اقلام واراء اسرائيلي 493
30/11/2013
في هــــــذا الملف
احتجاز بيبي في جنيف
بقلم:زئيف شترنهل،عن هآرتس
انتهاء عصر الضربة الاولى!
بقلم:أمير اورن،عن هآرتس
هل حقا نشهد ولادة نظام اقليمي جديد؟
بقلم:تسفي مغين،عن نظرة عليا
انقضاء العصر الامريكي بعد اتفاق جنيف
بقلم:البروفيسور ابراهام بن تسفي،عن اسرائيل اليوم
احتجاز بيبي في جنيف
بقلم:زئيف شترنهل،عن هآرتس
إن اتفاق جنيف كما يرى بنيامين نتنياهو خطأ تاريخي. لماذا؟ لأنه لم يحرز الأهداف التي احرازها يعتبر اتفاقا جيدا من وجهة النظر الاسرائيلية. وبعبارة اخرى: لم تنته المباحثات في جنيف الى استسلام الايرانيين بل أثمرت تصالحا.’
أجل، إن ماهية الاتفاق على حسب التصور الرائج في العالم أنه تصالح يمكن أن يعيش معه الطرفان. فهذا التصالح لا يُلبي جميع مطامح كل طرف، لكنه يُنشيء وضع تعايش جديدا. إن هذا هو ما حدث في التفاوض بين الغرب وايران، لكن ليس هذا ما تعتقده اسرائيل الرسمية. فهي ترى أن الاتفاق كان يجب أن ينتج ما لا تقدر هي نفسها على احرازه بسلاحها الجوي، أي تدمير الطاقة المحتملة الذرية الايرانية حتى الأساس.’
لسوء الحظ لا يعمل براك اوباما عندنا ولا عند إييف فوكسمان ورفاقه في ‘الايباك’؛ فلم يكن هدف التفاوض تركيع ايران. فكيف يمكن بعدُ أن نعتمد على تقدير الحكومة التي لم تفهم ذلك منذ وقت، للامور؟.
‘إن نتنياهو على يقين وبحق أن الايرانيين سيحاولون الخداع والكذب. فكيف يعلم؟ لأن هذا ما كان سيفعله لو كان في مكانهم، وهذا ما تفعله حكومته في كل يوم في المناطق بصورة أفضل من كل شيء آخر. ولم يوجِد نتنياهو هذه الطريقة بل سبقه اريئيل شارون ورؤساء وزراء آخرون. وقد تم الاستيطان كله سرا بطرق مافيا مع الدوس على كل قانون ومعيار خلقي معروفين، ومع سلب وظلم السكان المحليين، فالكذب والخداع عند نتنياهو هما أساس العلاقات الدولية وتعبير عن الذكاء السياسي وقدرة الفعل. لكن أهمية التفاوض مع ايران تتجاوز كثيرا ما أُحرز في جنيف، فقد تقررت هنا أنماط تفكير وسبل عمل سيكون من الممكن تطبيقها في الجهد لحل المشكلة الاسرائيلية الفلسطينية. وهذه هي النقطة القابلة للتطبيق الرئيسة وهي أن جهدا مشتركا بين الخمس + واحدة يمكن أن يُجلس الطرفين الى طاولة المباحثات واجبارهما على بدء التحادث بجدية. وسيكون من الصعب جدا تجاوز مجموعة الدول هذه. إن اعمالا كوقف البناء في المستوطنات واعلام منتوجات مصدرها اراضي الاحتلال بعلامات، وتفاوض جدي في حدود الدولة الفلسطينية المستقبلية امور يقبلها الأكثرون من مواطني الدول الغربية.
‘والسؤال الى أي حد تستطيع المنظمات اليهودية في امريكا أن تراكم عوائق في طريق البيت الابيض لم يُتفحص بعد، وربما من المراد أصلا ألا يُمتحن. ولهذا اذا بلغ التفاوض المباشر الذي يدأب فيه جون كيري الى طريق مسدود فان عقد مؤتمر دولي هو أمر ممكن. واذا تبين أن المسيرة السياسية التي بدأت في جنيف ناجحة، وأثبتت رقابة مشددة أن الايرانيين يفون بالاتفاقات وتم وقف قدرتهم على انتاج طاقة ذرية للاستعمال العسكري، فان خطة جنيف ستبدو السبيل الوحيدة الباقية في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني ايضا.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
انتهاء عصر الضربة الاولى!
بقلم:أمير اورن،عن هآرتس
تتعميكان نوركين، رئيس سرب جوي في سلاح الجو، كان رضيعا ابن نصف سنة عندما بعث رئيس الوزراء ليفي اشكول الى رئيس الاركان اسحق رابين برسالة علنية، فريدة من نوعها؛ لا مثيل لها في تاريخ علاقات الحكومة والجيش في اسرائيل وهي جديرة بالقراءة الموجهة.’ فمضمونها’ كفيل بان يبدو كعرض متحفي في اعقاب الاتفاق هذا الاسبوع بين القوى العظمى وايران على تجميد مؤقت لسعيها نحو السلاح النووي. فالوضع الجديد الذي يتبلور في المنطقة يفرض التحديات على المفاهيم الاساس في العقيدة الامنية، ارث دافيد بن غوريون في ظروف مختلفة جدا. فلسلاح الجو، الذي يعتبر نوركين هو احد أربعة كبار الضباط فيه المعنى يمكن ان يكون انتهاء عصر الضربة الاسرائيلية الاولى. بشرى تحديث مبنى قيادة الاركان في سلاح الجو في السنة القريبة القادمة تفيد بالتكيف للعصر الجديد الذي بدأ لتوه.
