كل ما كتب، وفيه يؤكد كيرتس مستندًا إلى قائمة طويلة من الوثائق السرية التى اطلع عليها (تم إيداعها هيئة الأرشيف الوطنى البريطانى) أن صناع القرار السياسى فى بريطانيا قد اعتادوا التعاون مع مجموعة من الحركات الإسلامية الراديكالية من أمثال جماعة الإخوان، ورغم علم لندن أن هذه المجموعات معادية للغرب على طول الخط، فإنها ذلك تعاونت معها من أجل تحقيق أهداف تكتيكية قصيرة المدى، مثل الحفاظ على المصادر والثروات الطبيعية كالنفط أو الإطاحة بالحكومات القومية التى كانت تمثل تهديدًا للإمبراطورية البريطانية وكذا للمشروع الغربى الرأسمالى ككل فى حقبة زمنية ما، لافتا إلى أن التركيز البريطانى على مد يد العون والدعم لمثل هذه المجموعات والتيارات ذات الطابع الدينى المنغلق لم يعد مقتصرا على منطقة الشرق الأوسط، وإنما تخطاها إلى مناطق أخرى دون الأخذ فى الاعتبار العواقب طويلة المدى لمثل هذا التعاون، مؤكدا أن التهديد الإرهابى الحالى لبريطانيا هو نكسة إلى حد ما ناجمة عن شبكة من العمليات البريطانية السرية مع الجماعات الإسلامية المتشددة ممتدة عبر عقود.
    فبريطانيا هى التى دعمت آية الله سيد كاشانى، مُعلِّم رمز الثورة الإسلامية فى إيران آية الله الخومينى، فى إطار سعيها للتخلص من حكومة الدكتور مصدق التى كانت تحظى بشعبية جارفة وقامت بتأميم صناعة النفط فى إيران فى الخمسينيات، أما بخصوص علاقة بريطانيا بجماعة الإخوان المسلمين فإن وثائق الكتاب التى وقع عليها كيرتس فإنها خاصة بالفترة التى تبدأ من عام 1942 لا قبلها وإن كان هناك العديد من الوثائق السابقة على هذه الفترة يقول كيرتس إنه يعكف عليها حاليا لإتمام بحثه وإفراغه فى جزء آخر للكتاب.
    يكشف كيرتس عن وثيقة مؤرخة عام 1942، حيث جاء فى تقرير بريطانى رسمى ما نصه: «سيتم دفع الإعانات لجماعة الإخوان المسلمين سرًّا من جانب الحكومة المصرية، وفقا للاتفاق بيننا وبين القصر، وسيطلبون بعض المساعدات المالية فى هذا الشأن من السفارة البريطانية.. وستقوم الحكومة المصرية بالزج بعملاء موثوق بهم داخل جماعة الإخوان للإبقاء على مراقبة وثيقة لأنشطتها.. ما يجعلنا (السفارة البريطانية) نحصل على المعلومات من هؤلاء العملاء، ومن جانبنا، سنجعل الحكومة مطلعة على هذه المعلومات التى تم الحصول عليها من مصادر بريطانية».
    وقبل منتصف خمسينيات القرن الماضى، حسبما يوثِّق الكتاب، اتخذت المعاملات السرية بين البريطانيين والإخوان منحى آخر، إذ نظرت بريطانيا إلى الجماعة باعتبارها معارضة مفيدة لسياسة الرئيس جمال عبد الناصر ذات التوجهات القومية العربية وأنها أفضل وأقل ضررا من التيارات القومية رغم أصوليتها الشديدة، ومن ثم عقد مسؤولون بريطانيون اجتماعات مع قادة الإخوان المسلمين من أجل العمل كأداة ضد النظام الناصرى الحاكم فى أثناء مفاوضات إجلاء القوات العسكرية البريطانية من مصر، وكذا من أجل خلق موجة من الاضطرابات تمهد لتغيير النظام فى بلاد النيل».
    وعند هذه الجزئية أجدنى مضطرا إلى التوقف عن نقل الملخص والانتقال إلى مكان آخر، حيث أنقل لكم لا من عندى ولكن من مذكرات كبار قادة الإخوان، وذلك من أجل إجراء مطابقة بين ما ذكره كيرتس عن طلب المخابرات البريطانية من الإخوان الوقوف ضد اتفاقية الجلاء، وما حدث فعلا فى هذه الفترة وفقا لمذكرات الإخوان أنفسهم، وقد كتب عديد من الإخوان مذكراتهم عن تلك الفترة ولكننى فضلت أن أنقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى الذى قال عن توتُّر العلاقة بين الإخوان وعبد الناصر: «كما وُجد عنصر جديد زاد العلاقة توترا، والنار اشتعالا، وهو الاتفاقية الجديدة التى عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، ولم يرها الإخوان محققة لكل آمال البلاد، بعثوا مذكرة مفصلة إلى حكومة الثورة برأيهم فى الاتفاقية وملاحظاتهم عليها، وقد أغضب ذلك عبد الناصر، وزاد من تدهور الوضع... كان أثر نقد الهضيبى الجرىء الصريح لموضوعات الاتفاق مزعجا ومقلقا، وساءت الأمور إثر بيان طويل مفصل يحتوى على نقد الاتفاق أُرفق بخطاب بعث به حميدة نائب المرشد باسم مكتب الإرشاد فى الثانى من أغسطس إلى عبد الناصر. وقد نُشر كذلك عن طريق جهاز النشرات السرية «منشورات»، فكان ذلك توثيقا لحق الإخوان فى إعلان رأيهم فى الاتفاق، علاوة على كونه نقدا له. وقد زاد من تعكير الجو إصدار نشرتين أخريين (منشورين): إحداهما نقد للاتفاق، أمضاها محمد نجيب، ذكر فيها عدم صلته بالاتفاق، والثانية بإمضاء وزير سابق عُرف فى ما بعد أنه سليمان حافظ الذى كان وزيرا للداخلية فى وزارة نجيب الأولى. وقد انتقد فيها الحكومة بوجه عامّ. وكانت النشرتان صادرتين بأحرف مشابهة للمنشورات الأخرى ومطبوعتين على نفس الشاكلة وعلى ورق مشابه، مما يدل على أن مصدر النشر واحد، هو مطابع الإخوان المسلمين، وقد سُلمت النشرتان إلى عبد القادر عودة لنشرهما... وكانت هناك صحف نظمت حملة ضد الهضيبى قالت فيها إنه تفاوض مع الإنجليز... وفى اليوم التالى كان اجتماع الثلاثاء الأسبوعى، وكان آخر اجتماع من نوعه، وقد ساده التوتر. وقف الهضيبى أمام جمع غفير، مبديا تفاصيل رحلته وتفسيره للمحادثات مع تريفور إيفانز التابع للسفارة البريطانية وأن هذا تم بعلم عبد الناصر وتشجيعه... وكان الأخ الأستاذ محمود عبد الحليم عضو الهيئة التأسيسية والحائز على رضا الطرفين، وغير المحسوب على أى منهما قد اتخذ مبادرة إيجابية، واتصل بعبد الناصر عن طريق رَجُلَيه إبراهيم الطحاوى وأحمد طعيمة، وكتب مذكرة فى التقريب والمصالحة بين الطرفين. قبلها فى الجملة عبد الناصر بشروط، وعرضها الأستاذ محمود على حشد إخوانى كبير فى منزل الأستاذ محمد جودة عضو الهيئة التأسيسية والتاجر المعروف، وصديق عبد الناصر.. وتبنى الحشد الإخوانى هذه المذكرة، وإن كان للأستاذ البهى رأى ذكره ودافع عنه أمام هذا الحشد، وهو اقتراح خلع المرشد الأستاذ الهضيبى، والاستعاضة عنه بلجنة تدير الجماعة، حتى تختار مرشدا آخر، ورأى أن هذا هو الذى ينقذ الموقف. وعارضه الأستاذ محمود فى هذا، وأنه ليس من الصواب ولا الحكمة أن نعرِّض الجماعة فى مثل هذا الوقت لهذه الأزمة، وأن هذا سيُحدِث فتنة كبيرة، وفتقًا قد لا يُستطاع رتقه فى الظروف الحالكة الحاضرة.