‘اشكول، بعد اسبوع من انتهاء حرب الايام الستة، تألم ليس فقط لاضطراره التخلي عن حقيبة الدفاع في صالح موشيه دايان عشية القرار بشن الحرب بل وايضا ادعاء دايان في نهاية الحرب بان الجيش الاسرائيلي لم يبنى كما ينبغي في سنوات اشكول رابين. ففي الرسالة الى رابين والى الجمهور رد اشكول على دايان دون أن يذكر اسمه، بسلسلة لذعات لدرجة التلميح بان ا نجازات الحرب جاءت رغم دايان وليس بفضله. فمعظم الثناء والمديح الشخصي أبقاه اشكول لسلاح الجو ولقادته اللواء عيزر وايزمن، الذي كان من بناة ومصممي قوة سلاح الجو على مدى سنين، والقائد الحالي، اللواء مردخاي هود، الذي اشرف على عمليات السلاح’.
‘حملة ‘موكيد’ لتدمير سلاح الجو المصري في قواعده، اعدها وايزمن ونفذها هود، القائد الذي رشحه وايزمن لخلافته. وايزمن، عظيم أنبياء القوة الجوية في ضوء قيادة سياسية وعسكرية شكاكة، كان مثل موسى على جبل نابو. وبالمقابل من هيئة الاركان، نظر الى مواصلي دربه ينفذون رؤياه.
لم تكن الضربة الاولى اختراعا اسرائيليا. وفي العام 1967 كانت مفاجئة بالذات لان نجاعتها ثبتت في حروب سابقة. ولكن نجاح ‘موكيد’ خلق وهما بان سلاح الجو الاسرائيلي كلي القدرة ودفع الجيوش العربية واسيادهم السوفييت الى اعداد حلول لذلك.
‘الغاية الفورية من خطط سلاح الجو للهجوم على المطارات العربية كانت منع تدمير سلاح الجو نفسه. فقد اراد وايزمن ان يعمل لغيره بالضبط ما كان يكرهه. في تموز 1962 اوصى وايزمن ‘باستباق العلاج للضربة، ومهاجمة العدو أولا’، لان الطلعة الاولى ‘هي مرحلة القتال في الجو التي تقرر ويحتمل التي تحسم. هدفنا ومن جهة اخرى هدف العدو ان نوجه في هذه الطلعة كامل الضربة على مطارات وطائرات العدو، على الارض’. وفي الحالة الخطيرة شرح بانه في ‘مبادرة العدو للهجوم، حين يكون المهاجم أولا، من شأنهم (العرب) أن يلحقوا ضررا جما بالطائرات والمسارات’.
‘لقد كانت لسلاح الجو ثلاث قواعد طيران فقط رمات دافيد، حتسور وتل نوف. واحد استنتاجات البحث في تعرض السلاح لهجوم العدو دفع الى اقامة مطار رابع، حتساريم. الاستنتاج الهجومي الذي ورثه وايزمن من سلفه دان تلكوفسكي ولكن باشرافه تطور الى قاعدة كاملة، كان الاهمية العليا للضربة الاولى. وقد تحققت التوقعات وحقق سلاح الجو تفوقا مطلقا في الساعات الاولى من الحرب، منح الجبهة الداخلية العسكرية والمدنية لاسرائيل حصانة شبه تامة من الاصابة واتاح للقوات البرية تحقيق انجازات على الارض، بالتوازي أو بالتدريج في الجبهات الثلاثة في غضون ستة ايام. غير أن ‘موكيد’ لم تصبح سابقة. ففي اعقاب الضربة الاولى في 5 حزيران 1967 فرض على اسرائيل حظر (فرنسي وفي البداية امريكي ايضا). في الازمات التالية، كان الخوف من رد من القوى العظمى للاعتبار الاساس لرئيسي الوزراء، غولدا مائير في تشرين الاول 1973 واسحق شمير في كانون الثاني 1991 في رفضهما اقرار ضربة جوية اولى. في حرب لبنان انتظرت اسرائيل أربعة ايام حتى هاجم سلاح الجو منظومة صواريخ ارض جو السورية. وكان النجاح، في المعارك الجوية ايضا كاملا وساعد في اعادة بناء المكانة الجريحة للسلاح من حرب يوم الغفران. ولكن في الساحة السياسية، المقررة، انتصر حافظ الاسد.
‘منذ حزيران 1982 لم تشارك اسرائيل في حروب ضد جيوش عربية، بل فقط ضد منظمات، ومنذ تشرين الثاني 1985 لم يعلق سلاح الجو في معارك مع طائرات العدو. وفي العقود الاخيرة، بلا ‘موكيد’ اخرى، ولد نوعان من ‘الموكيديين’ الهجوم المفاجيء على المنشآت النووية (العراق 1991 وسوريا 2007) والاحباطات المركزية. غير أن ‘موكيد’ كانت خطوة بدء في معركة كبرى، برية في اساسها، أما الهجمات على المنشآت النووية قرب بغداد، وفي شرق سوريا، بقيت بلا رد وتواصل. ومشاركة سلاح الجو قتل نشطاء الارهاب اللبنانيين والفلسطينيين كان اغتيالا جويا. حسب راحة المخططين الذين فضلوه على الاغتيالات الاكثر أرضية.
‘كما ان الهجوم على صواريخ لحزب الله، حماس والجهاد الاسلامي الفلسطيني، في لبنان في 2006 وفي غزة في 2008 ومرة اخرى في العام الماضي ليس طموحا كـ ‘موكيد’. فللمنظمات الاف وعشرات الاف الوسائل القتالية الصاروخية. والضربة الاولى لسلاح الجو، مهما كانت منسقة ودقيقة ستقضي في اقصى الاحوال على مئات منها. ومع ان هذا سيوفر ضربة نوعية لقواعد السلاح، اهداف البنى التحتية ومراكز الحكم، ولكن بثمن نزع المبرر اللازم لاسرائيل في المعركة السياسية. والمعنى هو أنه مطلوب استفزاز معادٍ عملية، اختطاف تشكل تحديا قبل الرد الاسرائيلي والعملية الجوية التي تأتي في اعقابها لن تكون، من حيث التعريف، ضربة اولى.
نوركين، كرئيس شعبة العمليات في سلاح الجو في 2006، اشرف على تخطيط حملة ‘مشكال سيجولي’ (وزن دقيق) لتدمير الصواريخ بعيدة المدى لحزب الله، على اساس تجربته في حينه وفي حملات معقدة اخرى كتب في بحث في موضوع ‘تأثير ثورة المعلومات على مبنى القيادة والتحكم في القوى الجوية’. وبدا تعبير ‘الصمت المطبق’ الذي تأثر بخطة ‘موكيد’ بدا قديما في عهد تكنولوجيا نقل المعطيات في الشبكات. وسعى نوركين الى تحديث ثلاثة اهداف قيادة العمليات في سلاح الجو الاستخبارات، التخطيط والتحكم في ضوء مهامه المختلفة، مثلا الهجوم على المطارات، الهجوم على وسائل اطلاق الصواريخ المتحركة والاحباطات المركزة.
ويمكن أن نضيف الى هذا ايضا قيادة حملة قوة منقولة جوا في العمق، مثل استخدام وحدة سييرت متكال وشلداغ في حملة ‘حاد فيحلاك’ (حاد وسلس) في بعلبك في 2006 من موقع القيادة في سلاح الجو. هذا النوع من الحملات من شأنه أن يحتك بقيادة العمق التي اقيمت في الجيش الاسرائيلي قبل سنتين. وحل محتمل لتقليص الاحتكاك سيكون ترفيع عميد من سلاح الجو ليكون قائد العمق.
” عندما تحدث بن غوريون والقيادة العسكرية في الخمسينيات عن نقل المعركة الى ارض العدو، كانوا يقصدون الدول المجاورة لاسرائيل والتي يمكن الوصول اليها بالسفر، اذا كان يراد البقاء فيها لزمن طويل. اما بالنسبة للدول البعيدة، مثل العراق وايران، فيمكن فقط الامل في العودة الى الديار بسلام. فاذا كانت مصر ترفض العودة الى عادتها الحربية، وسوريا مشغولة بشؤونها وباراك اوباما يسلب من بنيامين نتنياهو ايران، فقد انقضى عصر الضربة الاولى. هذا لا يعني اعفاءً من الاعداد للضربة الثانية التي يساهم وجودها في ردع العدو عن الضربة الاولى. ومن الافضل ايضا الاستباق وتوجيه ضربة سياسية، مبادرة سلام. ليس صدفة أن وايزمن اياه، محرك ‘موكيد’ كان من اوائل من فهموا اهمية مبادرة السادات في تشرين الثاني 1977، للعمل في سبيل السلام مع عناصر امنية ومعارضة المستوطنات والحروب التي يمكن تفاديها من اجل التمسك بالمناطق.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
هل حقا نشهد ولادة نظام اقليمي جديد؟
بقلم:تسفي مغين،عن نظرة عليا
أجرى رئيس الوزراء نتنياهو مؤخرا زيارة الى روسيا والتقى بالرئيس بوتين. كان هذا لقاءا هاما وذا معنى لا بأس به في المواضيع المتعلقة بالساحة الدولية. وكما هو متوقع، فان الموضوع الايراني كان الموضوع المركزي الذي بُحث في اللقاء، ولكن لا يزال من السابق لأوانه استخلاص الاستنتاجات بشأن النتائج العملية لهذا اللقاء.
لقد جاءت هذه الزيارة على خلفية التطورات في الشرق الاوسط، الجارية منذ الأحداث حول سوريا وايران. وفي اطارها تبدو واضحة جهود التقرب التي تقوم بها روسيا لسلسلة من الدول في المنطقة التي كانت حتى وقت أخير مضى توجد معها على علاقات متوترة بما فيها السعودية، مصر، العراق، الاردن والآن اسرائيل ايضا. هذا الميل ليس جديدا في سياسة روسيا، التي حظيت حتى وقت أخير مضى باستجابة محدودة فقط لمغازلاتها لهذه الدول. يبدو أن الآن ستنقلب الامور رأسا على عقب، الحقيقة ذات الآثار على تصميم النظام الاقليمي المستقبلي.