    واختار الحاضرون وفدًا يمثل الإخوان للقاء عبد الناصر مكونا من: خميس حميدة، وعمر التلمسانى، ود.عثمان نجاتى، ومحمد حلمى نور الدين، والشيخ أحمد شريت، ومحمود عبد الحليم. والتقوا مع عبد الناصر فى بيته وعرض عبد الناصر موقفه من الإخوان، وموقف الإخوان منه منذ قامت الثورة فى حديث طويل سرده فى الجلسة المشتركة بينه وبين محمود عبد الحليم وعدد من الإخوان، مما دل على قوة ذاكرة الرجل، واستحضاره للأحداث، وتماسك شخصيته، كما يقول الأستاذ محمود، الذى يحسب أن العوامل النفسية كانت من أسباب هذه الأزمات، وأن الإخوان لم يفهموا نفسية عبد الناصر كما ينبغى. ولم يتعاملوا معه بالطريقة التى يمكن بها كسبه إلى صف الجماعة، ولا تؤلبه وتثير حقده عليهم. وأود أن أذكر هنا ما كتبه الأخ محمود عبد الحليم عن هذه الجلسة التاريخية وما تم فيها، قال رحمه الله:
    «فى نهاية هذه الجلسة الطويلة المضنية كان لا بد لنا من الوصول إلى اتفاق محدد، وكان أملنا جميعا -نحن الإخوان- أن يكون اقتراحى الذى ذيلت به مذكرتى هو الذى يتم عليه الاتفاق. وتكون مهمتنا -نحن المجتمعين- أن نبحث تفاصيل تنفيذه، ولكن جمال فاجأنا فى نهاية الجلسة برفضه هذا الاقتراح، بل برفضه أى اقتراح للصلح قائلا: (إن الدعوة إلى إجراء صلح بينى وبينكم فات أوانها، ولم تعد الثقة التى هى أساس الصلح موجودة). وتناقشنا معه حول هذه النقطة نقاشا طويلا غير أنه أصرّ على الرفض.. وما كنا نملك شيئا بعد أن صار هو يملك كل أوراق اللعب فى يده ونحن لا نكاد نملك منها شيئا.
    قلنا: إذن لم كان هذا الاجتماع؟ ولو علمنا أنك ترفض الصلح لما أتعبنا أنفسنا. ولكن الأستاذ الطحاوى والأستاذ طعيمة أبلغانا أنك قرأت المذكرة ووافقت على ما جاء بها.. وعلى هذا حضرنا، فقال: أنا وافقت على المذكرة كمبدأ. فالصلح هدف، ولكنه الآن ليس الهدف المباشر. لكن الهدف المباشر الآن سيكون مقدمة للصلح، وإذا استطعتم أن تقوموا بأعباء الهدف المباشر انتقلنا إلى الصلح.
    قلنا: وما الهدف المباشر؟
    قال: كل الذى أستطيع أن أبذله لكم الآن أن أعقد معكم هدنة، فإذا نجحتم فيها كان لكم أن تطالبوا بصلح.
    قلنا: وما شروط هذه الهدنة؟
    قال: هما شرطان: أن توقفوا حملتكم على اتفاقية الجلاء، وأن توقفوا إصدار النشرات.
    قلنا: ولنا شرطان مقابلان: أن توقف الاعتقالات والتشريد، وأن توقف الحملة الصحفية.
    قال: أنا موافق على شرطَيكم إذا وافقتم على شرطَىَّ.
    قلنا: إننا موافقون.
    قال: إذا نفذتم الشرطين فلنا اجتماع آخر بعد اجتماع الهيئة التأسيسية، أما إذا لم تستطيعوا تنفيذ الشرطين فلا اجتماع، ولا تلومونى بعد ذلك.
    وهنا خُتمت الجلسة، وخرجنا، وكلنا أمل فى الوفاء بما اشترط علينا لنخرج بالدعوة من هذا المأزق الخطير الذى وُضعت فيه».
    يقول محمود عبد الحليم: كان مبيتى عادة حين أكون فى القاهرة أن أبيت عند الأخ الحبيب -رحمه الله- الدكتور جمال عامر زميلى القديم فى الدعوة وعضو الهيئة التأسيسية وصاحب صيدلية الصليبة بالقاهرة.. فلما ذهبنا فى تلك الليلة إلى البيت وجدنا فى انتظارنا الأخ الأستاذ عبد العزيز كامل، الذى ابتدرنى قائلا: «إننى كنت فى انتظارك على أحر من الجمر، لأننى أقدر أهمية هذه الجلسة، وأؤمِّل فيها خيرا للدعوة، وقد قدمت لأعرف منك ما تم فيها، وأعرف رأيك شخصيا فى جمال عبد الناصر».. فحدثته بكل ما تم فى الجلسة، كما شرحت له وجهة نظرى فى شخصية جمال عبد الناصر على الوجه الذى أجملته فى هذه المذكرات، ولكننى أقرر أن ما حدثت به الأخ عبد العزيز لا بد أنه كان أوفى وأشمل، لا سيما وأنا أثبت ما أثبته فى هذه المذكرات بعد مرور اثنين وعشرين عاما على هذه الأحداث.. وأذكر أننى أنهيت حديثى إلى الأخ عبد العزيز بقولى: إننى أرى أن شخصية جمال عبد الناصر كانت تستحقّ منا دراسة أكثر، وعناية فى التعامل معها أكثر مما كنا نوليها.
    ويبدو من سير الأحداث أن الأمور جرت فى مسار آخر غير المسار الذى كان ينشده الأخ محمود عبد الحليم ومن وافقه من الإخوان فى ما سماه «محاولة للإنقاذ»، فقد كان الجو فى داخل الإخوان متوترا ومشحونا ضد الثورة وعبد الناصر، لهذا باءت هذه المحاولة للتقريب أو المصالحة أو الهدنة -التى قد تؤدى إلى مصالحة- بالإخفاق والفشل، نتيجة لتصلُّب القيادات فى مواقفها، وتغليب التشدد على المرونة، والمواجهة على المقاربة، لأمر قدره العزيز العليم.
    وقد عُرضت مذكرة الأخ محمود عبد الحليم على الهيئة التأسيسية، ولكن جرت الأمور على غير ما أراد صاحب المذكرة، فقد أخذ رأى الهيئة بالتصويت: أتعرض المذكرة عليها أم لا؟ فكانت الأغلبية مع عدم عرضها».
    انتهى النقل من مذكرات الدكتور يوسف القرضاوى ونعود من جديد للنقل من كتاب كيرتس.
    يقول كيرتس: «ومع اندلاع العدوان الثلاثى على مصر عام 1956 قامت بريطانيا باتصالات سرية مع بعض قيادات من الإخوان كانت هاربة خارج مصر ومع قيادات أخرى كانت فى مصر ولم تمتد لها الاعتقالات، أو كانت قد خرجت من الاعتقالات مثل المرشد حسن الهضيبى الذى كان رهن الإقامة الجبرية وقتها، وكانت هذه الاتصالات تتم كجزء من خططها للإطاحة بعبد الناصر أو اغتياله، وأن المسؤولين البريطانيين كانوا يعتقدون –وربما يخططون أيضًا- أن هناك إمكانية أو احتمالية أن يقوم الإخوان بتشكيل حكومة مصرية جديدة بعد الإطاحة بعبد الناصر على أيدى البريطانيين.
    بعد ذلك بعام، وعلى وجه الخصوص فى ربيع عام 1957 كتب تريفور إيفانز، وكان مسؤولا بالسفارة البريطانية وقاد اتصالات سابقة مع الإخوان فى خطاب رسمى لحكومة بلاده: (إن اختفاء نظام عبد الناصر... ينبغى أن يكون هدفنا الرئيسى).. بينما تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الخطط البريطانية السرية للإطاحة بالأنظمة القومية فى سوريا بين عامَى 1956 و1957 كانت ترتكز أيضًا على تعاون كبير مع جماعة الإخوان المسلمين هناك. وعليه ولأسباب مشابهة أيضًا انحازت الحكومة البريطانية باستمرار إلى جانب الإخوان المسلمين بمختلف أرجاء الشرق الأوسط.