روسيا، التي تتنافس على مكانة نفوذ في المنطقة، تُبدي مؤخرا تواجدا فاعلا في معظم السياقات الاقليمية، عقب بث ثقة بالنفس حيال الولايات المتحدة. وذلك بعد فترة من عدم الاستقرار شهدتها على مدى أحداث الربيع العربي التي شطبت معظم ذخائرها في المنطقة ودفعتها الى الزاوية، الى جانب شركائها في الكتلة المتطرفة ايران، سوريا وحزب الله. ومن خلال الاستغلال الناجع جدا للحرب الأهلية في سوريا، نجحت موسكو في تثبيت خط الكبح الاقليمي لديها، في ظل احتواء جزئي للضغوط من جانب منظومة الدول السنية، التي عملت ضدها باسناد غربي. وكانت الذروة في هذا الحدث الاقليمي هي مناورة روسية ناجعة في موضوع السلاح الكيميائي السوري، والتي خلقت امكانية لحماية نظام الاسد والمحور الراديكالي، حاليا على الأقل، جراء رفع مستوى مكانة روسيا في الساحة الدولية، على حساب صورة الولايات المتحدة.
إن نجاحات روسيا في الشرق الاوسط، كانت حتى وقت أخير مضى متواضعة نسبيا. ويبدو أن عمليا، في معظم المسائل التي تجتذب انتباه الساحة الدولية، تضع روسيا نفسها خارج اللعب. هكذا ايضا في المسيرة السلمية في القناة الاسرائيلية الفلسطينية وكذا في الموضوع الايراني. وتُعرض الانعطافة الايرانية نحو الولايات المتحدة للخطر وجود المحور الراديكالي المناهض للغرب، العامل باسناد من روسيا. ولكن تنقلب الامور رأسا على عقب مؤخرا حيث أدت الأحداث في الجبهتين السورية والايرانية الى تغيير في توجه بعض من اللاعبين الاقليميين، الذين يشعرون بأنهم يتعرضون للخيانة والتهديد من جانب سلوك الولايات المتحدة الاقليمي. ومنذئذ تجري سياقات، سواء بمبادرة روسيا، التي ترى منذ بداية الربيع العربي مثل هذه الفرص، أم بمبادرة دول مختلفة في الشرق الاوسط. وقد وجدت خيبة أمل هذه الدول تعبيرها ضمن امور اخرى في محاولات جس النبض مع روسيا، التي تستغلها الأخيرة جيدا لاستئناف الحوار الذي ضيعته في عصر التقلبات، وثمة من يرى في هذه التغييرات آثارا بوسعها أن تؤثر على تصميم النظام الاقليمي المستقبلي.
وفي اطار ذلك يمكن الاشارة الى سلسلة تطورات في اتجاه تعاون روسيا مع دول الشرق الاوسط. الانعطافة البارزة تتم مؤخرا في علاقات روسيا مصر. ففي الاسابيع الاخيرة تبدو واضحة حركة وفود مختلفة، وعلى رأسها زيارة وزيري الدفاع والخارجية الروسيين، الى جانب جهات أمن واستخبارات رفيعة المستوى، كما يدور الحديث عن زيارة محتملة للرئيس بوتين الى مصر. كما نشر أنه يجري الاعداد لصفقة مشتريات كبرى مع مصر، تمولها جزئيا السعودية.
إن علاقات روسيا مع السعودية تغيرت هي الاخرى. فحتى وقت أخير مضى ساد توتر بين الدولتين على خلفية كون روسيا، الداعمة الأساس للمحور الشيعي ونظام الاسد بينما السعودية تعمل كثيرا ضد المصالح الروسية في المنطقة وخارجها. ولكن الميل الامريكي الجديد في الموضوع السوري والايراني يدفع السعودية ايضا الى البحث عن شركاء جدد لتوازن علاقاتها الخارجية. وكنتيجة لذلك تبدو واضحة في الاشهر الاخيرة انعطافة في العلاقات بين الدولتين. في هذا الاطار زار موسكو الأمير بندر بن سلطان، للبحث في تعاون أمني وكذا في نية الدفع الى الأمام بالأهداف السعودية في الموضوع السوري.
في هذه القائمة يمكن أن نُدخل ايضا العراق والاردن. فالعراق الذي هو حليف قديم لروسيا، يوثق علاقاته معها، منذ خروج الامريكيين من اراضيه، بما في ذلك في المجال الامني (فقد اتُفق على صفقة سلاح كبرى، وإن لم تخرج الى حيز التنفيذ بسبب ضغوط مختلفة)، وفي المجال الاقتصادي، حيث تجري في العراق نشاطات تجارية روسية واسعة النطاق. والاردن هو الآخر استجاب مؤخرا للمغازلات الروسية. هذه المرة يدور الحديث عن صفقة لشراء مفاعل نووي روسي. وبين الدولتين تُبحث جوانب مختلفة من مظاهر التعاون الاخرى بما فيها الامنية. ومؤخرا يدور الحديث ايضا عن زيارة قريبة للملك عبد الله الى روسيا.
وينبغي أن تضاف الى هذه القائمة الآن اسرائيل ايضا، التي توجد في منظومة علاقات طويلة مع روسيا التي ترى فيها لاعبا اقليميا هاما، وإن كانت العلاقات تتأثر في احيان كثيرة بآثار المصالح الروسية الاقليمية.
اسرائيل الساعية الى الفرص لتحقيق أهدافها في الساحة الدولية، مع التشديد على الموضوع الايراني، تبدو الآن في نظر موسكو كجهة جديرة بتوسيع التعاون معها. وذلك بهدف إظهار المكانة المتعاظمة لروسيا كلاعب يصبح ذا نفوذ اقليمي مسيطر عندما يكون للتعاون مع اسرائيل كجهة اقليمية مؤثرة وحليفة للولايات المتحدة وزن كبير في هذا الاعتبار.
وفضلا عن ذلك، فان روسيا معنية بترميم مكانتها حيال ايران، التي تضررت عقب اجتياز هذه للخطوط نحو الغرب، الامر الذي ستعمل روسيا على تحقيقه من خلال الدفع الى الأمام بمبادرة جسر خاصة بها. ونجاح هذه الأخيرة لا بد سيمنح موسكو انجازا مناسبا مثل الانجاز الذي تحقق في الحالة السورية.
ولاجمال هذه الصورة الجزئية يمكن القول إن الحديث يدور عن زخم فعل سياسي روسي واضح ومتفرع. والسؤال هو هل في ضوء الظروف الجديدة في المنطقة ستعطي هذه الجهود نتائج حقيقية. يبدو أن القاسم المشترك لدول المنطقة، التي تغازل روسيا، نشأ على خلفية ما يعتبر كصعود لقوة ايران، كتحصيل حاصل للتغيير في السياسة الامريكية، الى جانب احساس الضعف الذي تبثه قيادتها. ولكن يبدو أن المغازلة لروسيا التي تأتي نتيجة لذلك، مؤقتة وتعكس ارادة هذه الدول للتأثير على سياسة الولايات المتحدة بالذات أكثر مما للافادة من الفرص التي تمنحها روسيا في المقابل. واضح أن روسيا لا يمكنها ولا تدعي أن تشكل بديلا عن الولايات المتحدة، وإن كانت العلاقة معها هامة بحد ذاتها، لتوازن علاقاتها الخارجية، مع الافتراض بأن الحوار مع الروس سيؤدي بالولايات المتحدة الى التراجع عن سياستها.
من الجهة الاخرى، واضح أن الولايات المتحدة، التي بهتت صورتها مؤخرا، لن تتخلى عن مكانتها المسيطرة في الشرق الاوسط وستعمل على عدم السماح لروسيا بموطيء قدم ثقيل في المنطقة. يبدو أن السياسة الحالية للرئيس الايراني ليست تغييرا للميل بل خطوة لتوسيع نفوذها على عموم اللاعبين الاقليميين، وإن كان مؤقتا، على حساب مصالح قسم منها.
ومع ذلك، فان هذا السياق لمساعي التقارب الروسية، وإن كانت لن تغير جوهريا خريطة المحاور السياسية في المنطقة ونتائجها لا تزال غامضة، إلا أن فيها ما يمنح انجازات هامة لروسيا. فمجرد الاتصالات وبوادر التعاون، وإن كانت محدودة في واقع تكون فيه المنظومة المناهضة للغرب التي أقامتها روسيا في الماضي توجد في مسيرة تبدد بوسعها أن تساهم في ترسيخها مستقبلا كلاعب مؤثر في المنطقة.
بالنسبة لزيارة رئيس الوزراء نتنياهو، فمن ناحية الطرف الروسي استُغلت لنقل رسالة اخرى الى الساحة الدولية بشأن مكانة روسيا المتعاظمة. يبدو معقولا أن هذه استُغلت ايضا لفحص جدوى مبادرات روسية محتملة في الموضوع الايراني. ومن ناحية اسرائيل ايضا شكلت الزيارة فرصة للتعبير عن الأهمية التي توليها لتوازن علاقاتها الخارجية، اضافة الى نفوذها في طرح رسائلها في المسألة الايرانية، على افتراض أن روسيا لا تزال تمسك بروافع التأثير في هذا الموضوع. أما المواضيع الثنائية، التي طُرحت في هذه الزيارة، فليست جديدة ولكنها حيوية لتثبيت وتوسيع المنظومة القائمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
انقضاء العصر الامريكي بعد اتفاق جنيف
بقلم:البروفيسور ابراهام بن تسفي،عن اسرائيل اليوم
في 12 ايلول 1946 وقع شيء في تاريخ الولايات المتحدة السياسي. ففي ذلك اليوم في خطبة مهمة خطبها هنري والاس وزير التجارة في ادارة الرئيس هاري ترومان في قصر الرياضة الاسطوري في نيويورك (ميديسون سكواير غاردن) فصل نفسه عن التيار المركزي في التفكير الامريكي المعاصر له. وهو التيار الذي تشكل على أثر الهجوم الياباني على بيرل هاربر الذي فاجأ الأمة الامريكية الوادعة في 7 كانون الاول 1941، وافتتح عصرا جديدا من التدخل العسكري والسياسي المتزايد من قبل القوة العظمى في كل أجزاء ومناطق المنظومة الدولية، وذلك لضمان عدم الاخلال بتوازن القوى الدولي ولتنجح الولايات المتحدة في مهمتها لاحباط كل محاولة لضعضعة أسس النظام العالمي الذي نشأ وتم تشكيله بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
في خطبة والاس اعترض بقوة على فرض أن العم سام يفترض أن يحمل على كاهله عبء مواجهة تحديات وأخطار في كل مكان، وأن يمنح في الوقت نفسه الحلفاء مساعدة ودعما وإلهاما. وكان القصد خصوصا الى دول صغيرة وجدت نفسها مُعرضة لتهديدات مباشرة أو غير مباشرة.