    وبناء على جميع المعلومات السابقة فلا يمكن فصل المخططات البريطانية فى تلك الفترة للتخلص من عبد الناصر عن المحاولة الإخوانية الفاشلة لاغتياله بالإسكندرية فى 26 أكتوبر 1954 والمعروفة بحادثة المنشية، التى شهدت إطلاق النار عليه فى أثناء إلقاء خطاب فى ميدان المنشية بالإسكندرية، ويكشف الكتاب عبر كثير من الوثائق معاملات المخابرات البريطانية مع قادة الإخوان وعن اجتماعات متكررة ضمت حسن الهضيبى، وصالح أبو رقيق، ومنير الدلة مع تريفور إيفانز مستشار السفارة، وعرْضهم عليه فى منزل محمد سالم بقاء جيش الاحتلال فى القناة، مقابل دعم انقلابهم ضد الثورة، والاشتراك فى حلف عسكرى ضد الشيوعية، (مُحذِّرين) من أنه لن يرى النور ما دام عبد الناصر حيا (لأنه يرفض الأحلاف ويصفها بالاستعمارية). ثم يرصد الكتاب تصريح الهضيبى فى يوليو 1953 لوكالة (أسوشيتد برس): (الغرب سيربح إذا حكمنا مصر، سيفهم مبادئنا المعادية للشيوعية وسيقتنع بمزايا الإخوان). لذلك كان طبيعيا أن يسجل أنتونى إيدن، وزير خارجية بريطانيا وقتها، فى مذكراته: (الهضيبى كان حريصًا على علاقات ممتازة معنا، بعكس ناصر).
    وفى النهاية فإن أهمية الوثائق التى أوردها الكتاب تتمثل فى أنها انتصرت للعديد من الكتابات والشهادات التى تم نشرها من قبل حول التعاون السرى بين الإخوان والبريطانيين وسارعت الجماعة فى نفيها».
    انتهى النقل من كتاب مارك كيرتس، ولكن الفصل لم ينتهِ بعد، فإذا كنا قد وضعنا الدلائل شيئا فشيئا، ونقلنا من مذكرات حسن البنا عن الدعم الذى تلقاه من الإنجليز لتأسيس جماعته حين كان فى مدينة الإسماعيلية، وكشفنا طبيعة هذا الدعم واستمراره من خلال كتابات روبرت دريفوس ومارك كيرتس، فإن خط سير الجماعة بعد ذلك قد كشف عن أشياء كثيرة، وكان من المحطات الهامَّة التى يجب أن نتوقف عندها ما كان يحدث من مقاومة مصرية للإنجليز فى مدن القناة أعوام 1950-1953، حيث كانت أعمال الفدائيين المصريين وقتها تبهر العالم، كان المشهد رائعا، قوافل من الفدائيين تتحرك فى سرية تامة إلى مدن القناة لتحيل معسكرات الإنجليز هناك جحيما، كان الفدائيون ينبضون بالعاطفة الوطنية الصادقة، وهم يسعون من خلال عملياتهم إلى إقلاق الإنجليز، وجعل وجودهم فى المنطقة يكاد يكون مستحيلا، وكانوا يحتاجون إلى تشجيع القوى السياسية لهم، كانت كتائب المجاهد المصرى أحمد حسين رئيس جمعية «مصر الفتاة» تقوم بالجهد الأكبر، ويقول الإخوان عبر مذكراتهم الشخصية إنهم كانوا من المجاهدين فى القناة ضد الإنجليز، ولكن هل هذا الأمر كان حقيقيا؟ المرشد الثانى حسن الهضيبى ينكر ذلك، ويسخر من الفدائيين هناك، فيقول ساخرا لمجلة «الجمهور المصرى» عدد مارس 1952: «هل العنف سيُخرِج الإنجليز؟!».
    ثم قال: «قلت لشباب من الإخوان طلبوا الانضمام للفدائيين ضد الإنجليز: اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن».
    فيتلقى المرشد حسن الهضيبى سخرية من المفكر الكبير الراحل خالد محمد خالد فى «روزاليوسف»، مطمئنا المُحتلّ: أبشر بطول سلامة يا جورج.

    ثروت الخرباوى يكشف «أئمة الشر»: خطة إشعال النار فى القِطّ «6»
    بعد اللقاءات الأمريكية الحالمة دوَّن الإخوان فى دفاترهم الجهادية أن المظاهرات أصبحت موضة قديمة ولا تليق بأهل الحكم
    كيسنجر قال لوزير الخارجية الأسبق محمد العرابى: الإخوان قادمون فى مصر.. وأنا متأكد تمامًا من ذلك.. وأمريكا ليس لديها مشكلة
    خرجت كلينتون تطالب بضرورة إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية وفقا للكشوف التى تسلمها الإخوان من رؤساء اللجان بغضّ النظر عن الطعون
    كفاح اللسان فى عهد مبارك هو السمة الرئيسية للجماعة لأنه الكفاح الرخيص الذى ليس له كلفة عالية
    الإخوان تحدثوا مع وليم بيرنز أحد الأعمدة الصهيونية الأمريكية عن رغبتهم فى خوض انتخابات الرئاسة وأنهم يريدون معرفة موقف أمريكا
    (فى الريف يعرف المحترفون أنهم لا يحتاجون إلى بذل مجهود لإشعال الحرائق، يكفى فقط أن يصب هذا المحترف الخبير قليلًا من الزيت على قـطٍ فى عنفوان شبابه وقوته، ثم يشعل فيه النار ويطلقه سريعًا وسط الحقل المستهدف، وسيقوم القط المشتعل بعمله خير قيام).
    فى عهد مبارك كشف أحد الدبلوماسيين الأمريكان عن حوار سرى تم بين القيادى الإخوانى سعد الكتاتنى وأحد كبار الدبلوماسيين الأمريكان، فخرج علينا الإخوانى الإعلامى محسن راضى من نافذة الجماعة، لكى يضع لنا ملامح حوار الإخوان مع الأمريكان، فيقول والكلمات تتقاطر من فمه كما تتقاطر عربات قطار النقل: هم أى إخواننا الأمريكان يريدون معرفة موقفنا من المرأة ووضع الأقليات وتداول السلطة والديمقراطية، والموقف بالنسبة إلى العلاقة مع حماس وإيران واتفاقية كامب ديفيد، وكل هذه الأمور التى سبق وأن أعلن الإخوان رأيهم فيها أى أن اللقاءات والحوارات تحصيل حاصل، ثم يستطرد الأخ راضى وهو يزين للأمريكان أطايب الطعام الشهى الذى طبخه الإخوان فيقول: إن الوضع المزرى للأقلية فى البحرين لم تمنع الولايات المتحدة من جعل أرض هذه الدولة مقرًا لأسطولها الخامس!
    وكأن محسن راضى يقول بتصريحه هذا أهلا وسهلا بالأمريكان، وإن تغاضوا عن حقوق الأقليات، طالما إنه وإننا وإنهم بكل أنَّات اللغة العربية فى الإمكان أن نجعل من بلادنا محلًا مختارًا لأسطولهم.
    سنصم الآذان عن كلمات الأخ راضى، وسننظر إلى الناحية الأخرى، سنجد أن كفاح اللسان فى عهد مبارك أصبح هو السمة الرئيسية للجماعة، حيث إنه هو الكفاح الرخيص الذى ليس له كلفة عالية، لذلك ارتفع الصوت الإخوانى منددا بالسياسة الأمريكية التى ترعى المصالح الصهيونية، ومظاهرات طلابية يستغلون فيها طلابهم السذج الذين تربوا على الثقة فى القيادة، وأعلام أمريكية يتم حرقها تحت الأقدام الإخوانية، ومقاطعة للبضائع الأمريكية، وعويل وصراخ، ولعن الله أمريكا الكافرة الزنديقة.