وحل محل مبدأ الصد لكل محاولة لضعضعة الاستقرار ولا سيما في مناطق عُرفت بأنها حيوية من جهة عسكرية أو سياسية لأمن الولايات المتحدة وشريكاتها وراء البحر ورفاهها، حل محل ذلك في خطبة ‘ميديسون سكواير غاردن’ توجه الحد الأدنى المتمايز. وضاءل هذا التوجه مضاءلة شديدة المقدار المشروع من التدخل الامريكي وراء البحار في الفترة التي تلت انقضاء الحرب.
رأى والاس أنه يجب على الادارة أن تحصر العناية في حماية الوطن وتعزيز مكانة الولايات المتحدة في ساحتها الخلفية بهدي من ‘مبدأ مونرو’ في 1823 لا غير وذلك مع الامتناع عن خطوات صد أو عقاب ما بازاء جهود الاتحاد السوفييتي والدول التابعة له لتغيير الوضع الراهن على الارض. ومع ذلك تحفظ والاس على كلامه وقرر أن هذا التوجه سيتغير اذا وجد تهديد ملموس لأمن الولايات المتحدة ومصالح امريكية حيوية.
برغم فصاحة الخطبة وبرغم أنها أرسلت رسالة عبرت في ظاهر الامر عن شعور بالتعب والاستنفاد لدى الجمهور الامريكي بعد سنوات من الحرب والتضحية، تبين في غضون ايام قليلة أن دعوة والاس لم تحظ بصدى ودعم حقيقي في الساحة السياسية الداخلية، فان فكرة الانطواء في داخل الفضاء الامريكي والعودة في آلة الزمن الى عصر التمايز في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لم تكن آسرة.
وليس ذلك فقط. فقد بقي الرئيس ترومان مصمما على منع انهيار نظامي الحكم المواليين للغرب في اليونان وتركيا (بواسطة ‘مبدأ ترومان’ في آذار 1947، الذي منح هاتين الدولتين مساعدة عسكرية)، بل إنه عمل في موازاة ذلك على صوغ ‘خطة مارشال’ الطموحة، لاعادة البناء الاقتصادي لغرب اوروبا.
وفيما يتعلق بوالاس نفسه لم يكد يمر ثمانية ايام فقط منذ علا منبر الخطباء في ميديسون سكواير غاردن حتى اضطر وزير التجارة الذائع الصيت الى استقالته من منصبه وترك سريعا صفوف الحزب الديمقراطي. وانتهت محاولته تحدي ترومان في انتخابات الرئاسة في 1948 من جهة اليسار مرشحا عن ‘الحزب التقدمي’، انتهت الى فشل ذريع حينما فاز بـ 2.4 بالمئة فقط من مجموع اصوات الناخبين.
بعد هذا المشهد بـ 67 سنة، يبدو أن جهود وزير التجارة والاس لاقناع الرأي العام والادارة بالتخلي عن المسؤولية عن مصير الحلفاء والسير في سبيل الانسحاب والانطواء في داخل امريكا، تحظى الآن بالتجديد وبأذن صاغية في البيت الابيض.
فسلوك الرئيس الحالي باراك اوباما في الشهرين الاخيرين في السياقين السوري والايراني يشهد على أنه يتجه الى تحقيق حلم والاس التمايزي، في واقع الامر.
إن امبراطورية ستالين الشمولية (التي أصبحت في 1949 قوة ذرية كبرى) تحل محلها طهران الثورية التي تحظى باليد الممدودة لتصالح تاريخي، هي يد اوباما. وبقيت ايران دولة على الحافة الذرية حتى بعد ‘اتفاق جنيف’ مع تمتعها بضعف نظام العقوبات الاقتصادية الشاملة التي صيغت ونُفذت بجهد كبير.
إن رغبة والاس التي لم تترجم الى اجراءات سياسية ما في عصر الحرب الباردة، أصبحت تتشكل في هذه الايام. وتستطيع أن تغير من الأساس بنية النظام الدولي المعاصر وتوزيع القوة بين أجزائه المركزية.
ويصح ذلك خصوصا على الطائفة الاخيرة من القرارات الرئاسية التي تشهد على تعب المادة وعلى عدم استعداد الولايات المتحدة للاستمرار في تشكيل المحيط العالمي باعتبارها القوة العظمى المهيمنة.
إن خيط ارتباط يربط الحرب الأهلية في ليبيا (التي ‘قادت’ الولايات المتحدة فيها المعركة من الخلف) مرورا بالضربة التي لم توجه الى نظام بشار الاسد بعد أن قتل أبناء شعبه بسلاح كيميائي (وتجاوز بذلك جميع الخطوط الحمراء التي حددها اوباما قبل ذلك) وانتهاءا الى الطموح المتقد الى التوصل الى الاتفاق المرحلي مع ايران ولتكن شروطه وعناصره ما كانت. وكل هذه الاجراءات ومثلها طائفة كاملة من القرارات والاعمال التي سبقتها، اشتُقت من مجموعة اعتقادات والاس تلك في 1946 وفي مركزها الخشية من مواجهة التحديات. وإن الشوق اليائس الى ملجأ واستراحة من تعب الحياة والالتزامات الدولية بالهرب المذعور الى داخل البيت، واضح لا ضابط له.
إن اوباما الذي منح التفضيل والتقديم من البدء لقضايا في مجال الاقتصاد والرفاه والاجتماع، والذي أراد قبل كل شيء أن يفصل نفسه عن تراث سلفه جورج بوش القتالي، بلغ الآن الى المرحلة الاخيرة في السباق لتحقيق مجموعة اعتقاداته، لأنه سيصبح في غضون سنة بطة عرجاء غير فعالة (قُبيل بدء الحملة الانتخابية للرئاسة في 2016 حينما سيُنتخب خلف له).
إن حقيقة أن الولايات المتحدة تقترب اليوم بخطوات واسعة الى استقلال طاقة دون أن تكون خاضعة بعد الآن لفضل ملوك وأمراء الخليج، هي باعث آخر لاوباما على تعجيل مسار انفصال الولايات المتحدة من طرف واحد عن منطقة الشرق الاوسط. وهو هاديء ويعلم أن هذا العمل سيتم دون أن يضر ذلك ضررا شديدا بمصالح اقتصادية حيوية.
‘ تمايز وتدخل
اذا كانت تقصيرات واشنطن في الازمة السورية الاخيرة قد أعادت رئيس روسيا فلادمير بوتين الى مركز مسرح الشرق الاوسط، وأسهمت بذلك في جعله وسيطا أعلى عظيم التأثير، فان النتائج المباشرة للازمة الذرية قد تكون تحسين منزلة ايران وتأثيرها. واذا حدث ذلك وحينما يحدث فسيكون على حساب المحور الموالي للغرب في المنطقة ولا سيما في منطقة الخليج.
توجد مفارقة ساخرة غير قليلة كامنة في حقيقة أن اوباما في بدء طريقه في البيت الابيض هو الذي أراد أن يُنشيء حلفا سنيا واسعا مُشكلا يضمن استقرار المنطقة في مواجهة التهديد الايراني، على أثر إتمام الانسحاب الامريكي الذي كان متوقعا من الجبهة العراقية. واليوم بعد بدء تلك المبادرة بخمس سنوات اختفت وصمتت وحل محلها المراودة المصيرية للرئيس حسن روحاني التي أثمرت ‘اتفاق جنيف’ الذي أفضى الى امتعاض الملك السعودي وشركائه وخيبة أملهم في جبهة الخليج وفي القاهرة ايضا.
لا ينبغي بالطبع أن نستنتج من كل ما قيل آنفا أن كل عمليات الولايات المتحدة الاستراتيجية والعسكرية منذ نشأ الواقع ذو القطبين، كانت ناجحة وفعالة. فقد اخطأت ادارة ترومان مثلا خطأ شديدا حينما استقر رأيها على توسيع الحرب في كوريا وأدت باخفاقاتها الى تدخل كارثي للصين الشيوعية في المعركة. وتحولت الحرب المتصاعدة في فيتنام ايضا الى مأساة امريكية أحدثت انقساما اجتماعيا عميقا وانشأت صدمة لم تزل الى الآن زوالا كاملا من الذاكرة الجماعية.
ويُقال الشيء نفسه ايضا فيما يتعلق بحرب العراق الثانية التي نشبت في 2003 وأدت بادارة بوش الابن الى طريق بلا مخرج. ومع ذلك وبرغم الاخفاقات غير القليلة التي صاحبت مسيرة التدخل والمشاركة الامريكية كالظل القاتم، ينبغي ألا نتجاهل النتائج المباركة الكثيرة التي نشأت على أثر تحولها الى قوة عظمى فعالة.
في حين فضلت امريكا المتمايزة في فترة العقدين اللذين فصلا الحربين العالميتين بعضهما عن بعض، أن تجلس على الجدار وتراقب تزايد قوة المانيا النازية، اختلف الامر بعد أن بلغ كابوس ‘الرايخ الذي عمره ألف سنة’ الى نهايته.
منذ أن صمتت المدافع في 1945 الى فترة ولاية اوباما الثانية، أدى غوليفر الامريكي دورا حيويا حاسما لا في اعادة بناء اوروبا المحطمة الاقتصادية (خطة مارشال في حزيران 1947 كما قلنا آنفا) بل في استقرار النظام الدولي في مواجهة جملة التحديات التي اعترضته.
فعلى سبيل المثال نجح القطار الجوي الذي نظمه ترومان في صيف 1948 (ورئيس الوزراء البريطاني كليمنت آتلي)، في أن ينقل الى غرب برلين المحاصر مددا ضروريا مدة سنة، وفي الايحاء بصورة التصميم والالتزام للدفاع عن الجيب الغربي في داخل المنطقة المحتلة السوفييتية.
وبعد ذلك بـ 13 سنة عمل الرئيس جون كنيدي هو ايضا بصرامة وبلا هوادة ليضمن عدم تعريض مكانة الغرب في برلين للخطر وذلك بعد انشاء السور في المنطقة المحتلة الشرقية. وقد أرسل كنيدي لتلك الغاية قوة مقاتلة من المانيا الغربية الى برلين الغربية.