    ولأن اللسان غير الأنف ووظيفتهما تختلف فإنه لا تثريب على أنوف الإخوان، إن أدمنت شم التبغ الأمريكى، فقد ذهبت أنوفهم تعدو صوب دخان السيجار الأمريكى الفاخر الذى يتصاعد من السفارة الأمريكية وهى غير مدركة أن كل دخان سيتبدد ذات يوم، لكن الأخ محمد عبد القدوس مبعوث الإخوان للقاءات الدبلوماسية وقتها عرف طريق السفارة الأمريكية، يذهب إليها فى الأعياد القومية الأمريكية مهنئًا ومصليًّا «حتى لا يطير الدخان»، وكان يصطحب معه الأخ عصام العريان الذى أخذ يرسل رسائل الطمأنة للحكومة الأمريكية وللحكومة الإسرائيلية قائلا فى كلمات ألقاها فى السفارة الأمريكية وفى حوار له مع جريدة «الشرق الأوسط» منذ سبع سنوات تقريبًا العديد من التصريحات قائلا: على الحكومة الإسرائيلية أن تطمئن فسنحافظ على كامب ديفيد، ولأن رسائل الإخوان كانت وردية فقد تعودت السفارة الأمريكية على أن تدعو أعضاء جماعة الإخوان إلى ولائم السفارة من باب «اطعم الفم تستحى العين»، ومع الفم الإخوانى الذى يلوك الطعام الأمريكى، كان اللسان الإخوانى المجاهد يصرخ فى المظاهرات والتصريحات البطولية: لعن الله أمريكا وإسرائيل، احرقوا أعلام أمريكا إنهم قوم لا يتطهرون.
    وإذ فجأة يخرج الدكتور سعد الدين إبراهيم من سجنه بضغوط أمريكية، فيكشف الرجل بصراحته الأمريكية عن أنه كان عراب الاتفاق بين الإخوان والأمريكان بل والمجتمع الغربى كله، قال سعد الدين إبراهيم فى حوار صحفى عام 2004 «حقيقة الأمر أن حوارًا بدأ بينى وبين الإخوان المسلمين فى سجن (مزرعة طرة) وكان أساسه: لماذا اهتم العالم بىّ ولم يهتم بالإخوان. وضاعف من حرارة الحوار وقوع أحداث كونية جسيمة أهمها الهجوم الانتحارى على مركز التجارة العالمى فى نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأمريكية. وكانت إجاباتى عن أسئلة الإخوان المسلمين هى أن العالم يدافع عنى، لأنه اعتبرنى صاحب رؤية ومشارك معه فى قيم إنسانية عالمية، إضافة إلى أننى أحترم الآخر. فقالوا ونحن أيضًا نشارك فى هذه القيم العالمية، وسأل (الإخوان) كيف نوصل وجهة نظرنا إلى العالم الغربى، فقلت لهم أضعف الإيمان هو الكلمة وأقواه هو الفعل، فردَّوا أن الكلام نحن نقوله ونقرّه الآن، أما الفعل فلا بد من انتظاره حتى خروجنا من السجن.
    وخرجت من السجن والتقى بىّ بعضُ من تحاورت معهم داخل السجن، وآخرون لم يكونوا فى السجن، وطلبوا منى مواصلة الحوار الذى بدأناه داخل سجن طرة، إضافة إلى الحوار مع الغربيين.
    فنقلت رغبتهم لبعض السفراء الغربيين الذين كانوا يزورونى بالسجن ويعرفون بحوارى مع الإخوان، وكان فى مقدمة هؤلاء السفراء السفير الكندى فى مصر الذى بدوره طلب الحوار معهم، خصوصًا بعد أحداث 11 سبتمبر، لكن السلطات المصرية رفضت رفضًا باتًا ذلك الحوار.
    لكن الأمر اختلف بعد الخروج من السجن، واجتمعنا أنا وبعض أعضاء الجماعة الإسلامية أمثال عصام العريان ومحمد عبد القدوس وبعض الغربيين وجلسنا فى النادى السويسرى بإمبابة فى مصر، واستمر الحوار يومًا كاملًا ثم تركتهم معا لاستكمال الحوار وهذا كان دورى».
    ومع اللقاءات الحميمية ظلت مظاهرات طلاب الإخوان ترفع راية «أمريكا عدوة الله»، وأخذ مجاهدو الإخوان يلقون بحمم ألسنتهم البركانية على أمريكا ومن والاها، ولعن الله من والاها.
    يُحرمونها ويعاقرونها، يلعنونها وينامون فى مخادعها، ونظرا لأن الإخوان لا يعترفون بالزواج العلنى فقد أنكروا وهم يشتمون أمريكا أن اللقاءات مع الأمريكان تخصهم، فقال متحدثهم الرسمى عندما انكشف كل شىء: هذه اللقاءات لا علاقة لنا بها، ومن حضر من الإخوان فيها حضر بصفته الشخصية!
    وكان أن قامت الثورة المصرية، ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011، وما كان دائرا فى السر قبل الثورة أصبح دائرا فى العلن بعدها، فبعد الثورة مباشرة وقبل أن يصبح «الحكم قبل الدين أحيانا»، لم يعد هناك أى مبرر إخوانى لإثارة مظاهرات ضد أمريكا الصهيونية، فقد كان هذا الكلام أيام الجهاد الرخيص، أما الآن فنحن أمام الجهاد الأكبر، جهاد السعى نحو أريكة الحكم، وبالتالى لم يعد هناك ما يستحق الإخفاء، أو الخفاء، أو التنديد والتهديد، ومع ذلك فإنه عندما قالت السيدة هيلارى كلينتون فى مؤتمر صحفى لها فى بودابست: إن الإدارة الأمريكية تواصل سياسة إجراء اتصالات محدودة مع جماعة الإخوان المسلمين، وهى اتصالات مستمرة على حد قولها، منذ ما يقرب من خمس أو ست سنوات، ثم قالت: سنعادود الاتصال بالإخوان، كان مفهوم الكلام أنه كان هناك اتصال «على الهاتف الدولى»، ثم انقطع، ومن ثم ستقوم الإدراة الأمريكية بإعادة الاتصال، ثم أكدت الوزيرة الأمريكية أن هذه المحادثات كانت قد بدأت منذ بضع سنوات! وكشفت عن أهم الموضوعات التى يتم بحثها مع الإخوان هى: استمرار الإخوان فى سياسة عدم اللجوء إلى العنف، واحترام حقوق الأقباط والنساء، حسن جدا، ليس فى هذا شىء، إذ إن من حق جماعة الإخوان فى ظل حكم مبارك المستبد أن تستقوى بمن يمكن أن يخفف الضغوط الأمنية التى تواجهها، لكن قامت الثورة، وذهب مبارك إلى المكان الذى يستحقه، ولم يبق إلا الشعب الذى لا يجوز أن يستقوى أى أحد إلا به بعد الله سبحانه وتعالى، وفى هذه اللحظة الفارقة التى تختبر فيها الرؤى الوطنية للأفراد والجماعات والأحزاب، إذا بجماعة الإخوان تمد حبالها إلى أمريكا، أو بمعنى أدق، تقبل الحبال الممدودة لها من أمريكا، عملًا بوصية كلينتون التى وجهتها إلى الإخوان من بودابست، والحبال فى السياسة ليس لها إلا فائدة أو نهاية، أما الفائدة فهى أن يصعد بها من يستلم طرفها فيرتقى، وأما النهاية فهى أن يضعها من يستلم طرفها فى رقبته كمشنقة فينتهى، جاء الحبل الأمريكى إلى مقر جماعة الإخوان، وكان الحبل الأمريكى الأول هو وليم بيرنز مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون، وجلس مع قيادات الإخوان فى جلسة سرية، لم نعرف ما دار فيها وما حدث خلالها، حتى إن قيادات الجماعة منعت الصحفيين من حضور اللقاء، أو كلفت خاطرها فى إلقاء بيان بما حدث من مباحثات، ومع ذلك فإن لقاء الإخوان