والى ذلك، استعملت ادارات الولايات المتحدة الى جانب الوقوف مع شريكات في ازمة وفي اوقات ازمة، طائفة واسعة من الوسائل الاقتصادية والتقنية المتنوعة كانت ترمي الى التأثير في النسيج الاجتماعي وتشجيع مسارات النمو والتحديث والانتقال الى اقتصاد السوق، في أجزاء واسعة من العالم الثالث. وهكذا حملوا معهم بشرى التكنولوجيا الامريكية الى مناطق آسيا والشرق الاوسط وافريقيا وامريكا اللاتينية. ففي مطلع ستينيات القرن الماضي مثلا زاد الرئيس كنيدي جدا ما أُرسل من الفوائض الزراعية في اطار خطة ‘غذاء لأجل السلام’. وانشأ سلاح السلام الذي أُرسل في اطاره متطوعون الى مراكز فقر وعُسر في أنحاء العالم الثالث لمنح خدمات تربية ومساعدة تقنية.
حتى لو كان بعض هذه المبادرات قد رمى الى الدفع قدما بأهداف سياسية واستراتيجية واضحة، فانه ينبغي عدم التقليل من أهميتها وقيمتها الاقتصادية والاجتماعية. ويبدو اليوم في مقابل ذلك بسبب روح التمايز التي تهب من البيت الابيض أنه يمكن القضاء على العصر الذي أدت فيه ادارات الولايات المتحدة دورا مركزيا جدا في اعادة البناء الاقتصادي للمحيط الدولي.
””” يُخلون المكان
قلنا من قبل إن حلم وزير التجارة والاس المنسي أخذ يتحقق أمام أعيننا وإن لم يكن ذلك في سياقه الأصلي. فقد حلت الآن محل الولايات المتحدة بصفتها القوة العظمى ورأس الهرم العالمي، ولايات متحدة مختلفة. فهي كيان جديد أصبح منذ 2009 أكثر إنكارا لواجب قيادته ورسمه بوضوح للخطوط الحمراء التي يفترض أن تفصل بين ما يحل وما لا يحل.
وهكذا نشهد ايضا الحرص على اسلوب عمل متعدد الأطراف في سياسة اوباما الخارجية والامنية مع امتناع عن اجراءات من طرف واحد كانت تميز سلوك الولايات المتحدة في اثناء ولايات أكثر رؤسائها. وحل محلها اسلوب عُبر عنه فيما يتعلق بالحرب الأهلية في ليبيا وبالازمة الذرية الايرانية.
إن هذا الحرص الزائد على العمل في داخل اطار متعدد الأطراف (فيه ما يضائل مجال الحيلة الامريكي)، والمصحوب بخوف عميق من ‘تورط’ آخر كما كان في فيتنام أو العراق أو افغانستان، جعل العملاق الامريكي نمرا من ورق، ولم يكن ذلك لضرورة وإنما لتعب ولضعف الرأي.
وهكذا فُتح الباب لقوى ولاعبات اخرى كروسيا التي فقدت قبل عقدين فقط أكثر ممتلكاتها وهي تستطيع الآن أن تعود لتدخل ميدان القوى العظمى مطالبة بالتاج. وصيغ من جديد في الوقت نفسه التفكير المبدئي الرسمي الذي يحصر العناية الآن بصورة حصرية تقريبا في التحدي الصيني باعتباره مصدر تهديد في المستقبل لأمن الولايات المتحدة (ويوجب إظهار قوة ميدانية). وفي مقابل ذلك تضائل الولايات المتحدة من قيمة مراكز خطر محتملة اخرى.
والنتيجة المجتمعة من هذه الأمزجة العامة وخطوط السياسة المشتقة منها تشير اذا الى نهاية العصر الامريكي والى تحقق حلم هنري والاس في الواقع الحالي. والحديث بالطبع عن مسار مقلق يثير الخوف. إن الفراغ الذي نشأ قد يفضي الى زيادة قوة قوى لا تهديها قيم الديمقراطية والاستقرار. وقد تضعف ايضا قوانين اللعبة الدولية التي صيغت وشُكلت بوحي من الهيمنة الامريكية حينما كانت في ذروة قوتها. ويحتمل لذلك أن تتسع هوامش الغموض وعدم اليقين التي هي غير واضحة أصلا وتغلف المنظومة كلها.
قبل نحو من مئة سنة جرى على الولايات المتحدة تحول مصيري من قطب التدخل العسكري في الحرب العالمية الاولى (وهي التي رفعت راية انشاء نظام جديد وديمقراطي في اوروبا) الى قطب الانطواء والتمايز الذي عبر عن خيبة أمل الأمة واحباطها بسبب تحطم الحلم على ارض الواقع العصي.
‘ ويُسأل الآن هل سينشأ عن الحركة الحالية للرقاص من قطب التدخل حيث كان يقف منذ تحولت الولايات المتحدة الى القوة العظمى الى قطب التمايز، نتيجة مدمرة هذه المرة؟ وهل ستسترجع ذكرى الماضي وبخاصة حقيقة أنها أنكرت ضرورة الوقوف الى جانب شريكاتها الاوروبيات في مواجهة العاصفة التي هددت باسقاط النظام القائم؟ وهل ستستجيب للتحدي حينما تتعرض لتهديد ملموس فقط؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ


رد مع اقتباس