مع وليم بيرنز فى حد ذاته كان لقاءً مستغربًا، وظهر من خلاله أن قيادات الإخوان ترغب فى لقاء أى شخصية أمريكية حتى ولو كان من شأنها تلويث البحر المتوسط، فوليم بيرنز هو أحد الأعمدة الصهيونية فى الحكومة الأمريكية، وأحد أكبر الداعمين لكل الاعتداءات الإسرائيلية التى حدثت ضد الشعب الفلسطينى، ويعتبر نفسه مبعوث العناية الأمريكية لحماية أمن إسرائيل، لدرجة أنه سبق أن صرَّح بأنه لا يريد تحقيق أمن إسرائيل فقط، لكنه على حد قوله: «أنا أبحث عن رفاهية إسرائيل»، ومن فرط تصريحاته العنصرية اعتبرته منظمات حقوق الإنسان واحدا من أعداء الإنسانية، وبعد أن التقى بيرنز قيادات الإخوان أصدر تصريحات بأنه بحث مع الإخوان كل ما يتعلق بالمصالح الأمريكية وبأمن إسرائيل والمعاهدات التى عقدتها مصر مع إسرائيل، وقال إن الإخوان تعهدوا بالحفاظ على هذه المعاهدات، ولأن هذه التصريحات تعنى بطريق الاستدلال أن الإخوان تحدثوا مع وليم بيرنز فى رغبتهم فى خوض انتخابات الرئاسة، وأنهم يريدون معرفة موقف أمريكا منهم فى حالة تنفيذهم رغبتهم، فلذلك كانت الحوارات ومن أجل هذا كانت التطمينات والتأكيدات، صحيح أن الإخوان أنكروا صحة تصريحات وليم بيرنز، وكأنه كان يزور مقر الإخوان من أجل أن يصلى الظهر خلف المرشد الدكتور محمد بديع، لكن وزارة الخارجية الأمريكية أصدرت بيانًا تفصيليًّا باللقاء، وما تم فيه وأكدوا حصول الحكومة الأمريكية فى لقاء بيرنز مع الإخوان على تطمينات وتطمينات.بعد هذا اللقاء مباشرة التقى كيسنجر وزير الخارجية الأمريكية الأسبق مع وزير الخارجية المصرى السابق محمد العرابى، وكان اللقاء فى إسطنبول، وفى هذا اللقاء قال كيسنجر للعرابى: الإخوان المسلمون قادمون فى مصر، وأنا متأكد تمامًا أن الإخوان سيحكمون مصر قريبًا، وإذ سأله العرابى: وما موقف أمريكا من هذا؟ قال كيسنجر وفقا لما نشره العرابى ليس لدى أمريكا مشكلة لأن كل ما يهم الإدارة الأمريكية ثلاثة أمور مفصلية فى مصر، هى: الالتزام باتفاقية السلام مع إسرائيل، وضمان سلامة الملاحة فى قناة السويس، وأن تستمر الولايات المتحدة مصدرًا لتسليح الجيش المصرى، تصريحات كيسنجر هذه كانت عقب لقاء بيرنز الإخوان، وظهر منها أن النظام الأمريكى يرغب فى جعل تفصيلات الحوارات مع الإخوان علنية. وتوالت اللقاءات الإخوا أمريكية، مرة مع جون ماكين عضو مجلس الشيوخ الأمريكى، وجون كيرى منافس جورج بوش فى انتخابات 2004، وخرج هذا الأخير من لقائه مع الإخوان سعيدًا مبتسمًا، ثم بعد أيام وهو فى واشنطن وبعد سفر المتهمين الأمريكان فى قضية التمويل الأمريكى إلى بلادهم خرج جون كيرى ليوجه الشكر الجزيل للإخوان لمساعدتهم رعايا أمريكا فى «السفر الآمن» والهروب من قضية التمويل! ما يعنينى هنا أن جسد جماعة الإخوان كله كان يسير فى اتجاه، وكانت رأسه تسير فى اتجاه آخر، إلا أن الجسد لم يشعر بهذا الانفصال، فقد كان سادرًا فى نشوة «أكثرية البرلمان» والانتصار المرتقب، ودولة الإسلام التى على وشك أن تعلن عن نفسها فى مصر، لم يستشعر الجسد خطورة اللقاءات مع الأمريكان التى من الممكن أن تحرق من يقترب منها، بل كان يتيه فخرا بها معتقدا أن إمبراطور العالم فى سبيله إلى أن يخضع لإمبراطورية الإخوان، وأنه أتى إليها صاغرًا، لم يدرك الجسد الإخوانى أن أمريكا دولة نفعية، لا تدور إلا حول مصالحها، ولا تبحث إلا عن الغنائم، منطق الشركات التجارية هو الذى يحركها، فحيثما كانت المصلحة فثم وجه أمريكا، ولذلك فإن أمريكا لا تمانع من التعامل مع القديس وإغوائه، أو التحالف من إبليس لإرضائه، لا يهمها من قاطع بضائعها وحرق أعلامها وأهان كرامتها، المهم أن يحقق مصالحها، وأمريكا السياسية التى يديرها دهاقنة الصهاينة لا تبكى إلا على إسرائيل، أما مصر فلا بواكى لها.
    وبعد هذه اللقاءات الحالمة دوَّن الإخوان فى دفاترهم الجهادية، أن المظاهرات أصبحت موضة قديمة، يتم محاصرة غزة، قطع الكهرباء عنها، عمل غارات صهيونية على أهلها، والإخوان أذن من طين وأذن من عجين، فالمظاهرات لا تليق بأهل الحكم، وأيضا المواقف السياسية الوطنية لا يجوز أن يفارقها أهل الحل والعقد، ولتستمر المفاوضات والحوارات والغزل الرفيع تحت لافتة «يتمنعن وهن الراغبات».
    وجاءت لحظات التمكين، وهى لحظات لو تعلمون مقدسة، ولحظات التمكين يسبقها فى العرف الإنسانى، حالة ارتفاع روحى، أو حالة غرور إنسانى، والغرور يعمى البصر ويطمس على البصائر، وبدأت الاتصالات والاتفاقات، والوعود والتعهدات، ثم أخذ الفصل الثانى من حلقة الضغوط يعلن عن نفسه، فأمريكا التى قتلت وأبادت وارتكبت أكبر وأفظع جرائم إبادة فى تاريخ البشرية، أمريكا التى لا تبحث إلا على حرية إسرائيل، وديمقراطية نفسها، إذا بها تصبح راعية للديمقراطية والحرية فى مصر، خرجت كلينتون تطالب الإدارة المصرية قبل إعلان النتيجة رسميًّا بضرورة أن تعلن النتيجة وفقًا للكشوف التى تسلمتها جماعة الإخوان من رؤساء اللجان العامة، أى طالبت أن تعلن اللجنة الرئيسية للانتخابات بإعلان فوز الدكتور محمد مرسى، بغض النظر عن الطعون التى كانت تنظرها اللجنة! وعلى نفس السياق خرج الرئيس الأمريكى أوباما موجهًا نفس الطلب للمجلس العسكرى، وكاثرين أشتون مفوضية الاتحاد الأوروبى لم تترك الساحة خالية للأمريكان، بل كانت أشد حسمًا من الأمريكان مطالبة لجنة الانتخابات بإعلان فوز الدكتور محمد مرسى، ومع هذه المطالبات التى يعرف أهل السياسة ما وراءها، كانت لقاءات الإخوان المتعددة مع المشير طنطاوى، فقد التقى به خيرت الشاطر، الذى ليس له أى موقع سياسى أو حزبى، فقط هو نائب مرشد جماعة لا تطبق القانون على نفسها، ولم تشهر جمعيتها، معتبرة أنها فوق القانون وفوق الدستور، بل فوق الدولة كلها! وكانت هذه اللقاءات فى فترة حاسمة قبل إعلان النتيجة بساعات، ومع هذا وذاك وبعد إعلان النتيجة خرج الكثير من الصحف الأمريكية لتكشف عن أن الحكومة الأمريكية كان لها الدور الحاسم فى إعلان النتيجة بفوز مرسى، معلنة عن أنه لولا أمريكا لكان للنتيجة شأن آخر، وبذلك نجحت أمريكا فى إطلاق القط المشتعل فى الحقل المصرى.
    وكان أن أرسل القط المشتعل رسالة شكر إلى سيده الأمريكى، ظهر هذا الشكر فى مواقف كثيرة، ففى تجربة معملية دارت رحى معركة بين إسرائيل والجانب الفلسطينى، وأطلقت حماس ومنظمات جهادية صواريخ على إسرائيل، فأسرع الرئيس المصرى الجديد محمد مرسى فى السفر إلى غزة للتدخل ووقف إطلاق الصواريخ من الجانب الفلسطينى على أن توقف إسرائيل قصف غزة، وكان التوفيق حليفًا للرئيس الجديد.
    سافر أوباما إلى إسرائيل دون أن يمر على مصر، وهناك عند أبناء صهيون قال «إن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل» فلم نسمع حسًا ولا خبرًا من جماعة الإخوان، بل كانت فى صمتها مثل صمت القبور، إنك لا تسمع من فى القبور، ومن فى المقطم، ومن يجلسون على كراسى الحكم، وكان الأغرب أن كل أفراد الجماعة بشبابها وشيوخها سكتوا، بعد أن كان هتافهم المفضل هو «على القدس رايحين شهدا بالملايين»، فأصبح صمتهم رسالة تقول إن الشعار تغير وأصبح «على القدس رايحين، مهنئين مباركين».
    ومؤخرا خرج وزير الخارجية الأمريكى على أجهزة الإعلام ليقول: لقد أخذنا تعهدات على جماعة الإخوان قبل وصولهم إلى الحكم على مد يدهم لكل القوى السياسية، وأرجو أن يلتزموا بما تعهدوا به.
    المهم أن الإخوان وصلوا إلى الحكم، فأصبحت هناك دولة مصرية لها خلفية عقائدية، تنظر للآخرين على أنهم مفارقون للإسلام، فتدخل فى صراعات معهم، وتتحزب البلاد، وتنقسم، تخرج مظاهرات الإخوان هاتفة: «بالروح والدم نفديك يا إسلام»، وكأن القوى السياسية المتنوعة ترغب فى القضاء على الإسلام! يحدث استفتاء على تعديل للدستور فيصبح الصراع دائرا على خلفية دينية لا سياسية، حيث يقول دعاة الإخوان ورجالهم: هذه غزوة الصناديق، من سيكون معنا فهو مع الإسلام، ومن سيكون ضدنا فهو ضد الإسلام! وتزيد رقعة الخلاف والاختلاف، وتشتعل معارك شبيهة بمعارك الحروب الأهلية لأول مرة فى تاريخ مصر كله، وإذا بسيناء تتحول إلى دولة داخل الدولة، حيث أصبحت مأوى لجماعات تطرف مجهولة النسب، خرجت سيناء بجماعات التطرف هذه من تحت سيطرة مصر، وأصبحت مرتعًا للعابثين، وفى سيناء يتم قتل مجموعة من الجنود المصريين، وتظهر الأخبار مؤكدة أن القتلة كانوا يهتفون الله أكبر وهم يصوبون الرصاص فى صدور الجنود، وتتوالى الأخبار فنعرف أن القتلة جاؤوا من غزة، وأنهم يتبعون حركة إسلامية قريبة من حماس، لكن الرئيس المصرى وجماعته يعيشون فى وادٍ آخر غير وادى سيناء.
    ثم كان يجب بعد ذلك أن يلتقى الصنمان، صنم الشيعة وصنم الإخوان، ومن وراء الستار كان هناك من يحرك الصنمين بحبل لا يظهر للرائى، تمامًا كما يحدث على مسرح العرائس، وحين تحرك أو حُرِّك الصنم الشيعى أحمدى نجاد، جىء به إلى مصر الواقعة رهينة تحت يد الإخوان، ودخل الصنم الأزهر وهو يبتسم، كانت الابتسامة موحية وكأنه يقول: فى هذا المكان كانت لنا أيام، وأظن أن شريطًا من الذكريات التاريخية مر ساعتها على ذهنه، فظهرت أمامه صورة حسن البنا، وتقى القمى، وآية الله كاشانى، ونواب صفوى، وآية الله الخمينى، أبطال غزو الشيعة العالم السنى، وقد كانت تلك الغزوة من أعجب الغزوات فى التاريخ.

    أئمة الشر.. الإخوان والشيعة.. الجذور «7»
    فى عام 1938 زار روح الله الموسوى مقر الإخوان الذى أصبح فى ما بعد الخمينى مفجر الثورة الإيرانية
    الإخوان حريصون على إخفاء جميع وثائقهم ولا يسمحون أبدا بالإفراج عنها أو خروجها إلى النور مهما مرت عليها السنوات
    تمر السنوات، وتتعاقب الأحداث، ويمسى الحاضر ماضيا، ومع ذلك يظل هذا الماضى شاخصا أمام أبصارنا حين يضبطه التاريخ، ولكن ترى هل ضبط التاريخ له يماثل ضبط «الكاميرا» للصورة، فتصل لنا الأحداث كما هى بلا رتوش ولا حذف ولا إضافات؟ أم أن قلوب البشر تنقل إلينا ما وقر فيها وما استقبلته مضمخا بالمشاعر، فنعجز عن معرفة التاريخ المجرد إلا بالتقريب؟
    كم هى مهمة شاقة تلك التى نتعهد أنفسنا بها، حينما نسرد ما يحدث فى زمننا لتقرأه الأجيال القادمة، فذات يوم سيصبح واقعنا تاريخا، ولكن زمننا يختلف عن الأزمان السابقة، فسهولة توثيق الأحداث اليومية فى العصر الحالى تجعل مهمة رصد التاريخ للوقائع مهمة هينة بالمقارنة بما كان يحدث فى الماضى، ولكن تظل الصعوبة قائمة حينما نحاول رصد تاريخ جماعة سرية، تخفى أفكارها والأحداث التى تمر بها أو تنتويها، تحيط نفسها بأسوار عالية، بحيث لا يستطيع أحد تسورها أو الولوج فى دهاليزها، تضع أوراقها السرية فى توابيت مغلقة، بحيث لا يستطيع أحد أن يقرأها أو يقترب منها، فالاقتراب من «الأوراق المخفية» لدى أى جماعة من الجماعات السرية يعد بمنزلة الاقتراب من منطقة ملغومة شديدة الخطورة، إذ لا تسعى أى جماعة إلى إخفاء بعض أوراقها وجعلها فى «طيات النسيان» إلا إذا كانت هذه الأوراق تشير إلى حقائق ترغب الجماعة فى إخفائها عن الأنظار إما لخطورتها، وإما لأنها قد تكشف عن توجهات فكرية أو حركية تمثل منهجا حقيقيا للجماعة غير منهجها أو خطابها المعلن.
    وكما بعض الدول تفعل جماعة الإخوان السرية، فإذا كانت الدول تخفى وثائقها وتحيطها بالسرية وتضع عددا من السنوات للكشف عنها، فإن جماعة الإخوان تسعى دائما إلى إخفاء جميع وثائقها، إلا أنها -كعكس الدول- لا تسمح أبدا بالإفراج عن هذه الوثائق.
    إلا أن أبرز ما تقع فيه الجماعة التى تشعر بالاضطهاد هو مسارعتها للاحتماء بقوى خارجية -خارج الجماعة أو خارج الدولة- بغض النظر عن أى اعتبارات وطنية، وقد يتداخل مع الرغبة فى الاحتماء بالقوى الخارجية شعور الجماعة بالاستعلاء والتفرد وإحساسها بأنها «حامل أختام الحقيقة»، وأن ما لديها من صواب يجب أن ينتصر على «أصحاب الضلالة»، وأنه فى سبيل الانتصار للحقيقة يحق للجماعة أن تسلك الوسائل التى ترى أنها قد تحقق لها هذا «النصر المنشود» حتى ولو كان هذا الطريق هو مخالفة ثوابت الأمة العقائدية والوطنية.. فلا رأى إلا ما يرى القادة.. وهذا هو منطق الطغاة فى كل العصور، وهو نفسه منطق الفراعين الذى حدثنا عنه ربنا سبحانه وتعالى «قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد» (غافر: ٢٩)، وتبرير كل فرعون لطغيانه هو أنه صاحب الرأى والمُلك والقيادة «أليس لى ملك مصر وهذه الأنهار تجرى من تحتى أفلا تبصرون» (الزخرف: ٥١)، ولأن قادة الإخوان مثلهم مثل كل الفراعين الطغاة، فلا اختلاف عندهم فى الرأى، لأن الاختلاف ينهض بسبب تنوع الأفهام، أما فى الإخوان فلا تعدد للأفهام ولكن معظمهم إلا من رحم ربى يتماهى فى عقل رجل واحد هو من تحكم فى مقاليد أمورهم.
    وفى تاريخ الإخوان القديم ورقة ظلت مخفية لا يعرف أحد عنها شيئا، ورقة أذهلتنى حين عرفتها، كانت مخبأة فى أحد دهاليز الجماعة دون أن يلتفت إليها أحد أو يشعر بقيمتها التاريخية، كانت هذه الورقة تحتوى على خبر زيارة لمقر الإخوان فى مصر قام بها سيد روح الله مصطفى الموسوى الخمينى عام 1938، وتشير هذه الورقة إلى أن ثمة لقاء خاصا تم بين المرشد الأول للجماعة الأستاذ حسن البنا والسيد روح الله مصطفى الخمينى الذى أصبح فى ما بعد الإمام آية الله الخمينى مفجر الثورة الإيرانية، ولكن مما يؤسف له أن أحدا من الذين عاصروا هذه الواقعة لم يدوِّن أحداثها ووقائعها، رغم أن زيارات أخرى قامت بها شخصيات شيعية شهيرة لمقر الإخوان بمنطقة الدرب الأحمر وصلت إلينا أخبارها وبعض تفصيلاتها.
    فذات يوم من أيام 1992 وبمحض الصدفة وقعت تحت يدى بعض تفصيلات تلك الزيارة المجهولة التى قام بها الخمينى للإخوان عام 1938، لم تصل لى أخبار الزيارة فحسب، ولكن وقعت تحت يدى ورقة تحمل خبر هذه الزيارة، كانت هذه الورقة مطوية ومنسية مثلها مثل عشرات بل مئات من الأوراق التى بعثرها قادة الإخوان فى كل مكان دون اهتمام، وكأن وثائق الجماعة عورة ينبغى التخلص منها!!
    ما قصة هذه الورقة؟ وما محتواها؟ فى غضون عام 1992 كان قسم المهنيين فى الإخوان قد قرر خوض انتخابات نقابة التجاريين، وقام القسم باختيارى وأحد المحامين من الإخوان للإشراف القانونى على هذه الانتخابات ومتابعة المخالفات القانونية وتقديم الطعون، وكان لا بد أن نتخذ لأنفسنا مقرا ثابتا لنتابع من خلاله «يوم الانتخابات»، وكان هذا المقر هو مقر الجماعة الرسمى الكائن بشارع سوق التوفيقية القريب من نقابة التجاريين.
    ذهبنا إلى المقر بعد صلاة الفجر بقليل، وتقابلنا مع فريق العمل من المحامين، وكلفناهم بالمهام وأعطيناهم رقم التليفون الخاص بالمقر لإبلاغنا بكل التطورات والأحداث، ورتبنا كل الأمور قبل أن تطأ قدم إخوانية أرض المقر، ثم فرغنا بعد ذلك لقراءة أذكار الصباح، وبدأت الأقدام تتوالى على المكان.
    كانت المكالمات الهاتفية التى تلقيناها من فريق العمل قليلة، واليوم يمر بلا مشكلات تقريبا، وكعادتى اتجهت إلى رفوف المكتبة أبحث فيها عن كتاب أقضى معه وقتى، إلا أن عينى اتجهت صوب «رزمة» من المجلات القديمة، فحملت بعضا من هذه الرزمة وجلست على أحد المكاتب أتصفحها، كانت هذه الرزمة تحتوى على أعداد متفرقة من مجلة «النذير» الإخوانية القديمة التى أصدرها الإخوان عام 1938، وفى أثناء تصفحى بعض الأعداد دخل علينا الأخ الذى يقدم الخدمة للمترددين على المكان، وقال لنا إن المرشد الأستاذ حامد أبو النصر حضر إلى المقر وهو بحجرته الآن ويريد أن يرانا ويعرف منا تطورات انتخابات التجاريين.
    حين دخلنا عليه وجدته جالسا على أريكة بجوار مكتبه، أقبل عليه الأخ الذى معى وانكب على يديه مقبلا إياها، وقعتُ فى حرج، هل أفعل كما فعل الأخ؟ أم أتبع سنة النبى صلى الله عليه وسلم، إذ كان الصحابة عندما يقابلونه يسلمون عليه مصافحة؟ وبسرعة وجدت حلا وسطيا، إذ قمت بالسلام عليه مصافحة وقبلت رأسه، فابتسم الرجل، وأخرج من جيبه بعض قطع من الحلوى وأعطاها لنا وهو يقول إنه اعتاد «تحلية» فم زواره حتى يحلى الله فمه يوم القيامة، جلسنا بجواره نتكلم ونتضاحك وقصصنا عليه أحداث انتخابات نقابة التجاريين، وأفهمناه أن التصويت سينتهى فى الخامسة مساء وبعدها يبدأ الفرز، وقبل أن ننصرف من حجرته أخبرته أننى رأيت فى المكتبة بعض أعداد من مجلة «النذير»، واستأذنته أن آخذ ثلاثة أعداد منهن إلى بيتى لأستكمل القراءة، فأذن لى، على أن أستأذن من الأخ المسؤول عن المقر.
    وبعد عدة أيام وفى بيتى جلست أتصفح أحد أعداد المجلة ذات مساء، كانت المقالة الأولى التى وقعت عليها عينى تتعلق بإيران وتشرح وتحلل لتاريخها، وكيف أنها درة من درر الشرق، وأنها دولة هادئة مسالمة، وفى أثناء القراءة إذا بورقة تقع من المجلة، أمسكتها فوجدتها صفراء قديمة، يبدو أنها ظلت داخل صفحات هذا العدد من المجلة سنوات وأحقاب عديدة حتى بهت لونها، كانت هناك بعض كلمات فى الورقة، قرأت النص المكتوب ثم التفت عنه، بل كدت أن أرمى الورقة فى سلة المهملات، إذ لم يقع فى خاطرى أنها ذات أهمية، ولكن هاجسا انتابنى دفعنى إلى طى الورقة ووضعها فى مكانها بالمجلة، كان النص المكتوب فى الورقة الصفراء هو (الأخ الكريم محمود عبد الحليم رعاه الله رجاء سؤال الأستاذ المرشد عن زيارة رجل الدين الشيعى روح الله مصطفى الموسوى لفضيلته فى المقر، هل من المناسب أن نكتب فى العدد القادم من المجلة عن تفاصيل هذه الزيارة أم أن فضيلته ليس له رغبة فى ذلك، عن نفسى فإننى أحب أن أكتب مقالة بنفسى عن هذا الأمر وعن الذى قاله الأستاذ فى خصوص أن نعمل فى المتفق عليه، وأن نعذر بعضا فى المختلف فيه، وعلى العموم الرأى محال لفضيلته، ولكننى أحببت فقط أن أشارك فى الرأى، مع رجاء الرد سريعا لارتباطنا مع المطبعة يوم الجمعة القادم.. توقيع صالح مصطفى عشماوى).
    من هو روح الله مصطفى هذا؟ وهل هو من الشخصيات العابرة التى لا تعلق فى الأذهان؟ حتى إن الزيارة لم تلق الاهتمام الكافى إعلاميا، بل إن مؤرخى الجماعة لم يكتبوا عن هذا اللقاء وما تم فيه، كانت هذه أسئلة جالت بخاطرى ودفعتنى إلى الاحتفاظ بالورقة لعلى أجد بعد ذلك إجابة وافية عنها.
    وبعد أيام ذهبت إلى مقر الجماعة لبعض شأنى، فتقابلت مع الحاج عباس السيسى، رحمة الله عليه، والحاج عباس السيسى هو أحد القيادات التاريخية للجماعة، وكان قد تتلمذ إخوانيا على يد المرشد الأول حسن البنا، كما كان فى هذا الوقت وقت لقائى به أحد الأعضاء البارزين فى مكتب الإرشاد، وقبل أن ينتهى لقائى معه سألته عن روح الله مصطفى، من هو، وما هى قصة زيارته للمرشد الأول عام 1938؟
    أومأ الحاج السيسى برأسه، وظهر البشر على وجهه الطيب، وقال: من الذى أخبرك عن هذه الزيارة، فقصصت عليه القصة وأنبأته بخبر الورقة الصفراء فقال لى: اجعل هذه الورقة معك لا تعطها لأحد من الإخوان، فهم لا يهتمون بالتاريخ ولا بالتوثيق، ولو أعطيتها لهم ستضيع، فهذه ورقة مهمة.
    استرسل الشيخ فى الشرح، وتحولت أنا إلى أذن مصغية، فقال: روح الله هذا هو الإمام الخمينى رحمه الله، لم يكن معروفا وقتها، كما لم يكن من المقبلين على التقريب بين الشيعة والسنة، ومع ذلك تقابل معه الإمام الشهيد ليحاول إقناعه بالتقريب، أما الذى كان مقتنعا بالتقريب فهم أفراد آخرون من علماء الشيعة مثل الكاشانى والقمى وغيرهما، وهؤلاء تقابل معهم الإمام الشهيد وأنشأ معهم دارا للتقريب.
    فسألته: ولكن اللقب الذى كان مكتوبا بالورقة التى عثرت عليها هو «الموسوى» وليس الخمينى؟
    رد قائلا: لقبه كان الموسوى نسبة إلى عائلته على الأرجح، وكان أيضا «الخمينى» نسبة إلى البلد الذى ولد فيه، وفى الوقت الذى زارنا فيه كان مشهورا بـ«الموسوى».
    عدت أسأله: قرأت فى الورقة مقولة الإمام الشهيد الشهيرة أن نعمل فى المتفق عليه بيننا، وأن نعذر بعضا فى المختلف فيه، هل هذه العبارة كانت من أجل التقريب بين السنة والشيعة؟.
    قال: هذه عبارة الأستاذ رشيد رضا، رحمه الله، وقد استعملها الإمام الشهيد فى مواضع كثيرة، منها تلك اللقاءات التى جمعته بالشيعة، وقد قالها للقمى وللكاشانى بعد ذلك... ثم استطرد: ويبدو أن الخمينى تأثر بحسن البنا تأثرا كبيرا وقد قال لى هذا شخصيا.
    سألته: وهل قابلت الخمينى؟
    قال: نعم قابلته، فقد زاره بعض وفود من الجماعة أكثر من مرة بعد الثورة الإسلامية فى إيران، وكنت فى أحد هذه الزيارات، أخونا يوسف ندا كان على رأس الوفد الأول، وقد ذهب ندا وفقا لأوامر صدرت له شخصيا من الأستاذ التلمسانى، أما أنا فقد كنت فى وفد آخر، وأظنه الوفد الثانى، وتحدثنا مع الخمينى رحمه الله عن ضرورة أن يكون للإخوان جمعية فى إيران، فوافق بسماحة، وقال إنه تأثر بحسن البنا تأثرا كبيرا، وأخبرنا عن زيارته لنا فى مصر ومقابلته للإمام الشهيد، وقال إنه أطلق على نفسه لقب «المرشد» تأثرا وتيمنا بلقب المرشد الذى كان لحسن البنا.
    عدت أسأله: هناك أمر استلفت نظرى، لماذا لم يكتب الإخوان عن زيارة الخمينى الأولى للإمام الشهيد وما حدث فيها؟! ولماذا لم يكتب الإخوان التفصيلات الكاملة لخبر زياراتكم للخمينى فى إيران وتفصيلا؟
    قال: عن زيارة الخمينى لنا، أظن أنه وقتها لم يكن شخصية مشهورة، وكانت الزيارات التى نستقبلها لوفود من الشباب المسلم من كل العالم هى من الأمور الدورية الاعتيادية، وبالتالى لم تلق هذه الزيارة اهتماما إعلاميا وقتها من أى أحد لا من الجماعة ولا من غيرها، ولكن زيارات أخرى كانت محل اهتمام من الجماعة مثل علاقتنا بالإمام تقى القُمى والإمام الكاشانى، لأنهما كانا يعملان مع الإمام الشهيد فى التقريب بين السنة والشيعة، والإمام الشهيد كان صاحب فكرة إنشاء دار التقريب، بل هو صاحب هذه التسمية، كما أن أحدا لم يكن يعلم أن هذا الشاب «الموسوى» سيصبح فى ما بعد الإمام «الخمينى» ذائع الصيت والتأثير، أما عن عدم قيامنا بالكتابة عن زياراتنا للخمينى بعد الثورة الإسلامية، فلاحظ أن نظام السادات كان قد أخذ موقفا عدائيا من تلك الثورة ، فالسادات كان يخاف من مسألة تصدير الثورة إلى مصر، فضلا عن ذلك فإن علاقتنا بالسادات كانت قد تأثرت فى نهاية حكمه، فلم نرد أن نزيد الطين بلة، وقد استمر مبارك على نفس نهج السادات، فآثرنا الصمت، وخذ بالك لا تتحدث بإفاضة عن هذه المعلومات مع أحد، لأن الجماعة من الممكن أن تصاب بأضرار بسبب هذه القصة.
    قلت: ولكن الأستاذ عمر التلمسانى رحمه الله أشاد بالثورة الإيرانية؟!
    قال: هذه نقرة وتلك نقرة، المرشد يقول رأيا، أما أنت فلديك معلومات، والمعلومات التى قدمتها الجماعة إلى الرأى العام محدودة، وليس لك أن تتحدث فى هذه الشؤون، لأن هذا ليس من اختصاصك، هذه معلومات لك وحدك، لعلك تكتبها ذات يوم فى ظروف تسمح بذلك، وأظنك قرأت فى كتاب المرشد التلمسانى رحمه الله «ذكريات لا مذكرات» أن علماء الشيعة كانوا ينزلون ضيوفا على الإخوان فى المركز العام فى القاهرة، وأن الإمام الشهيد كان على علاقة محبة وصداقة مع آية الله كاشانى.
    انتهى الحديث بيننا، وانتهت الزيارة، وبقيت تلك القصة عالقة فى ذاكرتى، وبقيت الورقة الصفراء معى شاهدة على فترة من تاريخ الجماعة وصفحة من صفحاتها.
    الجماعة التى تشعر بالاضطهاد تسارع إلى الاحتماء بقوى خارجية بغض النظر عن أى اعتبارات وطنية
    الحاج السيسى أخبرنى أن وفودا كثيرة من الإخوان قابلت الخمينى بعد الثورة الإيرانية والإطاحة بالشاه وأن أحد هذه الوفود رأسها يوسف ندا الذى ذهب بأمر مباشر من التلمسانى
    التلمسانى ذكر فى كتابه «ذكريات لا مذكرات» أن علماء الشيعة كانوا ينزلون ضيوفا على الإخوان فى المركز العام فى القاهرة وأن البنا كان على علاقة محبة وصداقة مع آية الله كاشانى

    الملفات المرفقة الملفات المرفقة

المواضيع المتشابهه

  1. الاخوان المسلمين 51
    بواسطة Haneen في المنتدى الاخوان المسلمين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2013-05-28, 08:31 AM
  2. الاخوان المسلمين 38
    بواسطة Aburas في المنتدى الاخوان المسلمين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2013-02-26, 10:39 AM
  3. الاخوان المسلمين 37
    بواسطة Haneen في المنتدى الاخوان المسلمين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2013-01-30, 10:55 AM
  4. الاخوان المسلمين 36
    بواسطة Haneen في المنتدى الاخوان المسلمين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2013-01-30, 10:54 AM
  5. الاخوان المسلمين 35
    بواسطة Haneen في المنتدى الاخوان المسلمين
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 2013-01-20, 01:14 PM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •